■ عادة ما يتولد شعور عند دارسي تاريخ العرب قبل الإسلام، بمحدودية المادة التاريخية التي وصلتنا عن ذلك العصر، وتتجلى محدودية الأخبار هذه من مجرد مقارنة بسيطة بين الكم الذي وصلنا من أخبار عن أحداث مهمة جرت في العصر الإسلامي، وأخرى بالأهمية نفسها جرت قبله في المرحلة قبل الإسلامية؛ ففي ما يتعلق بتاريخ المرحلة الإسلامية، كان «المؤرخ القديم» يخصص فصلا مستقلا ترد فيه أخبار كل خليفة من الخلفاء؛ أما بالنسبة إلى تاريخ ما قبل الدعوة ، لا يورد سوى بعض الفقرات المفككة والمبعثرة والعرضية؛ يوردها في سياق بياني ليس له أصلا غاية التأريخ للوقائع.
في هذا السياق، يرى المؤرخ التونسي محمد سعيد في نصه الماتع الجديد «أنبياء البدو» الصادر مؤخرا عن دار الساقي، أن مرحلة « الإسلام النضالي»، التي يقصد بها مرحلة إسلام النبي محمد وأصحابه، تميزت بكون المناخ السياسي والثقافي المرافق لها كان دافعا نحو نزع الدلالة عن تاريخ الجاهلية. لا غرابة في الأمر، قياسا على ما يحدث في مراحل تاريخية كثيرة أخرى عبر التاريخ الإنساني، لأن التأسيس لمرحلة جديدة غالبا ما يتم على أنقاض مرحلة سابقة. وبديهي أن التحول الإسلامي لم يقتصر أثره على المستوى العقدي، بل المصادر عادة ما تتوفر من مصادر للتدليل على أن المستويات «المستهدفة» بالتغيير لم تكن فقط المعتقدات الدينية، بل كذلك الكثير من التعبيرات الثقافية القديمة التي كانت تتداولها الذاكرة ويسوقها الإخبار التاريخي.
لكن يبدو أن زمن الأمويين كان زمنا تشكلت خلاله صورة إيجابية عن العصر وعاد فيه إليه الاعتبار. وهنا يرى سعيد أنه لا فائدة من إثارة تلك الحجة التقليدية القائلة بأن الأمويين كانوا أقل التزاما بالإسلام من غيرهم. في هذه المرحلة، وعلى نحو مواز لحيوية العناصر القبلية في الأمصار والفتوح، اكتسبت وقائع التاريخ الجاهلي حيزا أكثر اتساعا، واستعادت مكانتها كمكون من مكونات الثقافة المتداولة، التي ربما ارتقت بطريقة ما إلى درجة ما يشبه الثقافة القومية، حيث يذكر المسعودي أن معاوية كان يستمر إلى ثلث الليل في قراءة أخبار العرب وأيامها.
العامل الأبرز في هذه العودة وفقا لمؤلف «النسب والقرابة في مجتمع العربي قبل الإسلام» يبدو في افتقار الحكم العربي ثقافة سياسية. لا ريب هنا أن التجربة المحمدية ولدت ومثلت سابقة قوية، لكن، بعد وفاة الرسول انتابت الجماعة حيرة، وتفجرت بسرعة كل اختلافاتها التي كانت مكبوتة بحضور الزعيم، ولم تجد في السوابق القريبة إلا القليل تستعين به، وتستدل في مواجهة مشكلات الحكم التي تزداد تعقيدا يوما بعد يوم. في ضوء هذا، يمكن القول إن الأمويين كانوا مدفوعين لأن يحكموا دولة الإسلام بثقافة قبلية، وإن مدرستهم الكبرى في السياسة كانت المدرسة القبلية «شعرة معاوية» التي حفظها التعبير العربي.
ولعل ما يدل على هذا، بصورة أكثر وضوحا، هو أن الأمويين لم يقتصروا على الاستنجاد بعلماء القبائل، بل نظروا إلى العلم القبلي بوصفه ثقافة ضرورية لأبنائهم تعدهم للحكم، فعلى سبيل المثال تفرغ دغفل بن حنظلة لتعليم يزيد بن معاية النسب.
الحصيلة الأهم أن المرحلة الأموية كانت إلى حد كبير مرحلة انخراط تراث الجاهلية في دائرة الثقافة، ومرحلة اختلاطها مع التراث الحديث للإسلام، وعادت هذه المرحلة إلى مستوى الوعي المتداول في صورة مرحلة حية بأبطالها وأعلامها.
مع قدوم العصر العباسي، عادت فترة الفتور والتراجع في تداول وقائع التاريخ الجاهلي. فقد كانت المرحلة العباسية مختلفة عن سابقاتها، لأنها مرحلة «الشمول الإسلامي» والتعبير هنا لعبد الحي شعبان، وكان هذا الشمول دافعا موضوعيا لتغييب محورية العرب في تاريخ الإسلام، تلك المحورية التي تكرست في العصر الأموي وأصبحت محل مراجعة منذ دخول ثقافات أخرى دائرة المعرفة التاريخية والعلمية، وأصبح لهذه الثقافات ممثلون ومشاركون باسم ثقافة إسلامية فوق عربية. من هنا وفقا لسعيد، يمكننا أن نفهم حرص الطبري على دمج تاريخ العرب والفرس في تاريخ واحد وبعنوان واحد «تاريخ الرسل والملوك»، ليعكس بذلك إرادته في توحيد الوعي الإسلامي للتاريخ. في هذا المناخ الثقافي الجديد، أصبح تاريخ الجاهلية تاريخا إثنيا يتعلق بالعنصر العربي فقط بين تواريخ أخرى عدة لشعوب أخرى، وأصبح لهذه الشعوب بدورها مؤلفون وكان هؤلاء بحكم أصولهم أكثر استعداد للكفاف في أخبار العصر الجاهلي، والاكتفاء بالصورة التي تشكلت وأغلقت في تاريخ الطبري مثلا. خاصة في ما يتعلق بتاريخ الطقوس والمعتقدات لدى العرب قبل الإسلام، الذي عادة ما نظر له بوصفه عبارة عن خرافات وأساطير، وأن الجهل بالمقدس هو الذي كان يطغى على حياتهم وسلوكياتهم قبل الإسلام.
نبي القبيلة: البحث في تاريخ العرب الديني المجهول
ولنقد الصورة السلبية السابقة، عكف سعيد على دراسة الدور الديني الذي أدته بعض الشخصيات العربية في تاريخ العرب قبل الإسلام، ومن أهم هذه الشخصيات، شخصية خالد بن سنان العبسي، التي لعبت دورا دينيا/ سياسيا؛ مع ذلك فقد بدا في المرويات الإسلامية شخصية هامشية وغير واضحة المعالم. إذ تغيب أخباره من أبرز الموسوعات الأدبية والحوليات التاريخية مثل كتاب «الأغاني» و«تاريخ الطبري» و«تاريخ اليعقوبي».
ويتمحور الإخبار عن العبسي حول معطى واحد يتمثل في أنه من أنبياء «أهل الفترة»، وهي جماعة من أهل التوحيد وممن يقرون بالبعث، ولذلك من الطبيعي أن ترافق هذا التعريف معجزات وخوارق، من أشهرها قدرته على إطفاء نار الحدثان، نار بركانية على أطراف الحجاز؛ كما ترد حادثة مشهورة أخرى عنه تقول إنه أوصى أتباعه بأن يدفنوه في مكان أرشدهم إليه، وأن ينتظروا علامة، تتمثل في مجيء حمار أبتر أشهب اللون يدور على قبره وأوصاهم، اذ رأوا هذه العلامة، أن ينبشوا قبره ويخرجوه حينئذ. ليعلمهم بما هو كائن بعد الموت. لكن، وبعد وفاته، رغم ظهور العلامة الموعودة، عارض ابنه نبش قبره، واستجاب القوم لإرادته. يلاحظ هنا أن الحمار رمز متداول في التراث الشرقي القديم لزهاد الصحراء ونساكها، وبالتالي فهو جزء من ثقافة شعبية.
انطلاقا من هذا المضمون قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن الشخصية خرافية وأنه من العسير أن تكون موضوعا لسيرة تاريخية بالمعنى المحسوس، لكن المؤلف يرى أن هذا الحكم يبقى متسرعا؛ إذ أن هناك من الروايات ما يثبت أحيانا أن للرجل وجودا لا شك فيه، وأن حياته قابلة للدراسة والمراقبة التاريخية.
ورغم أن ذكر حادثة «الحدثان» يرد من بين أمكنة كثيرة جرت فيها حياته، فإنه يمثل نقطة إرشاد ثمينة، وقد يمثل محور الجغرافيا التي جرت فيها حياته، ذلك أن بعض الأخبار تشير إلى أن عبادة وتعظيم النار، كانتا شائعتين في القبائل العربية في الجاهلية القريبة، ولاسيما في شمال الجزيرة ووسطها، ولم تكونا تقتصران على الدائرة الإيرانية المجوسية فقط. تشير مصادر كثيرة، وفي الفترة القريبة من الإسلام، إلى نار المجوس وإلى تفشي عبادتها في بعض القبائل العربية. أما عن عبادة الجبال، فيرد في «الأغاني»، أن طي كانت تعبد جبلا أسود نهاهم الرسول عن عبادته، وليس من العسير العثور على شواهد أخرى في المصادر، لذلك، يصير بعيدا عن التصور أن يكون هذا التعليل قد افتعل في أزمنة متأخرة عن زمن الوقائع. إلى كل هذه، يمكن إضافة بعض الإيحاءات الخفيفة الآتية، بصورة لاإرادية، من داخل الروايات المتعلقة بمسألة إطفاء « نار الحدثان»، والدالة على أن للأمر علاقة بمقاومة انتشار عبادة النار: إذ تمثلت كرامة خالد (أو إعجازه) في إطفائها (ليس إشعالها)؛ مات لأن أتباعه لم يطبقوا وصيته لهم بألا يدعوه باسمه، ما يعني بشكل ما أن نبؤته فيها مقاومة للنار وإن ما له من كرامة كان كافيا للتفوق على لهيبها. على ضوء ما سبق، يرى سعيد أن العقيدة التي كان يروج لها خالد بن سنان تمثلت في مقاومة انتشار المجوسية وتعظيم النار. مع هذا، لسنا مجبرين على الاعتقاد في انتشار واسع لهذه العقيدة. هذه الدعوة، تفاعلت مع أزمة حادة أخذت تدركها القبيلة أواسط القرن السادس، كان من نتائجها تفكك سلطة أشرافها بمقتلهم، أو تحولهم إلى أجوار وحلفاء في قبائل أخرى، لذلك، يبدو أن خالد بن سنان وأمام تأزم الزعامة في شكلها التقليدي حاول زعامة من نوع آخر، زعامة لا تستمد شرعيتها من الحرب بقدر ما تستمدها من المعتقد والسياسي. حين وفاته ترك لهم جملة من الوصايا، كأننا بخالد بن سنان يستنفر آخر أدوات الثقافة القبلية لتحقيق نوع من الوحدة لقومه، وضمان استمرار حرمتهم الجغرافية، وكذلك في الحياة، لكن رغم ذلك لم يتمكن من بلورة حركة ذات أرضية اجتماعية واسعة، وغاب الاتباع بالمعنى الذي تفرزه النبؤة الشرقية وبقيت الحركة في صورة تعبير أقرب إلى الأحداث المعزولة منها إلى التعبير عن برنامج للتحول الحقيقي، وبقي خالد بن سنان في حدود قديس، أو داعية هامشي على البنية القبلية.
٭ كاتب سوري
محمد تركي الربيعو