لأنه لا يوجد في قريتنا رصيف طويل وآمن أو حديقة عامة، باستثناء ملعب كرة القدم المسوّر والمقفل، ولأنني لا أغامر بدخول الأحراش أو غابة الزيتون المحيطة بالقرية ليلاً، فقد خرجت وزوجتي لرياضة المشي على رصيف الشارع الرئيسي عكا صفد الذي يعبر في أرض القرية!
على بعد متر ونصف المتر منا تمر السيارات بسرعة هائلة، ومن مختلف الأحجام، جال في خاطري أن سائقا قد ينحرف لجزء من الثانية وهو يكتب رسالة غرامية لعشيقته على هاتفه فيصرع كلينا، تخيلت وزن السيارة وقوة ضربتها، بعضها قد يطيّرنا عشرات الأمتار، وبعضها قد يوصلنا إلى مسافة مئة متر وربما أكثر، وبعضها سيلصقنا بالإسفلت، وهذا أمر ليس نادر الحدوث.
على مر السنين قتل على هذا الشارع رجال ونساء وأطفال وشيوخ خلال عبورهم إلى الضفة الأخرى من الشارع، بعضهم طار بالفعل، وبعضهم التصق لحمه بالإسفلت! كذلك قتل عدد كبير من الخيول والحمير والأبقار والكلاب والماشية، أذكر رجلا وقف جانبا يبكي حصانه المحتضر بحرقة، من دون أن يجرؤ على الاعتراف بأنه صاحبه، كي لا يحاكم ويدفع تكاليف تحطّم السيارة التي دهسته وإصابة سائقها.
كذلك راودني هاجس مرور سيارة فيها مشاغبون فيلقون علينا زجاجة فارغة أو ما شابه، أذكر قبل سنين مرت سيارة عسكرية ألقي منها غطاء اسطوانة غاز باتجاهي، كان ارتطامها بالإسفلت مثل القذيفة، لو أصابتني في وجهي لكنت الآن بنصف وجه أو قتلتني، وأصبحت في عداد ضحايا الشارع الذين يستذكرهم الناس كلما ازداد عددهم واحدا، وفي مرة أخرى أشهر رجل جالس إلى جانب السائق بندقية رشاشه وأطلق صلية في الهواء قريبا جدا من رأسي، ورأيته يقهقه بسادية، إذ رآني أقفز إلى الممر مذعورا، لو أصبت وقتلت، لسجلت القضية ضد مجهول، وربما أثيرت شكوك حول سبب مصرعي، سيكون من يقول إنني شهيد، وستكون آراء أخرى في الموضوع.
كذلك عثر مرة على شاب رياضي ملقى على جانب الشارع غارقا بدمه، بعد أشهر من الحادثة، استطاع أن يقف على قدميه، ولكن لسانه صار ينوء بكل حرف، وكذلك حركة جسده، وانحسرت ذاكرته كعضلاته، ولم يعرف أحد ما الذي جرى له.
لهذا كنت بين فينة وأخرى خلال المشي أمارس رياضة شتم سلطتنا المحلية التي ترفض فتح ملعب كرة القدم للراغبين في المشي ليلا، وتبقيه مغلقا «حرصا على العشب الأخضر»، ولا تفتحه إلا لتدريبات ومباريات فريق كرة القدم، وعندما احتججت مرة بأن الملعب ملك للجميع، وهو أصلا أرض وقفية، وليس لفريق كرة القدم لوحده، تصدى لي كثيرون قائلين «إن فريق كرة القدم يرفع رأس البلدة عاليا ووضع اسم قريتنا على الخريطة، فماذا تفيدنا حضرتك من المشي ليلا».
أثناء مشينا لاحظت في نور مصابيح الشارع وجود رجل على حافة القناة المحاذية، يحمل قنينة بلاستيكية كبيرة، يشرب منها بين لحظة وأخرى، كأنه لا يستطيع ابتلاع الماء دفعة واحدة، كان يمشي ويبحث عن شيء، رأيت ملامحه في نور المصابيح الخافت، إنه ليس عربيا، على الأرجح أنه من أصول روسية، شككت أنه تاجر أو مستهلك للمخدرات ينتظر شخصا، التدخل في هذه الحالات خطر، إلا أن الرجل هبط وراح يتقدم ببطء في مجرى المياه الآسنة وخاض فيها حتى وصل أريكة ألقيت في المجرى، يبدو أن أحدهم لم يجد مكانا يتخلص من هذه الخردة سوى مجرى المياه الذي ينمو فيه البعوض بأحجام الفراشات.
ألقى بجسده على الأريكة دفعة واحدة، قلت لنفسي «ربما اتفقَ مع أحدهم على صفقة مشبوهة في هذا المكان الغريب.
وصلنا البيت واسترحنا، وبعد ساعة خرجنا مرة أخرى لشراء الخبز من الفرن، ولكن زوجتي قالت لي: ماذا تظن بالرجل الغريب في قناة المياه؟
التففت بسيارتي باتجاه الشارع الرئيس، رحنا ننظر في ظلمة مجرى المياه، فوجئنا أنه ما زال مستلقيا بلا حراك على الأريكة. قلت لنفسي…روسيا أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، فأي شيطان أتى بهذا لحشر نفسه في هذا المكان الآسن؟
– سأتصل بالشرطة!
– ولماذا تتصل! سيتركونه ويحققون معك…قد يأخذونك لساعات، قد يكون مجرما أو تاجر مخدرات.
– بل يبدو لي أنه مسكين، لا تنسي أن لي ضميرا سيؤنبني كثيرا لو سمعت غدا في أخبار الصباح «العثور على جثة رجل مجهول بمحاذاة قرية مجد الكروم»..
اتصلت بالشرطة فرد المناوب بالعبرية….من أنت؟
– أنا من مجد الكروم.
– نعم «مجدال كوروم»…ماذا عندك؟
– أرى رجلا مستلقيا على أريكة في مجرى المياه الآسنة في جانب شارع خمسة وثمانين..
– لم أفهم كيف على أريكة في مجرى المياه؟
– نعم هناك في وسط المجرى الآسن بجانب الشارع أريكة وهو مستلق عليها…
– حسنا ماذا يعني هذا؟
– لا يبدو الأمر طبيعيا!
-ولماذا يفعل ذلك؟ هل تعرفه؟
-لا.. لا أعرفه.. يبدو أنه نائم..
– لعله سكران! هل هو من جماعتكم؟
-من جماعتنا؟ لا.. لا بل من جماعتكم
-لا تتحرك من مكانك، ستصل دورية حالا
بعد دقائق قليلة وصلت دورية، فيها رجلا شرطة
– أنت الذي اتصلت؟ أين الرجل؟
– إنه هناك في الظلمة..على (الأريكة)..
أضاء الشرطي مصباحا يدويا، وقف على حافة المجرى وراح يناديه..هييه ما الذي تفعله هناك…استيقظ ..تعال هنا… لم يرد الرجل النائم، واحتار الشرطي ماذا يفعل.
– رفعت عن الأرض حصوة صغيرة وألقيتها في المياه قريبا منه، لعله يستيقظ ..
فقال الشرطي – قد تؤذيه بالحجر، لا تفعل هذا…
– قصدت إيقاظه
– هكذا لن توقظه
صار الشرطيان يناديان بقوة ..»هييه هييه أنت قم.. تعال هنا:
دار الشرطي حول نفسه، اقترب حتى حافة المجرى وظننت أنه سيخوض في المياه، ولكنه استل المسدس من جراب على خاصرته وبدون تحذير أطلق طلقة في الهواء… تململ الرجل… فأطلق ثانية وثالثة ورابعة، فاستيقظ الرجل مذعورا ومولولا ومرتجفا: لا تقتلني لا تقتلني.. أنا يهودي.. لا تقتلني أنا يهودي..
– تعال هنا
ببطء مشى في المياه متثاقلا باتجاه الشرطي وهو يرتجف..
– لماذا نمت هنا، هل معك بطاقة؟
مد الرجل يديه إلى جيوبه، وما لبث أن أخرج بطاقة ما وهو يردد.. أنا يهودي أنا يهودي…
تناولها الشرطي وأضاء بمصباحه عليها، ثم ناولها للشرطي الآخر، فذهب هذا إلى السيارة وفحصها على الحاسوب.. ثم عاد الشرطي وهمس له: إنه هارب من مستشفى الأمراض النفسية.
ومضى ثلاثتهم إلى السيارة بينما الرجل الغريب يردد.. أنا يهودي.. أنا يهودي..
سهيل كيوان
لقد دكرنيوهدا المقال الرائع بمقتل الشاب الفلاسطيني المختل الدي كان يسبح في وغطئ غزة و رغم اشارة احد المواطنين بأنه مختل و لكنهم لم يبالوا و اطلقوا النار عليه.
اي شيء فلاسطيني يربك كيانهم..
لعنة الله على الصهاينة.
كالعادة مقال مؤثر و ممتع .
أول ما تبادر إلى ذهني من العنوان آنا يهودي ، ما المئشكلة ?فنحنالعرب ﻻ مشكلة لنا مع اليهود كديانة ، إنما مع المشروع الصهيوني ،ممثل في إسرائيل كمشروع إستعماري في المنطقة .
المقال،عفوي ومعبر ،ورادار سهيل يلتقط ذبذبات صادقة وعميقة تعكس وعي وموهبة ،ونصيحة ،د. أثير ،من أخطار الطريق ،تستحق اﻹهتمام ،وسلامات للجميع ،ورمضان كريم .
(كذلك راودني هاجس مرور سيارة فيها مشاغبون فيلقون علينا زجاجة فارغة أو ما شابه…)
أضحكتني هذه الجملة ذلك أنني في كل مرة أخرج فيها للشارع الرئيسي وأعتقد أن صاحب هذه السيارة أو تلك صهيوني سرعان ما أدير ظهري باتجاه الشارع خوفا من أن يكون معه زجاجة حارقة ويلقها علي فأنا أفكر أن يحترق ظهري أفضل من أن يحترق وجهي، طبعا أخ (سهيل) لا أضحك وقتها بل كل رجائي أن يمر الموقف على خير ههههه… الحمد لله حوادث السير عندنا قليلة وأذكر آخر مرة عندما حصل حادث سير بين سيارتين صاحبيها عربيين أنني رأيت جنديا صهيونيا يواسي عربي ما رآه متوترا حيث ربت على كتفه وأخبره أنه لم يحدث شيئا للراكبين في السيارتين، هذا المشهد لحظتها ذكرني بطاغية الشام في ما يفعله بشعبه من أعاجيب وحشية ليلا نهارا ففكرت من أولى بهذا التصرف الإنساني؟؟!!.. سلمك الله من حوادث السير ومن كل سوء.
كل شيء في بلادي غير طبيعي ؟! فقدوم الغريب من بلاد الغربة وطرد اهل الدار شيء سيء وغير طبيعي !! واحتقار الاصيل من قبل المهجن ايضاً شيئأ غير طبيعي !!
ان تقتلني (احياناً ) بحسب الهوية شيئاً طبيعياً ومن المسلمات المدونة في بروتوكولات محاكم التفتيش !!
نكران حقي ..شيءٌ طبيعي !! ولكن تواجدي هو الغير طبيعي !!
مفهومٌ طبيعي لاناسٍ غي طبيعيين؟! ..
كيف يا اخي سهيل تجيز لنفسك بهذه المخاطرة ؟ وتمشي في دياجير الظلام متحدياً كل الاشياء الغير طبيعية لهذا الشعب الغير طبيعي؟؟!!
انا اخي سهيل لا ابعد عن مكان سكناك الا بعض عشرات الكيلو مترات , ويعتريني الخوف من ممارسة الرياضة الليلية , ليس لاني جبان!! ولكن لان الغاب الذي اعيش به مليء بالمفترسين والمعتوهين وذو العاهات العنصريين.
انا من المتابعين بقراءة مقالاتك , انت كاتب خلاق تضع في الكلمة روحاً تجعلنا نحن القراء نحس تجسد الربانية وشفافية الانسانية من خلال معناها وفحواها اخي سهيل والسلام
مقال رائع شكرا لك .
هل هو من جماعتكم؟
-من جماعتنا؟ لا.. لا بل من جماعتكم.
كانت هذه العبارة بالذات تتردد سراً على الألسن كثيراً في سوريا لمعرفة ما إذا شخص ما سني (من جماعتنا) أو علوي (من جماعتهم) أو بالعكس.
على كل حال بالنسبة للمقالة أعلاه رائعة بكل المقاييس, من حيث المعنى والمبنى والظرافة وتمكن الكاتب من تبسيط المعنى وإيصال الفكرة بشكل مشوق دون التضحية برصانة النص.
تحياتي أستاذ كيوان ولكن لي ملاحظة وأرجو أن لا أكون مخطئاً: يبدو لي أنكم مرتاحين ( لا أقول سعيدين) بالحياة نوعاً ما في فلسطين المحتلة اكثر مما هو عليه الحال في كثير من الدول العربية, هل هذه مفارقة أم أن انطباعي خاطئ. أرجو المعذرة.