لما ألـْجمتِ المدافعُ أصواتـها، وخبتْ نيرانُ الحرب العالمية الثانية، في منتصف القرن العشرين، كشف المفكر الفرنسي أندريه بروتون عن أسرار المذهب السيريالي. جاعلا من الفوضى والعبث، الذي خلفته هذه الحرب الكونية، منطلقا أساسيا لزعزعة البُنى الثقافية القائمة والمهيمنة آنذاك. فما كان للأدب إلا أن يعكس، بحرارة، هذا الخراب الذي حل بالإنسانيةِ جمعاء. ونتيجة لذلك، أصبح من اللازم أن يفصح بروتون، باختصار، عن الأسس والركائز التي سيُشيد عليها منارته ومعلمته الثقافية الجديدة، باعتبارها استجابة مطلقة وفورية فرضتها الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي خلـفها هذا الدمار. إن في بيان 1948، تعريفا مقتضبا لمفهوم السيريالية، يلخصُ فيه، أندري بروتون، أهم منطلقاتها الفكرية والفلسفية. فالسيريالية، حسب البيان ذاته، هي ما سيكون عليه العالم. بالفعل فهي إشارة ضمنية إلى الإدراك العقلاني للواقع أولا، ثم استشراف للمستقبل في ما بعد.
إن انتشار هذا المذهب في أوروبا، كان له كبيرُ الأثر في الثقافة العربية، لاسيما أن لهذه الأخيرة أواصر وثيقةً تربطها بالمعنى، إلى حد أنها استطاعتْ أن تمجد وتعظم الكلام الذي تسكنه المعاني، فلا خير في كلام هجرتهُ الإفادة. وتبعا لذلك، فأول ما نميز به الكلام النحوي والصرفي والبلاغي، في الدراسات العربية، هو الإفادة والإجادة في المعنى، أي أن الجملة المفيدة هي التي تـُفيد المعنى، بينما الجملة غير المفيدة هي التي تستهتر بالمعنى وتضرب به عرض الحائطِ، فمختلف المشارب المعرفية العربية، تستظل تحت عريش المعاني، كنسيج يؤمن العبور نحو الاتساق والانسجام النصي.
ومن هذا المنطلق، فالسيريالية هزت عرش الثقافة العربية، بل نقضت ما بنته بالإسمنت المسلح طيلة قرون من الزمن. فكشفت عن بحور وضفافٍ معرفية أثيلة، ظلت لعقود في منأى عن الإبداع العربي. مع السيريالية بدأنا نسمع عبارات من قبيل: «في اللامعنى يُوجدُ المعنى» أو «في إدراك ما هو كائن كشف عن هذا المستور والمجهول». فهي تجمع بين الإدراك واللإدراك، بين الحضور والغياب، بين الكائن والممكن وما سيكون، فهي عبور آمن نحوالمتناقض في ذاته، ليكشف عن كينونته وأسراره.
فلا مناص من أن يتأثر العالم العربي بهذه الموجة المعرفية الوافدة، التي اجتاحت أوروبا منتصف القرن العشرين، فكان للأدب العربي نصيبٌ أوفرُ من هذا المد المعرفي الجديد. إن بنية التأثير والتأثر من أهم خصوصيات المثاقفة الموجودة بين العدوتين، بين الأنا والآخر، لاسيما أن الانفتاح على ثقافة الآخر أضحى شرطا وجوديا. وتبعا لذلك، كان المسرحُ أبو الفنون أكثر عُرضة لهذه الطفرة السيريالية الجديدة، التي تدق طبول التغيير. فإبداعات كل من سعد الله ونوس في سوريا، وعبد الكريم برشيد في المغرب تتبنى مفاهيم المد السيريالي الجارف، ومن ثم كان للبعدِ الأيديولوجي حضورٌ وازنٌ في كل إبداعاتهم المسرحية، على اعتبار أن السيريالية تستوعب اللحظة التاريخية، بهدف إعادة تشكيل الواقع على أساس أيديولوجي.
وبناء على ذلك، يدورُ النص المسرحي «سهرة ٌمع أبي خليل القباني» لسعد الله ونوس في فلك أيديولوجي محض. يُعري الكاتبُ، في الخطاب المسرحي المباشر، الأنساق الذهنية للحياة الاجتماعية والنفسية على عهد هارون الرشيد. بينما الرسالة غير المباشرة يؤرخ فيها ونوس لمرحلة انتقالية في المجتمع العربي، تتسم بالحيطة والحذر من كل ما هو غربي. في هذه الانعطافة يأتي المسرح، كثقافة، في بؤرة الصراع بين الأصالة والحداثة، فتحديث بُنى المجتمعات العربية يتطلب الانفتاح على ثقافة الآخر، بمقتضى ذلك حورب المسرح وصودر في الثقافة العربية، لأنه بدعة أوروبية. إلا أن عبد الكريم برشيد، في مسرحيته المتميزة «ابن الرومي في مدن الصفيح» تسلل إلى الرؤية الأيديولوجية، عبر وسائل عدة أهمها:
التراشق الزمني بين الماضي والحاضر، حيث استقدم عبد الكريم برشيد الشاعر ابن الرومي، المعروف بتشاؤمه ومرضه، من الزمن العباسي إلى الزمن الحاضر، المتمثل في مدن الصفيح، وليدة الثورة الصناعية. إن اختيار عناوين مسرحيات عبد الكريم برشيد، التي تتسم بهذه الفانتازيا، من قبيل: «امرؤ القيس في باريس» أو«النمرود في هوليوود» أكبرُ دليل على التداخل الثقافي والزمني في بناء صرح الثقافة الإنسانية عبر التاريخ. التفاعل اللامشروط مع أوضاع الفقراء والمُهمشين في المدن العربية، عبر لجوئه الى التراث العربي من منظور احتفالي. العودة إلى الدور التاريخي الريادي، الذي يقوم به المثقف داخل مجتمعه، لقهر التخلف، وبناء فكر جديد، يكون قادرا على رفع التحديات.
من هنا، يتضح مدى تغلل الفكر الغربي في الثقافة العربية، بل أصبحت، هذه الأخيرة لا تقوم لها قائمة من دون تبني هذه الفلسفات الجارفة للأخضر واليابس. وما عسى الفكر العربي، إلا أن يدور في فلك هذا الاستهلاك الثقافي، مادام الآخرُ محركا لعجلة التاريخ.
٭ كاتب مغربي
رشيد سكري