باريس ـ «القدس العربي»: قبل كتابة هذه الأسطر بساعات، وأثناء تجوالي بين المكتبات والمتاجر، توجّهت إلى قسم الأفلام في أحدها، لأرى ما يعرضونه كاقتراحات هدايا بمناسبة عيد الميلاد (الكريسماس)، فكان من بين ما وجدت علبة تحوي فيلمين إيطاليين هما «الحياة الجميلة» (لا دولتشي فيتا، 1960) لفيديريكو فيليني و «الجمال العظيم» (2013) لباولو سورنتينو. معاً في علبة واحدة مُقترحة كهديّة تحوي أحد أهم الأفلام الكلاسيكية في إيطاليا والعالم، وفيلماً رائعاً حديثاً، إيطالياً كذلك.
تذكّرتُ العلبة الآن وأنا أبدأ في الكتابة عن فيلم إيطالي آخر، مبتدئاً بفكرة أنّ السينما الإيطالية ماتزال اليوم تجد مخرجيها المذكّرين بمكانتها الدائمة عالمياً، التي أسّست لها أسماء مهمة، وتذكّرتُها الآن كذلك لأنّني كنت قد كتبت مراجعة عن فيلم سورنتينو «شباب» (2015) على هذه الصفحات وأنهيتها بالتالي: «…عن سينما إيطاليّة قد تُعيد لبلد روسيليني وبازوليني وأنطونيوني وفيلّيني وآخرين، بعض ألَقها السينمائي، فلسورّنتينو فيلمان هما «شباب» و «الجمال العظيم»، وهي أمثلة جيّدة لذلك».
وقد نافس «شباب» على السعفة الذهبية لمهرجان كان هذا العام، لكنّه لم يكن الإيطالي الوحيد، لأنّ فيلماً إيطالياً لافتاً آخر نافس على السعفة هو «أمّي» (Mia Madre) كما عُرض في مهرجان تورونتو، وهو لمخرج إيطالي آخر هو مثال جيّد كذلك، بل وأفضل، للتذكير الدائم بالألق السينمائي لإيطاليا، هو ناني موريتي، صاحب العديد من الأفلام والجوائز السينمائية.
الفيلم، كغيره من أفلام موريتي، لا يخلو من عناصر السيرة الذاتيّة، تحديداً كما في الفيلميْن المتسلسلين «مفكّرتي العزيزة» (1993) و«إبريل» (1998)، وقد أدّى فيهما موريتي الدور الرئيسي. في فيلمه الأخير والمعروض حالياً في الصالات الفرنسية، يصوّر موريتي حكاية مخرجة سينمائية تموت والدتها أثناء عملها، وهذه حادثة حصلت لموريتي ذاته أثناء عمله على فيلمه السابق «لدينا بابا» وشارك في مهرجان كان عام 2011.
مارغريتا (تقوم بدورها مارغريتا باي في أداء مميّز)، مخرجة سينمائية تعمل على إنجاز فيلم يتناول نضال عمّال في مصنع، فيضربون ويتظاهرون ويواجهون المدير الذي يقوم بدوره ممثل أمريكي من أصل إيطالي (جون تورتورّو في أداء مميز كذلك) استقدمته مارغريتا لهذا الدور.
لكن الفيلم، «أمّي»، لا ينحصر في حكاية مارغريتا مع فيلمها، كهمّ حياتي وكمكان، بل يمتد إلى مكانيْن آخرين لكل منهما همّه، المستشفى حيث ترقد أمّها المريضة والبيت حيث ابنتها التي تعيش مراهقتها، فتتشتت مارغريتا بين هذه الأماكن الثلاثة وهمومها، فينتهي موعد التصوير، من دون أن تشعر بأنّها أنجزت شيئاً لعقبات يسبّبها الآتي من أمريكا، تترك مكان التصوير وتبقى مشغوله بفيلمها، ثم تتركه بين وقت وآخر نهاراً ومساءً للاطمئنان على أمّها، أو يحل المساء من دون أن تتصل بها، في الوقت ذاته ستطلب ابنتها منها درّاجة وستشتري لها واحدة. ولكل ذلك آثاره السلبية والضّاغطة على الحالة النفسية لمارغريتا التي تجهد كي لا تفقد أعصابها أو تنهار.
لكنّ الفيلم لم يكن، ينقل مأساة مارغريتا، تراجيدياً تماماً، لأنّ أحد مسبّبات تلك المأساة، الممثل القادم من أمريكا، كان عاملاً كوميدياً في الفيلم، من البداية حيث تقلّه من المطار، ينام في السيارة ويهلوس قبل أن يصحو فجأة قائلاً بأنّ كيفين سبايسي، ممثل أمريكي شهير، قد حاول قتله، ثم لا يكف عن الإشارة إلى عمله مع أحد أهم المخرجين الأمريكيين، ستانلي كوبريك، من دون أن يكون حقيقة قد مثّل في أي من أفلامه كما تقول مارغريتا، وهو كذلك ينسى نصوص الحوارات أثناء تمثيله متذرّعاً بالشارب الملصق فوق فمه، وفوق ذلك لا يعرف الإيطالية بما يكفي كي يمثّل بها، ويتصرّف كأخرق يعيش على صيت سابق له كممثل سينمائي. لكن هنالك في الفيلم الأخ الذي استقال من عمله للبقاء إلى جانب أمّهما في أيامها الأخيرة، وهو السند لمارغريتا في حياتها، ويقوم بدوره مخرج الفيلم، موريتي.
تائهة بين همومها الثلاثة، يتخلّل السّير الواقعي للفيلم لقطات من ذكريات مارغريتا وخيالاتها، منها ما قد حصل لها مع أمّها ومنها ما تتخيّله قد يحصل بعد عرض فيلمها، وكل تلك الذكريات والخيالات حاضرة في واقعها. تتابع مرض أمّها وإنجاز فيلمها، وتزداد همومها كلّما تواردت إليها تلك الذكريات وأدركت أن أمّها تعيش أيامها الأخيرة، وتزداد كذلك كلّما فكّرت فيما سيكون عليه الفيلم حين يُعرض وكيف سيتم تلقّيه، وهي تنجزه في ظروف صعبة كهذه.
لموريتي سيرة سينمائية طويلة، فقد بدأ بإنجاز أفلامه في السبعينيّات، ثمّ نال عن فيلمه «غرفة الابن» السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 2001، العام الذي أنجز فيه سورنتينو فيلمه الطويل الأوّل، فالرّجلان ينتميان لتجربتين وجيليْن مخلتفيْن لكنّهما يواصلان ما بدأه آخرون، والحديث دائماً عن السينما الإيطالية في السنوات الأخيرة، والعناوين المذكورة، وخاصة «أمّي»، ستبقى أمثلة جيّدة لهذه السينما، الآن ولاحقاً.
سليم البيك