اعتدت من حين لآخر، وأثناء كتابتي للمقال، أن أستشهد ببعض مفاصل تجربتي في الكتابة، ليس بإطرائي لتلك التجربة التي ولدت ومضى عليها الزمن بخيرها وشرها قطعا، وعثرت على الذين ساندوها منذ البدايات، والذين تفهوا من أمرها وما يزالون حتى الآن، وهذا شيء طبيعي، وغير محبط بالتأكيد، ولكن لأن الكاتب أو الشاعر أو أي شخص عالق في هم مرهق مثل هذا، حين يكتب، لا بد يستشهد بتجربة هو يعرفها أكثر، وأصبحت من مواد الخبرة التي يستقي منها أحيانا.
ولا أجد شخصيا أي مشكلة في ذلك، ما دام الكاتب حياديا تجاه تجربته، وليس مفتتناً بها، أو يروج لها بطريقة مخلة، فقط قد يتحدث عن مناسبة كتابة عمل ما، ومن أين استوحى مفرداته، أو يجيب على أسئلة ربما تعلق في أذهان القراء الحقيقيين، أي الذين يهضمون التجارب ويسعون لترسيخها في أذهانهم أكثر، وليس أولئك الذين لم يألفوا القراءة أصلا، ولا كانت هما من همومهم في يوم من الأيام، ولذلك لا يعرفون علاقة الكاتب بتجربته، وعلاقة تلك التجربة بالقارئ والمجتمع.
وفي كل الندوات التي كنت حاضرا فيها، استمعت إلى تجارب متعددة، يرويها أدباء من مختلف الجنسيات، ومختلف مدارس الكتابة، وكلها تستقي من التجربة الشخصية للأديب، كيف عثر على موهبته أولا، وفي أي وقت من أوقات حياته كان ذلك؟، كيف فرح، وترجم إحساسه إلى لغة في الورق، ثم كيف كتب النصوص الكبيرة بعد ذلك وصنف كاتبا أو شاعرا، سيضيف إلى سكة الكتابة أعمالا جديدة بعد ذلك.
هذا السرد الذي ذكرته، يسمى الشهادة الإبداعية، وهي سكة مشروعة من سكك الكتابة، في أي مكان، ومن حق كل كاتب أن يكتب شهادته في الكتابة، ويلقيها في أي مناسبة تحتم إلقاءه شهادة، أو ينشرها في صحيفة أو كتاب بعد ذلك، بغض النظر عن جودة أعمال ذلك الكاتب من عدمها، وبغض النظر أيضا إن كان كاتبا محبوبا ويملك جماهير مساندة، أو كاتبا أخفقت أعماله في الوصول حتى لآخر الشارع الذي يقطن فيه. وقد تحولت تلك الشهادة إلى فن في حد ذاتها، وأصبحت تكتب عند البعض بكثير من التقنيات الجيدة، والأفكار التي لا يجدها الأديب ملقاة على الأرض، وإنما يبتكرها كما يبتكر الرواية أو القصيدة أو المسرحية.
ولطالما نوهت بإعجابي الشخصي بشهادات عربية وغربية كثيرة، منها ما وصف الكتابة باللصوصية لأنها سرقة واضحة لمفردات المجتمع الذي صيغت منه، تحدث في خفية عن الناس، وبعزلة تامة، ومنها ما وصفها بالأمطار التي يخضر بعد هطولها حقل جاف، حين يكتب أحدهم عن بيئة غير مكتشفة، ويتم اكتشافها بعد كتابته، ومنها ما وصفها بمضادات الاكتئاب، التي ترتاح الأعصاب كثيرا بعد اقترافها. وأيضا هذه الشهادة لا يفهم مغزاها من لا يعرف ماذا تعني الكتابة، وماذا يعني أن يكون في المجتمعات كتاب يحترقون، وقراء يسارعون بإطفاء الحرائق.
هذاعلى صعيد الشهادة الإبداعية، ماذا عن الإشارة في صفحة الكاتب الشخصية على الإنترنت، لكتاب جديد صدر، أو كتاب سيصدر في وقت قريب، أو لقاء مع الكاتب سيتم في مكان ما، ثم نشر صور ذلك اللقاء بعد ذلك؟
في الغرب، هذا النشاط مشروع أيضا ومشروع بشدة، فما دامت الكتابة صنعة، فهي بحاجة إلى تنويه عنها، وما دام الكتاب نشر ليباع، فلا بد من الإشارة إلى وقت توفره، ومنافذ بيعه، ونشر مقاطع منه بغرض التشويق، وإلا سيموت حتما، بلا قارئ واحد. وأيضا لا بد من الإشارة لوجود الكاتب في بلد ما، أو احتفالية ما، من أجل أن يعرف من يحبه في ذلك البلد بوجوده في تلك الاحتفالية،، فيلاقيه، ولو طالعنا صفحات كتاب غربيين كثيرين، أو حتى كتاب عرب وأفارقة يقيمون في أوروبا، سواء أن كانت صفحات شخصية، أو من ضمن مواقع التواصل الاجتماعي، لعثرنا على كل ما يحرم على الكاتب العربي أن يفعله، موجودا في صفحاتهم، تجد التنويه عن الإصدارات الجديدة، متى تصدر ومن أي دار نشر، وإلى أي لغة ستترجم، وهكذا، ولعثرنا على جدول بالفعاليات التي سيشارك فيها الكاتب لعام كامل، موضوعا في صدر تلك الصفحات، ولعثرنا على صور للكاتب في معظم مناسبات الكتابة التي كان ضيفا فيها.
حتى كتاب تجمهرت شهرتهم في كل مكان، وأصبحوا نجوما بفضل جوائز حصدوها، أو جماهيرية كاسحة حصلت عليها مؤلفاتهم، تجد صفحاتهم تحمل المحتوى الدعائي نفسه، بلا عقل مغلق، يتدخل ليقمعها، ومن أمثال هؤلاء المشاهير، كتاب مثل: النيجيري وولي سوينكا، واللبناني أمين معلوف، والإسبانيكارل رويس زافون، صاحب رواية: «ظل الريح»، إحدى أجمل الروايات.
الكاتب العربي مسكين فعلا، مسكين حين يجد نفسه وقد أصيب بداء لا فكاك منه ولا علاج له على الإطلاق، مسكين حين يحصي عائدات اجتهاده وسهره، ومحاولاته المضنية لصناعة عالم متميز على الورق ولا يعثر على عائد، مسكين حين لا يسانده وطن، ولا تتصدى لإعالة منجزاته مجتمعات مات من أجلها عشرات المرات، ومسكين جدا، حين تسن الألسنة في بلاده لتجرمه، وتصفه بالتفاهة لأنه أشار مجرد إشارة إلى ما أنجزه، كحق مشروع من حقوقه الضائعة.
كاتب سوداني
أمير تاج السر