قيل في الشعر العربي قديما،»أمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت وردا وعضّت على العناب بالبرد»
للأسف شعوري أن الدنيا أمطرت خوازيق.
تعزز هذا الشعور غيرالمريح خلال قراءتي في رواية الكاتب الفلسطيني علاء حليحل «أورفوار عكا» التي صدرت مؤخرا عن دار الأهلية في عمان، والتي تجري أحداثها إبان حصار نابليون بونابرت لمدينة عكا عام 1799،حيث كان حاكمها أحمد باشا الجزار. الرواية مبنية على وقائع تاريخية مُخصبة بخيال الكاتب المجنّح.
يتسلل رجل إلى غرفة نوم الجزار بهدف قتله وتخليص الناس من ظلمه وجنونه، ولكن الرجل يجبن في اللحظة الأخيرة، يتراجع ويتم إلقاء القبض عليه،وهكذا فوت على نفسه وعلى شعبه فرصة ذهبية للتخلص من الجزار الذي يحكم عليه بالإعدام خوزقة.
يأمر الجزار (الخوزقجي) بأن يضعه على الخازوق في حديقة الباشا دون أن يموت لثلاثة أيام كي يرى الناس ويعتبروا، وكي يأخذوا وقتهم في شتمه والبصاق عليه وإعلان ولائهم للجزار،لأن الموت السريع للمحكوم لا يلبي حاجة الردع.
يبدع الكاتب في وصف مراحل إعداد الخازوق لدى النجار الذي يحتفظ بخوازيق احتياطية، كي لا يفاجأ بعدد من الأحكام دفعة واحدة، لأنه إذا لم يجد خازوقا ستتم خوزقته هو نفسه، ثم وصف عملية ربط أطراف المحكوم بالحبال، ثم رفع الخازوق وفوقه المحكوم بحذر ودراية بحيث يبقيه حيا فلا يخترق القلب ولا الكبد والكلى، إلا أن الضحية يموت بعد قليل من رفعه عاليا، إذ يحدث خطأ كما يبدو سببه عقدة أهملها النجار كانت سببا في انكسار الخازوق في جوف المحكوم.
وهذا يعني غضب الجزار وأن (الخوزقجي) سيلقى عقاب الموت نفسه، لأنه لم يلب طلب الجزار بحذافيره،فيتسلل إلى المنجرة ويقتل النجار الذي اختبأ بعدما انفضح أمر خازوقه المغشوش، ثم يهرب ليلا عبر البحر خارج المدينة إلى الفرنسيين المحاصرين للمدينة.
الجميع يرتجفون من الجزار ويكذبون وينافقون خوفا من غضبه وإجرامه، وهو بدوره يقتل لأقل هفوة أو شك بالولاء، وهذا بلا شك يذكر بأكثر من حاكم عربي ولّى أو ما زال في السلطة.
فقد تفنن بعض الحكام وما زالوا بطرق تعذيب المعتقلين من المعارضين السياسيين حتى لفظ أرواحهم، وفي حالات كثيرة لا تقل تعذيبا وإذلالا من الخازوق، كما نشرت إحدى السجينات السوريات السابقات على حلقات في «القدس العربي» عن السجون في سوريا، والتعذيب حتى الموت في حالات كثيرة وبطرق غاية في الوحشية والإذلال البشري، أضــــف لهذا ما تنشـــره منظمات حقوق الإنسان عن وضع السجناء السياسيين في العالم العربي الذي يندى له الجبين، كذلك ما ينشر من فيديوهات على مواقع التواصل الإجتماعي من عمليات تعذيب وقتل متبادل، وذبح وسلخ وسحل واغتصاب وتقطيع باللحم الحي حتى الموت، فتشــعر أن بيننا وبين حقوق الإنسان مسافات ضوئية، ولهذا ليس غريبــــا أن يهـــرب الكثيرون إلى بلاد الأجانب مخاطرة في البحر نجاة بجلودهم وشرفهم وإنسانيتهم.
في جولة بين الفضائيات تمر بمحطات أجنبية كثيرة، معظمها رقص وغناء وأفلام ورياضة وطبخ وصيد أسماك وعلوم وأبحاث وطبيعة وحيوانات، والقليل من السياسة حتى حيث يوجد توترات، ترى أن هناك حياة إنسانية يتخللها القليل النادر من العنف السياسي.
في فضائياتنا ترى الحقد مسيطرا في كثير منها،التحريض على المختلف ولو كان ابن الوطن والشعب نفسه، ترى جنودا فرحين يقفزون ويرقصون بتحقيق انتصارات وفتوحات في مدنهم وقراهم على جثث أبناء جلدتهم، إلا أن المنتصر في فضائية هنا ستجده مهزوما في فضائية أخرى، وحيث يُدّعى أن كل شيء على ما يرام ترى في فضائية أخرى أن الدنيا خربانة.
في أكثر من فضائية تجد تحريضا على أبناء المذاهب أو الطوائف الأخرى، وتحالفات تتغير بين ليلة وضحاها حسب مصلحة المعركة وأهوائها، فشيطان الأمس حليف اليوم، وشقيق الصباح عدو المساء، تعبئة نفسية ضارية وغسيل أدمغة حتى تصبح جاهزة لتدمير وقتل المختلف.
الإرهاب الرسمي والإرهاب الفوضوي يضرب في كل مكان، وكل فضائية تصور مجموعتها كأصحاب حق مطلق بينما الآخر هو الشر المطلق، وكأن الوسطية قد ضاعت ولا تجد لها نصيرا.
الخلفيات السياسية والإجتماعية من القمع والظلم التي أعدت أرضا خصبة للإرهاب معروفة، وهي التي لم تتم معالجتها، بل تركت حتى انفجرت ثم أوغلوا في تيههم وقمعهم وظلمهم أكثر وأكثر.
النظام المصري من ناحيته رد على حوادث الإرهاب الأخيرة بخازوق آخر لأهل قطاع غزة، فشدد عليهم الحصار بإغلاق تام، فلم يعد ناقصا سوى عصرهم، ثم دق الخوازيق لمئات الأسر المصرية التي ستهدم بيوتها لإنشاء ما يسميه منطقة عازلة، ووجد بعض الإعلاميين الذين حاولنا نسيانهم فرصتهم مرة أخرى للردح ضد حماس والفلسطينيين في قطاع غزة.
كل عاقل يعرف أن حماس في أمس الحاجة لتحسين علاقتها بمصر، وتأزيم العلاقة معها يخدم الأهداف الإسرائيلية ويضر بالفلسطينيين، ويعطي المبررات لمزيد من المعاناة وشيطنة المقاومة. إلا أن كل مداراة حماس لم تسعفها، فالنظام المصري يريد الإيهام بأنه مع شعبه مثل القشطة والعسل، وأن ما يجري من عنف وقلاقل ليس إلا من تدبير أيدٍ خارجية وبمساهمة فلسطينية، هي نفسها نظرية النظامين السوري والعراقي اللذين ليس لديهما مشاكل مع شعبيهما، بل مع مؤامرة خارجية، وينطبق هذا على مجموعة لا بأس بها من دول المنطقة التي آن لها أن تؤسس نادي «مجموعة الدول المتآمــــر عليهـــا» فما أن يتنفس خمسون شخصا بتظـــاهرة ضد غلاء الكوسا حتى يبدأ الإعلام الرسمي بالحديث عن الأيدي الخارجية،التي تحسدنا على استقرارنا.
يعني شعوبنا طيبة، ومستحيل أن تتحرك إلا من خلال أيدٍ خارجية.
رغم هذا المطر من الخوازيق، فإن شعورا بالأمل ينتابك عندما ترى صفوف الناخبين في تونس، من النساء والرجال من كل الفئات، محجبات وغير محجبات، ملتحون وغير ذلك،عسكريون ومدنيون، ترى الانضباط في الوقوف بالدور، وتطمئن أن العملية تجري بدون تهديدات ولا ضغوط، ويجمع المراقبون الدوليون على هذا، ثم تعلن لجنة الإنتخابات عن وجوب فحص مصادر تمويل أحد الأحزاب، الأمر الذي يعني وجود شفافية، وبغض النظر من هو الفائز وكيف ستركب الحكومة، تقول شكرا تونس.
شكرا لأنك صفعت نظرية وضع الشعب أم خيارين لا ثالث إما الأسوأ أو الأكثر سوءا.
شكرا لأنك رفضت نظرية الخيار بين الاحتلال الأجنبي أو الدكتاتورية!
شكرا لأنك رفضت وضع الشعب أمام خياري التزمت الديني أو الفوضى.
شكرا لأن الخاسرين في الإنتخابات هنأوا الفائزين…
تونس مطلقة الشرارة الأولى للربيع العربي الذي ذبحوه في أكثر من مكان تجعلك تتنفس الصعداء وتردد بلا يأس»إذا الشعب يوما أراد الحياة…رغم كل الخوازيق…لا بد أن يستجيب القدر…
سهيل كيوان
من اجمل ما قرات في الفترة الاخيرة ، كلام عاقل موزون من غير تشنج ، شكرًا استاذ سهيل كيوان
شكرا للكاتب المبدع وللقدس العربي ميدان الحرية ، والشكر الجزيل للقادة السياسيين في تونس ، نسأل الله العلي القدير ان يحمي تونس من كيد الكائدين وان يكلل تجربتهم بالنجاح لتكون القدوة للاخرين .
Great article keep up the good work, I enjoy reading your work.
بل اقول شكرآ لك على مقالك سيدي فنحن بحاجة الى كاتب حر غير موجه بالمال. يبني ولا يهدم , فاغلب الشعوب تحب الحباه وترفض الارهاب الرسمي والارهاب الفوضوي.
ممتاز