«أنا رانيا»

في بداية هذه السطور، تعيّن تحديد عن أي «أنا» نتحدث. فقد علمتنا الفلسفة أن الأنا تتعدى جوهر الفاعل وكينونته لتحمله إلى عوالم الموقف العرضي، وهو الموقف الذي قد يجد المرء نفسه راغبا أو مدفوعا لاتخاذه في لحظة ما. ومن هذا المنطلق بإمكان الذكر أن يؤنث أناه فيتماهى معها إن دعت الضرورة.
مناسبة تفسيراتنا التمهيدية رسم ساخر صدر في العدد الأخير لأسبوعية «شارلي إيبدو»، «شارلي إيبدو» التي أدافع عن حقها في حرية التعبير والتي في الوقت نفسه، شأني شأن الأديب الفرنسي الكبير عضو الأكاديمية الفرنسية جان دورميسون، لا أحبها ولا أشتريها لأنها تخدش حياء ناس كثر وتهين قطاعا عريضا منهم ـ أكان بقصد أو من دون قصد، لا يهم.
في العدد الأخير من «شارلي إيبدو» إذن، يطل مدير الأسبوعية الجديد الرسام ريس على القراء برسم ساخر يظهر شاذا جنسيا يطارد امرأة فيطرح الرسام سؤالا هو، «ماذا سيصبح إيلان في المستقبل لو بقي على قيد الحياة؟». ولا يكتفي رسامنا بإلحاق السؤال برسم لا تخطئ العين دلالته، بل يرد بكلمات تحيل إلى الاعتداءات الجنسية التي جرت خلال الاحتفالات بالعام الجديد في ألمانيا، وهي كلمات سنمتنع عن ترجمتها احتراما للياقة.
لكن ردا آخر على سؤال الرسام حملته إلينا وقائع الأسبوع ذاتها فجعلت ريس ورسومه وأسلوب صحيفته، الذي يجازف البعض بتشبيهه بأسلوب الأديب المستنير فولتير، موضع دحض وعزل رقيقين. لقد تفضلت الملكة رانيا، ملكة الأردن، باقتراح ردها على السؤال، وقد نزل الاقتراح على موقعها الرسمي على النحو التالي: «كان من الممكن أن يصبح إيلان طبيباً أو معلماً أو أباً حنوناً».
وتشكر الملكة الرسام الأردني أسامة حجاج «لترجمة أفكارها إلى صورة». هذه مناسبة جديدة للعودة إلى «أسلوب التهكم» الذي يعتمده الفرنسيون في مناسبات عدة ربما أكثر من غيرهم، وهو أسلوب كتابة وكلام أيضا يستدعي تأويل رسائله على النحو العكسي من صريح عباراته. طبعا لم يقصد ريس أن الطفل إيلان لو بقي على قيد الحياة سوف يلحق بركب من تحرش بالنساء فيعتدي عليهن خلال هذه الأحداث الأليمة التي صاحبت الاحتفال بالأعياد في ألمانيا فتدعو شيفرة الأسلوب إلى قراءة النص على نحو معكوس يستدل به على رغبة في التنديد بوضع والدعوة إلى إصلاحه.
لكن…
لكن ماذا ينفع الدخول في مثل هذه الملتويات الأسلوبية التي لا تقدم، بل تؤخر جدا كما لو كان لدينا الوقت لهذه القراءات المعكوسة ذات الصلة المزعومة بروح التهكم التي يسندها البعض إلى السمات الفكرية القوية؟ أوليس من السمات الفكرية القوية أيضا التذكر بأن لكل مقام مقال؟ أوليس غريبا اتخاذ مشهد طفل أردته مأساة قتيلا مناسبة لما سيراه السواد الأعظم تقييدا لمصير شعب كامل بالتفريط بأبسط قيم الإنسانية وهو الإيمان بغد أفضل؟ أوليست معيبة محاولة استمالة شعور مبهم سيأتي البعض بوصفه «مدحا لمستقبل سوريا» مقابل «ذم آني مرحلي لمصلحة الجميع»؟
كفى تلقين دروس يا رسام والتواء سبل وتقعر طرق! كفى خدشا لحياء الناس ونيلا من ذاكرة أولادنا، فأولاد سورية أولاد العالم أجمع فهم أولاد فرنسا أيضا!
أنا شارلي في موقف مبدئي يدافع عن حرية التعبير ويرفض الجرائم البشعة التي تروم النيل من حقها، لكنني لست شارلي حتى أبتاع المجلة من كشك الجرائد فتحظى غرفة معيشتي بمضامين تدعي احترام الناس، وفي الواقع تضرب به عرض الحائط كل أسبوع تقريبا.
شكرا لك أيتها الملكة رانيا، فأنت أيضا ترجمت أفكاري وأفكار الكثير منا هنا، وهي أن لا يمثل هذا الرسم إلا وجهة نظر صاحبه. أما فرنسا المسؤولة فتقول بصوت واحد: «أنا رانيا».

باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي

بيار لوي ريمون

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول يوخنا دانيال - السويد:

    للاسف ان الغرب يتصرف بازدواجية دائما .. الشعوب الاوروبية بمعظمها .. قومية الهوى .. وخصوصا دافعي الضرائب .. بينما تتفاخر الحكومات بان بلدانها ملتي كلتشرال .. وهي اكذوبة .. اثبتتها نتائج استطلاعات الرأي الشهرية للصحف السويدية .. الحزب العنصري السويدي هو الاكثر شعبية .. وربما يأتي يوم سيحكم .. الحكومات الاوروبية تتسابق في اظهار اهتماماتها بالعالم العربي .. اما الشعوب فتنام في الثامنة مساء .. وتتأفف من حكوماتها .. التي تحاول ان تغير الهوية الاوروبية .. لصالح امريكا .. هل يجوز ان تستمر هذه الحكومات بتجاهل شعوبها؟

إشترك في قائمتنا البريدية