أنا وظلي أيضا

حجم الخط
0

■ عاد ظلي من جولته لهذا اليوم جريحا. دخل من الباب وهو ينزف. وكان شاحبا. يكاد يختفي من أمام ناظريّ. وعلمت أنه يحتضر. وكانت لديه ثقوب في عدة مواضع. ثقوب بيض. ناصعة. ليست رمادية مثل بقية قامته.
سألته بشيء من الخوف: ماذا حصل؟
قال: هش.
طلب مني أن أصمت. ورأيته يهرع إلى المرآة وينظر فيها. وانتبهت كيف امتقع وجهه من الرعب.
كانت جروحه مدعاة للقلق.
لم أتردد لحظة في محاولة إسعافه. جريت نحو الحمام وأحضرت عدة الإسعافات الأولية. ولكنه رفض أن ألمسه. تهالك على أقرب كرسي وبدأ يئن وهو يقول: دعك من هذا الرياء. أنت تتمنى لي الموت.
كيف أريدك أن تموت. أنت خيالي.
ألست ناقما؟
ورماني بواحدة من نظراته النجلاء. كانت له نظرة نفاذة إذا عاتبك أو إذا أراد أن يقول شيئا ولم يفعل. لم ألتفت له. فتحت علبة الإسعاف. وبدأت أبحث فيها عن ضماد وكحول. واستغرق ذلك مني عدة دقائق. ثم بدأ نظري يضعف. أول الأمر غشيني ضباب أصفر. ثم بدأت نظراتي تصبح كليلة. وأعقب ذلك تألم غريب. تفشى في أنحاء رأسي كأنه يشتعل. كأنه يلتهب.
كان الخيال مشغولا بأوجاعه الشخصية. يتأوه ويدمدم. لا شك أنه يشتمني.
لقد انتقلت إليه البذاءة بالعدوى. مع أنني أحسنت تربيته لكن ما تبنيه في أعوام يهدمه الغوغاء في دقائق.
قلت له وأنا أتهالك على كرسي أمامه: يبدو أن جرحك انتقل لي. لم يفهم تماما ماذا أقول. ثم نظر لي وقال: ماذا تعني؟.
أقول إنني جريح مثلك.
وعلى الرغم من حالته وجد القدرة ليضحك. رنت ضحكته كأنها جرس ناقوس يقرع خلف جدران الغرفة. ثم سمعته يقول: والله هذه نكتة.
بالفعل لم أتوقع هذه المحاكاة المعكوسة. كلنا يعلم أن الأصول أن يحاكي الخيال صاحبه. فهو كائن مقلد. مكتوب عليه بالفطرة أن يلتزم بالمحاكاة، أن لا يتصرف من وحي أفكاره.
لكن أن يقلد الإنسان خياله شيء غريب. بدعة لم يسمع بها أحد. وتبادر لذهني: إنها مصيبة. لو مات خيالي ربما أموت مثله. تحاملت على نفسي ولكن تهالكت على الأرض بعد خطوات قليلة. المشكلة أنني لم أكن أنزف. لو علمت أين مكان جراحي لضمدتها. سألني وهو يرى حالتي المزرية: هل تعتقد أنها النهاية؟
ولم أكن متأكدا من أي شيء. فهذه أول مرة أتعرض فيها لموقف سخيف من هذا النوع. تماسكت قليلا ووقفت على قدمي بخطوات مهزوزة. ولكن لم يكن هناك بد من التصرف.
حينما وصلت إلى باب الغرفة سمعته يقول: لا تتركني وحدي. من فضلك أنا أختنق.
قلت له: سأطلب الإسعاف.
وهنا انتفض بقوة وبدأ يصيح: أيها الأناني. الإسعاف لا تعتني بالظل.
فعلا. لا يوجد إسعاف لهذه الكائنات. ولكن لو نجوت يمكنني أن أعتني به.
قلت له: اضبط لسانك أيها المغفل. لن يفيدك موتي بشيء.
وتابعت طريقي
طلبت الإسعاف. ولم أحبذ العودة إلى الغرفة. رؤيته وهو يحتضر تكفي لتزيد من أسباب آلامي. وذهبت إلى المطبخ.
وكنت أفكر بكوب من عصير الليمون المثلج. قد يوقف النزيف النفسي أو الإحباط. وكنت أتحرك ببطء. تكررت هذه الأعراض معي حتى في أوقات العافية. حين ينفصل خيالي أو يسقط ويذهب لشأنه، كما لاحظت، أصبح مكشوفا. أشعر بأنني سلحفاة فقدت درعها العظمي. شيء غريب حقا أن تزداد متاعبك كلما قلت مسؤولياتك. وحينما وصلت إلى المطبخ فاجأني أن أراه أمامي بوجه ممتفع ويجلس عند طاولة الوسط.
تأوهت وقلت له: آه. لقد هربت منك.ماذا تفعل هنا؟
رد بتعجرف: هل نسيت أنني خيالك؟
ما دمت خيالي لماذا غادرت إلى الشارع بلا إذن.
أردت أن أستنشق الهواء.
وعلمت أنه يخدعني. رأيت وجهه يصبح بلون الجير. أبيض رمادي. بلون القمر المكتمل في كبد السماء. لون القمر كالقطن ليس خالص البياض. تتخلله شبهات. والألوان المحتارة عندي دليل على النفاق أو الرياء. أو أقله الكذب.
قلت له: لا تذكب. لقد تركتني لسبب آخر.
أخلد للصمت. ورأيت أن هذه فرصتي لأنال منه وأرغمه على الاعتراف. ربما هذا يساعد كلينا على تطهير جروحه. الإقرار بالذنوب أول خطوة لمداواة الأخطاء.
أعقبت فورا: صارحني. لماذا غادرت الغرفة؟
قال بصوت ضعيف: أوه…
وشعرت بالدوار. علمت أنه دخل في مرحلة عذاب الضمير وانتقلت حالته لي. لا شك أنه كان ينوي على ذنب خطير.
ربما سولت له نفسه أن يهرب. كان من فترة يتابع أخبار قوارب الموت. وكيف يهرب بها عامة الناس إلى بلدان أحلامهم.
أمرنا غريب نحن البشر.
ما لا نحققه في حالة الرخاء ندخل إليه من باب الفوضى والحرب.
وخشيت أن أقسو عليه. فقد يصيبه ارتفاع حاد بالضغط وأفقده، يعني يموت. ولست على ثقة أنني سأنجو لو مات.
أليس هو جزءا مني. حتى لو هو ظل وأنا أصل. لذلك تهاويت على الكرسي الثاني وجلست خامدا بانتظار الإسعاف.

٭ كاتب سوري

أنا وظلي أيضا

صالح الرزوق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية