أمريكا بين إطلاق النار على السود وقانون زواج المثليين

■ يوم الجمعة الماضي كان الرئيس الأمريكي باراك أوباما يؤبن الضحايا التسعة الذين قتلهم شاب أبيض اسمه دايلون رووف (21 عاما) يوم الأربعاء 17 يونيو، وهم يصلون في كنيسة يتردد عليها السود في مدينة شارلستون بولاية كارولاينا الجنوبية. على الطريقة الداعشية دخل الشاب الأبيض المشبع بالعنصرية الكنيسة، وكأنه مصل مثلهم، فسحب سلاحه وبدأ يقتل المصلين الواحد تلو الآخر بمن فيهم الراهب راعي الكنيسة وعجوز في السابعة والثمانين من العمر، وسمح لفتاة شابة فقط أن تخرج حية لتلبغ القصة كما قال لها. عبأ مخزن مسدسه خمس مرات وهو يصرخ في السود: تغتصبون نساءنا وتسيطرون على بلدنا.
في يوم جنازة الضحايا نفسه اجتمعت المحكمة العليا وأقرت بغالبية خمسة أصوات مقابل أربعة قانونية زواج المثليين في كل البلاد، بعد أن كان الأمر متروكا للولاية. كان زواج المثليين مسموحا به في 36 ولاية من أصل 50. وبعد هذا التصويت يصبح الزواج من الجنس نفسه مسموحا به في البلاد كلها بدون إستثناء. ورغم قرار المحكمة العليا ما زالت ولايات تكساس ومسيسيبي ولويزيانا وأوكلاهوما وغيرها تقاوم هذا القانون بدون جدوى. حادثتان تعكسان حالة من الانشطار تعيشه الولايات المتحدة حاليا، وكأن فيها شعبين منقسمين طولا وعرضا. وهذا الانشطار في طريقه إلى الاتساع، خاصة إذا كان الرئيس القادم امرأة.
تغيرت أمريكا كثيرا في ربع القرن الأخير. جيل الإنترنت وأبناء المهاجرين والنساء العاملات المهنيات أصبحوا قوة حقيقية في هذه البلاد. أمريكا اليوم تتضح فيها حقيقتان تعكسان وضعها الجديد، خاصة بعد نجاح أوباما في انتخابات 2008: فئة من البيض العنصريين تريد أن تحمي أمريكا الماضي للعرق الأبيض النقي، ولا تسمح للغرباء أو الأقليات أن يكون لهم دور فيها، وعلى استعداد أن تحمي رؤيتها العنصرية حتى لو بقوة السلاح. أما الصورة الثانية فتشير إلى أن غالبية الشعب الأمريكي لم يعد يعطي أهمية للون أو الجنس أو العرق أو الميول الجنسية، وما يهمه كفاءة الإنسان فقط. فئة لا تبحث عن حروب ولا إقصاء ولا تمييز. لهذه المجموعات أمريكا هي الحاضر والمستقبل بلد الفرص كل يجني ثمرة تعبه وكده وعلمه، ويأخذ الدور الذي يستحق بصرف النظر عن أصله وفصله ولون بشرته وعلاقته مع الرب أو من هو شريك حياته. هاتان الصورتان تتباعدان أكثر مع كل يوم وقد يؤدي هذا التباعد يوما إلى الانشطار العمودي بين ما يسمى هنا أمريكا الزرقاء (من مؤيدي الحزب الديمقراطي والأقليات والليبراليين، وخاصة في الولايات الشمالية الصناعية مثل نيويورك وكاليفورنيا وميتشغان وإلينوي) وأمريكا الحمراء (من مؤيدي الحزب الجمهوري والمحافظين والنخبويين، خاصة في الولايات الجنوبية مثل تكساس ولويزيانا ونيوكسيكو وأوكلاهوما) فإلى أين تتجه أمريكا؟
أمريكا الزرقاء وأمريكا الحمراء

منذ وصول بل كلينتون البيت الأبيض عام 1992 وانفتاحه الشديد في فترتي رئاسته على السود والمسلمين والمثليين والمرأة والمهاجرين، تغيرت أمريكا وإلى الأبد. في عهد كلينتون بلغت نسبة النساء في وزاراته 44٪ منهن مادلين أولبرايت لأول مرة وزيرة خارجية، والعربية دانا شلالا وزيرة للصحة وجانيت رينو لأول مرة وزيرة للعدلية، كما عين تسعة وزراء سود خلال ثماني سنوات ووزراء من الأقليات، وأرسل لأول مرة مندوبا عنه ليتحدث في مؤتمر المثليين في سان فرنسيسكو. لأول مرة في عهد الرئيس كلينتون تم الاعتراف بالإسلام دينا رسميا إلى جانب المسيحية واليهودية، ورفع الهلال إلى جانب الصليب والمينورا على شجرة عيد الميلاد أمام البيت الأبيض. هذا الانفتاح أرسل إشارة تحذير للمحافظين والعنصريين، فقرروا أن يعيدوا أمريكا إلى أحضانهم عن طريق مرشح المحافظين الجدد جورج بوش الأقل دهاء وذكاء من بين مجموعة الحيتان الكبيرة مثل ديك تشيني وولفووتز وكوندوليزا رايس ودونالد رامسفيلد.
كانت المنافسة في انتخابات عام 2000 على أشدها بين المرشحين الديمقراطي آل غور والجمهوري جورج بوش. وكانت استطلاعات الرأي تؤكد الانقسام النصفي والتساوي في الأصوات وبدأت وسائل الإعلام تظلل الولايات التي صوتت لغور باللون الأزرق وتظلل الولايات التي صوتت لبوش باللون الأحمر. حقيقة خسر بوش الانتخابات العددية وحصل خلاف حول نحو 800 صوت من ولاية فلوريدا التي وصلت من القوات المسلحة متأخرة، وكان يجب ألا تحسب، إلا أن محكمة الولاية التي كان حاكمها جيب بوش، شقيق جورج (أحد المرشحين الآن عن الحزب الجمهوري) أقرت بشرعيتها ظلما كما تبين من بعد، وبالتالي وصل المحافظون إلى الحكم من خلال رئيس ضعيف اختاروه بعناية، ثم جاءت الطامة الكبرى لتوقف الانفتاح الذي بدأه كلينتون وتعزز مواقع المحافظين وهي هجمات 17 سبتمبر الإرهابية عام 2001 التي أعادت البلاد إلى أحضان المحافظين الجدد الحالمين بأمريكا النقية. تحت ذريعة الأمن سنوا قانون المواطنة الأقرب إلى رخصة للتفتيش على قلوب الناس وانتماءاتهم وولاءاتهم، وتم استهداف العرب والمسلمين بشكل خاص والمهاجرين بشكل عام، وتم ترحيل الآلاف واعتقال المئات. أدخل بوش البلاد في حربين مكلفتين في أفغانستان والعراق وأعلن الحرب على الإرهاب في كل العالم تحت حجة حماية الأمن الوطني. اكتشف الشعب الأمريكي بعد ثماني سنوات من حكم المحافظين أن البلاد تنهار اقتصاديا وأن الحروب لم تأت إلا بالمزيد من الجثث والمعاناة، وأن صورة أمريكا في العالم أصبحت قبيحة جدا تخلى أقرب حلفائها عنها. فجاءت انتخابات 2008 لتوجه ضربة مذلة ليس لجون مكين فحسب بل للمحافظين الجدد والعنصريين بشكل عام، خاصة أن رئيسا أسود يجلس الآن في البيت الأبيض. لقد كان انتخاب أوباما بمثابة ثورة حقيقة في الوعي الجماعي للغالبية من الشعب الأمريكي حيث لم يبدأ السود يمارسون حق الانتخاب الشامل إلا قبل 40 سنة فقط.

العنصريون يشحذون أسلحتهم

كان انتخاب أوباما عام 2008 قاصمة الظهر للعنصريين والنخبويين البيض وكبار الأغنياء فحاولوا من اليوم الأول إسقاطه وعرقلة عمله وتهزئته وتعطيل كل مبادرة يقدمها. أكد بعضهم أنه مسلم وآخرون قالوا عنه إنه ماركسي وليبرالي وضعيف الشخصية وكذاب ولا يصلح أن يكون القائد الأعلى للقوات المسلحة. لكنه رغم كل العراقيل تمكن من تحقيق إنجازات كبرى على المستوى الداخلي أهمها: الانسحاب من العراق وأفغانستان، تمرير قانون التأمين الصحي المسمى أوباماكير، أعاد الاقتصاد إلى عافيته الكاملة وانخفضت البطالة في عهده من 10.5 ٪ عام 2008 إلى 5.5٪ الآن، كما أنه مرر قانون الهجرة الذي سمح لأربعة ملايين مهاجر غير شرعي بالبقاء في البلاد، ثم أخيرا وليس آخرا تخلص وإلى الأبد من الاعتماد الأساسي على النفط المستورد.
قام العنصريون بتشكيل الميليشيات المسلحة وحملات الدعاية ضد الأغراب والمهاجرين وأوباماكير، واكتوى المسلمون ومساجدهم ومقراتهم بنصيب الأسد من تلك العنصرية. ومن منا ينسى الراهب تيري جونز الذي أصر على حرق القرآن في العلن؟ وقد لعبت «قناة فوكس نيوز» منبرا محوريا في تجميع هذا التيار وتعبئة الرأي العام ضد أوباما والعرب والمسلمين والأقليات والمثليين. ودعنا نستعرض حادثتين مهمتين إلى جانب مذبحة كنيسة شارلستون يوم الأربعاء 17 يونيو.

الهجوم على معبد للسيخ الهنود

بتاريخ 5 أغسطس 2012 قام ويد مايكل بيج (40 عاما) بالهجوم على معبد للسيخ في مدينة أوك كريك بولاية وسكنسون فقتل ستة وجرح أربعة آخرين، ثم أطلق بيج النار على نفسه. وبيج متقاعد من الجيش الأمريكي ويعتبر من جماعة «البيض العنصريين النخبويين» والنازيين الجدد الذين لا يريدون أغيارا في البلاد. ودلالة على ضيق أفقه كان يعتقد أنه يطلق النار على معبد للمسلمين فهو لا يعرف الفرق بين السيخ والمسلمين أو بين مسجد ومعبد.

مقتل الطلاب الفلسطينيين الثلاثة

يوم الثلاثاء 10 فبراير 2015، قام حاقد أبيض على الأغراب، خاصة المسلمين اسمه كريغ هيكس (46 سنة) باقتحام الشقة على جيرانه الطلاب العرب المتفوقين في مدينة شابل هيل في ولاية كارولاينا الشمالية وأفرغ رصاصاته في رؤوسهم، لأنه لم يكن معجبا بأشكالهم، خاصة منظر الحجاب. الضحايا هم يسر (21 سنة) وزوجها ضياء بركات (23) واختها الصغرى رزان (19). بعد إرداء الثلاثة قام القاتل بكل برود بتسليم نفسه لشرطة شابل هيل مقر الجامعة. لقد أرسل هذا الحادث رسالة لا غموض فيها مفادها أن هناك في هذه البلاد من هو على استعداد أن يفرغ رصاصات مسدسه في رؤوس الأغراب الذين يعتبرهم يهددون النقاء العرقي الأبيض في هذه البلاد.
وكثيرة هي الحوادث التي تشير إلى تنامي العنصرية في هذه البلاد. فكلما اتسع الاتجاه الليبرالي، تقوقع العنصريون على أنفسهم واعتبروا أن أمريكا التي تعيش في أذهانهم قد سلبها منهم السود والأقليات والمثليون والمهاجرون غير الشرعيين.

وماذا لو انتخبت هيلاري كيلنتون
رئيسة للبلاد؟

عندما انتخب جون كنيدي عام 1961 الكاثوليكي لبلد غالبيته من البروتستانت، قيل إن الشعب الأمريكي تجاوز مسألة الدين، وعندما انتخب باراك أوباما عام 2008 اتضح أن غالبية الشعب الأمريكي تجاوزت مسألة اللون. وسيقف الشعب الأمريكي أمام اختبار آخر يوم 1 نوفمبر 2016 ليختار بين مرشح جمهوري سيكون رجلا في الغالب، ومرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون. نتوقع مرة أخرى أن يتجاوز الشعب الأمريكي بغالبيته مسألة الجنس وينتخب لأول مرة امرأة لمنصب الرئيس لأنها على قدر كبير من الكفاءة والخبرة تبز بهما طابورا من الرجال من أمثال جيب بوش.
ونتوقع أيضا إذا خسر الحزب الجمهوري الانتخابات الرئاسية للمرة الثالثة على التوالي وانتخبت الغالبية امرأة بعد أن انتخبت رجلا أسود، فستكثر حوادث الإرهاب ضد الأغراب والمهاجرين والعرب والمسلمين وعيادات الإجهاض، وربما يقوم العنصريون باستخدام السلاح لحماية دولة الوهم التي ما زالوا يؤمنون أنها موجودة ولديهم صك بامتلاكها. وقد تصل النيران إلى مهرجانات المثليين الذين احتفلوا بانتصارهم الكبير يوم الجمعة الماضي. وبغض النظر عن الفائز في الانتخابات الرئاسية المقبلة فالحقيقة أن أمريكا العنصرية المحافظة اليمينية التي تريد أن تبقي البلاد بيضاء نقية للعرق الأبيض، بدأت تخسر وتنحسر، وأن أمريكا الليبرالية المكونة من الطبقة الوسطى والأقليات والمهاجرين وجيل الشباب بدأت تتسع وتنتصر.

٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرزي

د. عبد الحميد صيام

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية