عام مضى على تسلم الجيش وقوى الأمن الداخلي اللبناني، أول شحنة سلاح فرنسي مولتها هبة سعودية بقيمة أربعة مليارات دولار. كان من المفروض أن يتسلم شحنات أخرى لاحقا تشمل أنواعا مختلفة من السلاح الثقيل والمتوسط، وطائرات من دون طيار، ومعدات أخرى ضرورية، لكن السعودية فاجأت لبنان بإيقاف هذه الصفقة خلال الأيام القليلة المنصرمة، نظرا للمواقف اللبنانية التي لا تنسجم مع العلاقات الأخوية بين البلدين، على حد تعبير وكالة الانباء السعودية الرسمية.
وكما كان وصول الدفعة الأولى من التسليح مهرجان مديح وتشكيك من قبل الموالاة والمعارضة، عاد الموقف نفسه ليتكرر بسبب إيقاف المساعدة، والسبب في ذلك هو التركيبة السياسية التي تحكم لبنان، واستمرار مصادرة قراره الرسمي بأذرع قوى هذه التركيبة، التي يدين البعض منها بالولاء للسعودية والآخر لإيران. ما يهمنا هنا هو أن الحدث ألقى الضوء مرة أخرى على وسائل تحقيق السياسة الخارجية لدى هاتين الدولتين الإقليميتين. لقد اعتمدت المملكة العربية السعودية في سياستها الخارجية، ومنذ زمن طويل، على آلية مجاملة ومحاباة الآخرين، وكانت ترى في ثروتها المالية وسيلة كبرى تجعل الطرف الآخر يسيل لعابه فينزلق إلى حد التبعية لها، بينما أغفلت عناصر أخرى هي تملكها وكان بإمكانها أن تكون أوراق ضغط على الآخرين بما يحقق سياستها. قد يكون المال عنصرا مؤثرا في صنع السياسة الخارجية، لكن مجال تأثيره في العلاقات الدولية ربما يكون أضعف من تأثير عناصر أخرى. لكن المملكة اعتمدته عنصرا وحيدا في العديد من المواقف، فكانت النتيجة فشلها في الكثير من الأحداث، وخسرت حلفاء. هي خسرت سوريا حافظ الأسد، لأنها لم تبن معه علاقة سياسية قائمة على أوراق ضغط ومصالح مستديمة، فبنى تحالفا مع عدوتها إيران، وهو في أوج علاقته بها، وهذا فشل سياسي كبير تدفع ثمنه الآن. كما فشلت في كسب أو صنع زعامات سياسية عراقية فاعلة على أرض الواقع، بينما هي أغدقت عليهم الكثير من الأموال، وجمعتهم من لندن وبعض العواصم الغربية وصنعت منهم معارضة. بذلت أموالا كثيرة للرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، لكنه في أول محطة تخلى عنها وذهب إلى عدوتها إيران. أما في لبنان فإنه الدليل الأبرز على فشل سياسة شراء المواقف بالأموال، فبعد عقود من الزمن بذلت فيها المملكة أموالا كثيرة لزعامات سياسية معروفة وغير معروفة، يأتي الموقف الرسمي اللبناني ممثلا بوزير خارجيتها، الذي رفض التضامن معها في حادثة حرق سفارتها وقنصليتها في إيران، وهو الوحيد الذي خرج على الاجماع العربي من بين كل الدول العربية.
ربما الموقف الوحيد الذي نجحت فيه المملكة في استثمار أموالها في شراء المواقف، كان في الحرب ضد العراق عام 1991، وفي المساعدة في غزوه عام 2003، لكن تبين في ما بعد أن أموالها تلك مهدت الطريق للامريكان كي يبيعوه إلى إيران على طبق من ذهب، كما قال الراحل وزير خارجيتها السابق. وها هي اليوم ترى بوضوح كيف تحول العراق من مدافع عنها وعن كل الأمة إلى أداة بيد أعدائها وأعداء الأمة، وبذلك قدمت من رصيد مصالحها السياسية والاستراتيجية أكثر مما حصلت عليه، بل أضرت نفسها. حتى مصر في ظل النظام السياسي الحالي، نجد أن سياستها تختلف، بل تتعارض مع سياسة المملكة في الموقف من العراق واليمن وإيران، رغم الأموال التي أغدقت عليه كانت لتعديل الكفة مع إيران. على المستوى الدولي أيضا بذلت أموالا كثيرة كي تبقى في الصف الأول في التفكير الأمريكي، لكنها أصبحت في مرتبة أدنى من إيران في التفكير الامريكي، لأنها لم تستطع اللحاق بالتحول الجيوسياسي في المنطقة الاقليمية والدولية. هي اشترت الوجود الامريكي في المنطقة، لكنها نسيت أن الوجود الامريكي هو منتج للأمن وانعدام الأمن معا. إنه ينتج الأمن في بعض المعادلات المحلية القابلة الراضخة والمستعدة للتعاون، وينتج انعدام الأمن باستقدامه آلاف المتطوعين من الداخل والخارج للجهاد ضده، وهي أول من دفع ثمن ذلك على أراضيها وتهديد أمنها الداخلي.
أما على الجانب الايراني، فمنذ قيام الثورة الايرانية عام 1979 والنظام السياسي يعتمد العقيدة الدينية في تحقيق سياساته الخارجية. كان العامل الايديولوجي الديني هو الحصان الذي راهن عليه الحكم الجديد، فشرع في بناء أسطورة تقول بأن إيران هي التمهيد لدولة الامام المنتظر العالمية، وأن تحالف المستضعفين واحتماءهم بإيران هو العامل الوحيد الذي سيجعل الارض تمتلئ عدلا بعد أن ملئت جورا، وهي بذلك تحاول أن تبعد عن نفسها صفة الدولة القومية مثل سائر دول العالم الأخرى. هي تسعى أن تكرس لنفسها صورة قاعدة الانطلاق والسراج المنير للآخرين كي يسيروا في الطريق نفسه، وكانت أولى خطواتها في هذا المنهج هو مساعدة المذهبيين والطائفيين لزيادة قوتهم، لأنها ترى أن قوة المذهبيين تعني ضعف قوة القوميين، فهي لا تريد قوة قومية في المنطقة غير القومية الفارسية، وعندما ينسحق الشعور القومي يبقى كأسها هو المعلى في المشهد. ولو نظرنا إلى السلوك السياسي الايراني نجده سلوكا ذا مصالح قومية وأهداف وطنية، لكنها مغلفة بطابع أيديولوجي ديني، ولو أمعنا النظر فيها نجدها هي تماما أهداف أيران منذ زمن الشاه، التي كانت مغطاة بغطاء القومية الفارسية. إذن الفارق الوحيد هو الغطاء وليس جوهر الأهداف, وهي في أحيان كثيرة تجد الغطاء الديني يثقل عليها المناورة لأنه ليس حقيقيا في نهجها، لذلك تبرز لنا بوجوه عديدة في مواقف مختلفة وربما متناقضة أحيانا. فمرة نجدها بوجه فارسي متعصب، وأخرى تبدو لنا راعية مذهب وزعيمته، وثالثة بوجه تدعو العرب للتعاون والتعامل معها، وأخرى تثير قلق العرب وتتآمر عليهم. هذه العقيدة جعلت المشروع الإيراني أكثر جهوزية وسيطرة مركزية من المشروع السعودي، فقد كانت لديها شجاعة مواجهة الاحداث والمساهمة في صنعها، فتمدد نفوذها في بقاع كثيرة بدون حرج وبدون انتظار موافقة الدول الكبرى، لذلك تمكنت من بناء قاعدة بحرية عسكرية في ميناء عصب الإريتري بالقرب من حدود جيبوتي لتهريب السلاح إلى لبنان واليمن. وبهذه القاعدة يهددون بإغلاق مضيق هرمز. كما أن إيران تنافس إسرائيل في النفوذ في أفريقيا، لوجود جالية لبنانية في العواصم الأفريقية، إضافة إلى النفوذ الطاغي لديها في كل من سوريا والعراق ولبنان. حتى في مقاييس تصنيف الدول، تحاول إيران إيجاد مقياس خاص بها يميزها عن الآخرين ويبعث روح التحدي لدى جمهورها وأتباعها. فمقاييس تصنيف الدول تعتمد عناصر القوة الاقتصادية والتنكولوجيا والقوة العسكرية والسياسية، لكن الرئيس الايراني روحاني يقول في مقالة له في «الواشنطن بوست»، إن عناصر القوة الايرانية هي الكرامة والهوية، وخطها الاحمر هو كرامتها والاعتراف بدورها الاقليمي. وهنا يضرب بقوة على دور العامل الايديولوجي كوسيلة من وسائل صنع السياسة.
قد تكون المملكة العربية السعودية شعرت بخطأ اعتماد شراء المواقف بالمال، والخسائر الكبيرة التي جنتها من وراء ذلك، وهي تحاول اليوم تغيير هذا السلوك، لكن إيران مازالت مصرة على اعتماد العقيدة في سياستها، حتى يحين أمر انكشاف زيفها قريبا ويكون سقوطها مدويا.
باحث سياسي عراقي
د. مثنى عبدالله
نظل نعيد ونكرر مرارا لكل المعجبين بايران ماذا قدمت لحلفائها سوي الخراب والدمار هل حال العراق أو سوريا اولبنان اواليمن يرضي أحد وهم يدعون أنهم منتصرين وهذا حالهم كيف لوانهزموا
كم ضيعت السعودية من فرص….
استفاقتها متأخرة لحد كبير؛ للأسف كما ذكرت د.مثنى عقيدتها الوحيدة هي المال؛وليتها استطاعت توظيفه بما يخدمها ويخدم جيرانها بالمحصلة.
ماينقص الساسة واصحاب القرار في بلادنا ؛الإستناد الى الدراسات والأبحاث الجيوسياسية؛ الثقة تكاد تكون منعدمة بينهم وبين المحللين والدارسين اصحاب البحوث …
مواقفهم ارتجالية احيانا اعتباطية احيانا أخرى؛دائما هم اصحاب رد الفعل وليس الفعل ذاته….
الحديث عن مأساتنا العربية يثير الشجون والألم والخيبة…
نقف عاجزين عن ايجاد حل لمعضلتنا…
أشكرك د.مثنى عبدالله على قلمك العروبي فهو أشبه بقنديل في ليل عروبتنا…
دمت بألف خير ؛لك كل الإحترام والتقدير..
تحية لك ولكل المعلقين الكرام الذين سيعلقون ولقدسنا الغراء بيتنا الثاني..
شكرا د مثنى على المقال الرائع الذي لم يجامل احدا وشكرا على انه بحث وانتقد الخطوات الخاطئة في السياسة السعودية واضاء على اشكالات كثيرة لكني اؤكد لك ان من يقاتلون مع طهران ليسوا عقائديين بل مرتزقة اذا لم يدفع لهم احيي شجاعة قلمك الذي لا يكتب امنيات ولا يكتب طائفية بل يكتب الاشياء كما هي شكرا لد مثنى ودم لنا وشكرا للقدس
قارئتك المحبة غادة
من وجهة نظري عنوان مقال وتحليل منطقي وفلسفي ولو أنني اختلف معه، ربما لأنني من أنصار حكمة البدو على الأقل، لأنني لا أظن هناك منطق في عقيدة التثليث الكاثوليكية من أنّ ثلاث في واحد وواحد في ثلاثة لها أي علاقة بالتوحيد لا من قريب ولا من بعيد بأي لغة كانت، فلذلك مسألة أن لا يكون هناك تضاد ما بين المفهوم الوطني والمفهوم القومي، كما كان يتعامل صدام حسين مثلا مع دول مجلس التعاون الخليجي في تحالفهم لمنع إيران من التمدد على حساب العراق مثلا؟!
ميزة الحرب العراقية الإيرانية (والتي كل من العراق وإيران كان في صف الاتحاد السوفيتي في احتلاله لأفغانستان عكس دول مجلس التعاون الخليجي والتي توقفت الحرب في 8/8/1988 بعد الاتفاق ما بين ريغان وغورباتشوف في عام 1987 لإنهاء سباق التسلح بينهما وتم انسحاب الاتحاد السوفيتي من أفغانستان على الأقل من وجهة نظري) هو أنّ صدام حسين دخلها قومي علماني وخرج منها قومي إسلامي وظهر ذلك واضحا في الحملة الإيمانية بعد عام 1991 لأسلمة حزب البعث العربي الاشتراكي بنسخته العراقية على الأقل، في حين الخميني دخلها إسلامي قومي وخرج منها علماني قومي ومن هذه الزاوية أفهم تحالفه مع حزب البعث العربي الاشتراكي بشقه السوري الذي كان وبقي علمانيا حتى الآن مثلا.
الموضوع بخصوص عقوبة فرنسا عن طريق لبنان ليس له علاقة بصعوبة في فهم النص، بل هي مدرستين وثقافتين مختلفتين. حكمة وثقافة بدو دول مجلس التعاون الخليجي شيء، وفلسفة وثقافة دولة الحداثة الفرنسية والأعجمية والهندية والإغريقية والرومانية شيء آخر. في حكمة البدو هناك فرق ويستطيع التمييز بين الحشمة وتملّق المنافق. بينما في فلسفة دولة الحداثة يعتبر الخلط بينهما بشكل متعمّد، نوع من الإبداع والتمّيز والاختلاف. ومن هذه الزاوية نفهم الاستقتال في الدفاع عن خزعبلات جريدة شارلي ايبدو الفرنسية، فتظن الحكومة الفرنسية ذكية، في طريقة عرض إلغاء زيارة روحاني رئيس دولة ولاية الفقيه إلى فرنسا، قبل توقيع العقد بخصوص النووي الإيراني؟! بحجة أنّ فرنسا ترفض عدم تقديم المشروبات الكحولية في ولائم الرئيس الفرنسي، لأنّه يتعارض مع العلمانية، وبعد توقيع العقد النووي، يذهب روحاني لتوقيع عقود بالمليارات، وتتعمّد تقديمه وسائل الإعلام الفرنسية وكأنّه ممثل التنوير؟! وهذا بالتأكيد لو انتبهنا إلى السياق والتوقيت، على حساب دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا الظلامية؟!
أظن هناك فرق بين أسلوب دولة الفوضى الخلاقة وبين أسلوب دولة القانون، فلغة الفوضى الخلاقة تتعمّد خلط الحابل بالنابل بلا احترام لخصوصية كل لغة عن اللغة الأخرى حيث لكل لغة هناك قواميس وصيغ بنائية ومعنى معاني يختلف من سياق لآخر داخل نفس اللغة، فكيف عندما ننتقل ما بين لغة وأخرى؟ أو دين وآخر؟ لأنَّ من وجهة نظري أنَّ نظرية المؤامرة سبب وجودها ثقافة الـ أنا أو مفهوم الربا، فهي مرض نفسي، أساسه الفلسفة، أو مفهوم الشك هو طريقك للوصول إلى الحقيقة، فصار الكل يفهم في كل شيء، والكل معصوم من الخطأ كما هو حال آل البيت أو النخب الحاكمة في النظام البيروقراطي لدولة الحداثة.
ما رأيكم دام فضلكم؟
دكتور مثنى المحترم
الباحث والمتأمل في السياسيتين السعودية والأيرانية في الزمن الماضي والقريب سيخلص الى نتيجة واحدة أنهما يسيران في خطين مستقيمين يراهما الناظر لأول وهلة أنهما لا يلتقيان وأنهما عدوتان لبعظهما وأن الحرب بينهما ستقوم …ولكن أن هاتين السياستين تتطابقان في الهدف المرسوم لهما من قبل صناع القرار في بريطانيا سابقاً و الأمريكان لاحقا لما يتوافق مع سياستيهما في إحتضان صنيعتهم إسرائيل وجعلها القوة المهيمنة والفاعلة في منطقة الشرق الأوسط ..أي أن سياسة الأيرانيين والسعوديين تخدمان المخطط المرسوم لهما فهما يلتقيان في هدف واحد لخدمة المشروع الصهيوني بعد تمزيق دول المنطقة وجعل الدول العربية دويلات ممزقة لا تأثير لها في السياسة الخارجية .. ونرى نتائج هاتين السياستين اليوم العراق قد أزيح عن الخارطة السياسية وكذلك سوريا واليمن وليبيا ولبنان وستلحقهما بفعل هاتين مصر ما لحق بأخواتها من الدول التي دمرت وهذه وجهة نظري لعلي أكون مخطئاً .
احسنت التقييم يا دكتور مثنى. حالتنا نحن العراقيين مع حكام المملكة العربية السعودية السابقين هي كالذي يطعن في صدره الايمن من قبل اخيه الحاقد وهو في حالة النزف يفزع لاخيه الذي حاول قتله ضد اعدائه! هكذا هو حالنا نحن العراقيون اليوم مع اخوتنا في المملكة السعودية… بالرغم من النزف الذي سببه لنا السيف السعودي الا اننا لازلنا مع المملكة ضد الاستعمار الدموي الفارسي الذي لو لا سمح الله وبلغ اهدافه فسوف لن تبقى لنا بقية ولا هوية ولا بصيص امل في النفق الطويل المظلم الذي نسير فيه جميعا كعرب . نحن اليوم نصطف بكل قوانا العراقية والعربية وبرغم جراحنا العميقة ونزفنا المستمر نصطف مع المملكة ودول الخليج العربي من اجل بقاء هويتنا العربية والنصر على اعدائنا بما فيهم الفرس. نتمنى ان تكون المملكة العربية السعودية بقيادتها الحالية قد فاقت من الحلم الطويل الذي هامت فيه لاجيال وهو ان امريكا قد تغيرت وستكون العدوة التي تمهد لايران الصفوية بتمزيق الجزيرة العربية الى مناطق ودويلات اثنية لان المخطط الاستعماري الغربي -الفارسي والشرقي الحالي هو اخطر مخطط لتدمير الدول العربية وهو اخطر من مؤامرة سايكس بيكو بكثير وكثير…. لا اعتقد ان القادة السعوديين غافلون عنه والحملة الامريكية الرسمية وشبه الرسمية في االطاحونة الاعلامية الامريكية والعالمية التابعة له ضد المملكة والمستمرة لها دلالات ومقدمات لما ذكرناه. تحياتنا للدكتور والمحلل السياسي الكبير مثنى عبد الله
بصراوي كاتب من العراق المحتل