أندريه شديد… عن «الآلهة البائسة» وروح التساؤل المستمر

حجم الخط
0

القاهرة ــ «القدس العربي» من محمد عبد الرحيم: «لا أجرؤ أن أتكلم عن البشر/بالكاد أعرف نفسي». (أندريه شديد)
ستظل أعمال أندريه شديد (20 مارس/أذار 1920 ــ 6 فبراير/شباط 2011) موضع تأمل ودراسة، نظراً لتنوع إنتاجها الأدبي ما بين الشعر والقصة والرواية، من ناحية، كذلك وجهة النظر الوجودية التي لم تتخل عنها في كل أعمالها، إضافة إلى اللغة الشعرية التي تسيطر تماماً على نصوصها، وكأنها تنويعات متباينة لرؤية تصر الكاتبة على مراقبة الحياة من خلالها. لم تعان شديد الاغتراب، رغم الانتماءات الكثيرة، التي تبدو أحياناً في غاية التناقض، فهي تنتمي إلى عائلة لبنانية الأصل، وهي مصرية المولد، وخريجة الجامعة الأمريكية في القاهرة، وأخيراً فرنسية اللغة والكتابة. لكنها في الأول والأخير شرقية الروح، هذه الروح التي لم تفارقها في معظم أعمالها، فهناك دوماً حالة البحث الصوفي، وفكرة محاولة الوصول، والطريق الشاق الذي يجب أن يقطعه الإنسان، والاحتفاء بالتجربة مهما كانت نتائجها، وهي في الغالب تمجيد للإنسان طالما كان يمتلك بالفعل روحاً صادقة.
أصدرت أندريه شديد ما يقارب الـ 20 رواية ومجموعة قصصية، في ما ضمت نتاجها الشعري في ديوانين هما «نصوص من أجل قصيدة» (1949ــ 1970) و«قصائد من أجل نص» (1970ــ 1991). من أعمالها الروائية .. «الرماد المعتق، جوناثان، اليوم السادس، نوم الخلاص، دروب الرمل، بيت بلا جذور، ونفرتيتي وحلم أخناتون». وكتبت للمسرح «بيرنيس المصرية والعارض». حازت شديد الكثير من الجوائز الأدبية، أهمها النسر الذهبي للشعر عام 1972، وجائزة غونكور للرواية عام 1979 عن كتابها «الجسد والزمن». كما مُنحت وسام الشرف الفرنسي.

دهشة طفل

ترى شديد في الشعر أنه جوهر تجربتها الحياتية، رغم اللغز الدائم الذي يوحي به، وهو لغز ملازم لوجود الإنسان، مثل قلقه من جدوى حياته، التي عليه في النهاية احترامها، والنظر إليها في دهشة طفل. هكذا ترى شديد الحياة من خلال الشعر. وتعلق قائلة حول كتابيها الشعريين «نصوص من أجل قصيدة» و«قصائد من أجل نص» .. «نكتب نصوصاً ونصوصاً في محاولة للوصول إلى القصيدة الأخيرة، متمنين ألا نصل أبداً إلى تلك القصيدة». بهذه الروح تكتب شديد الشعر، وتعتبره جوهر وجودها الإنساني، فهو بحث دائم عن الإنسان في ظل وجود قلِق، وتساؤل مزمن عن الحياة وجدواها، وهل سنمتلك طوال رحلتنا هذا اليقين الزائف لمعرفة أرواحنا، المختبئة دوماً خلف وجوهنا التي لم نختر ملامحها، ولا جغرافيتها التي تتجلى قيمة الإنسان في السفر ومحاولة الوصول إليها..

«خلف الوجوه والنظرات
نبقى صامتين/
وتخدعنا الكلمات التي نطقناها/
والمثقلة بما نتجاهله أو نصمت عنه.
لا أجرؤ أن أتكلم عن البشر/
بالكاد أعرف نفسي».
ولكن هذه المعرفة التي تريد شديد محاولة الوصول إليها تجعلها ترى في الشعر، رغم غموضه كغموض الحياة نفسها، هو الملاذ الوحيد في هذا العالم، وترى فيه أنه الوحيد القادر على تغيير الحياة، فتقول «إذا لم يقلب الشعر حياتنا رأساً على عقب فلا شأن له بنا ولا شأن لنا به. وسواء أكان مسكناً أم منبهاً فعليه أن يطبعنا بطابعه الخاص، وإلا فما عرفنا منه غير الدجل».

الآلهة البائسة

تبحث شديد من خلال إنتاجها الروائي عن بشر يتنفسون المعاناة، بدون مواربة أو تسول للمشاعر، ليسوا ضحايا، بل يعيشون الحياة كما هي، ويواجهونها في قوة، ويحتفون بها كآلهة بائسة. في روايتها «اليوم السادس» ــ تحولت إلى فيلم سينمائي من بطولة داليدا، وإخراج يوسف شاهين ــ تحاول «صَدّيقة» بطلة الرواية إنقاذ حفيدها «حسن» من وباء الكوليرا، الذي ضرب مصر في أربعينيات القرن الفائت. هذه الفلاحة المصرية لا ترى سبباً لوجودها حية إلا بهدف إنقاذ هذا الطفل، الذي لا حيلة له في الحياة إلا وجوده، وعبر رحلة مضنية من القاهرة إلى الإسكندرية فوق أحد المراكب، تصر صديقة على السفر حتى يرى حفيدها البحر، تحقيقاً للمقولة الشائعة بأن الطفل سيُشفى عند رؤية البحر، وأنه إذا مرّت ستة أيام سينجو من الموت. ولكن شبح الموت يتجسد أخيراً ويخطف الطفل من أحضانها. ورغم ذلك تواصل الحياة، وهنا يكمن سر قوة هذه المرأة.
نموذج المرأة القوية يتكرر في أعمال أندريه شديد بصورة أو بأخرى، ففي روايتها «الرسالة» كانت البطلة «ماري» تناضل من أجل حبها، في ظل عالم الحرب. وبدون أن تكشف شديد عن اسم المدينة التي تدور فيها الرواية، لتعميم الحالة، وعدم قصرها على مكان بعينه، تحاول ماري الوصول إلى حبيبها، الذي على الجانب الآخر من الأطراف المتحاربة. فتصاب بجراح من جراء رصاصة أصابتها خلال عبورها للجسر الفاصل بين شطري المدينة للقاء حبيبها في الجانب الآخر، لتؤكد له أنها ما زالت على قيد الحياة وأنها ما زالت تحبه. إلا أنها تدفع حياتها ثمناً لهذا الحب. فالحب أقوى من الحروب، حتى إن كان الموت دائماً بالمرصاد لمثل هؤلاء العشاق الصادقين. قوة المراة التي قد تظل كامنة داخلها، وقد تنطلق منفلته في لحظات اليأس. ففي روايتها «نوم الخلاص» تتزوج «سامية» بالإكراه من رجل قاس، لا يمتلك إلا النقود لمساعدة عائلتها، وبعد معاناة طويلة، انتهت بموت طفلتها الوحيدة، تنتقم سامية من قهرها وتقتل زوجها في النهاية، تعبيراً عن خلاصها من حياة لا تريدها، لطالما صبرت عليها. وهي حكاية تتماس والعديد من النساء الشرقيات، التي خبرت شديد حياتهن ومعاناتهن التي لا تنتهي.
وتأكيداً لمقولة أندرية شديد «إن الزمن هو عدو الإنسان الأول» تأتي روايتها «الآخر» ــ تحولت إلى فيلم سينمائي من إخراج الفرنسي بيرنار جيرودو ــ تدور الأحداث حول عجوز يحاول بشتى الطرق إنقاذ شاب في مقتبل العمر من تحت أنقاض منزل تهدم في الزلزال. فالرجل يحاول أن يستمد وجوده في الحياة من إخراج هذا الشاب حياً، إنها حالة تشبه الولادة، ومن المشاهد الشاعرية في الرواية، التي جسدت حالة العجوز.. مشهد خروج الشاب من تحت الأنقاض، من قِبل رجال الإنقاذ، الذين وصلوا أخيراً، فالعجوز يجلس مُبتعداً مُعطياً ظهره لعملية خروج الشاب، بينما يجلس بجواره رجل يحكي له عما يراه، فيصف خروج الشاب بحالة خروج الجنين، والعجوز روحه على وشك الصعود، فقد منحه الحياة وأنقذه في النهاية من الموت. الموت الذي رأته شديد أمامها، وعرفت أنه وجه آخر لحياة لن تنتهي، فتنبأت به في أبياتها..

«في أي قبر عار يجب أن استلقي،
لأجيب ذلك الصوت
الذي يتكلم مثل روحي؟».

أندريه شديد… عن «الآلهة البائسة» وروح التساؤل المستمر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية