تشهد أوروبا مؤشرات مقلقة تستدعي وقفة حذرة لتفهمها، ومع أنه لا شيء يمكن أن يدلل علمياً على وجود تحولات من شأنها أن تغير وجه أوروبا الذي نعرفه حالياً، إلا أن الارتياح لتصريحات المثاليين في المنظومة الأوروبية من موظفي ودبلوماسيي بروكسل وستراسبورغ وفرانكفورت لا يعتبر أيضاً تصرفاً عقلانياً بخصوص القارة العجوز، خاصة بعد أن قدمت ذاتها خلال عقدين من الزمن بوصفها القوة الثانية في العالم من خلال الاتحاد الأوروبي.
الشغب في الملاعب ظاهرة قديمة، كانت بعض الدول تعاني مع مشجعيها المتحمسين مثل بريطانيا، ولكن لم تشهد أي بطولة أوروبية لكرة القدم كثافة لعمليات الشغب كما هي الحال في الدورة الحالية التي تجري على الأرض الفرنسية، فكثير من الجماهير بدأت تنساق لممارسة أعمال الشغب والعنف، مع وجود تركز واضح في هذه الميول لدى دول أوروبا الشرقية والبلقان، أي دول الصف الثاني في أوروبا.
النزعة القومية لا تصنع في ملاعب كرة القدم، ولكن هذه الملاعب تبقى ترمومتراً لدراسة الجمهور في أحد ظروف تجسد العقلي الجمعي في حالته الخام، فأوروبا لم تعد تقدم بصورتها الاتحادية المثالية بديلاً للقوميات الفرعية، خاصة بعد المحنة اليونانية التي جعلت الفردوس الأوروبي يتواضع ليتحول إلى مجرد طاولة لتبادل اللوم وإدانة اليونانيين، الذين بدا ما فعلوه للأوروبيين الشرقيين مثلاً مجرد سعي مشروع للحصول على مستوى معيشي يضاهي ما يعيشه نظراؤهم في أوروبا الغربية، ولو لم يكن الأمر كذلك فما الذي يبرر الدخول في الاتحاد من الأساس.
للوهلة الأولى كانت فرص العمل وآفاق الرفاهية تدفع الدول من الصفين الثاني والثالث، وفق المنظومة الأوروبية للتهافت على الانضمام للاتحاد الأوروبي، وفي حالة تركيا مثلاً، فأحد العوامل التي ساهمت في صعود الرئيس أردوغان كان نتيجة تحقيقه تقدماً ملموساً على الجهود التركية للاتحاد الأوروبي، حتى أن بعضاً من الصحف في ذلك الوقت أطلقت عليه أردوغان الفاتح، ولكن دولاً كثيرة لم تدرك وجود اختلافات جذرية في أنماط الحياة والإنتاج، وأن الطريق للحياة الأوروبية المتخيلة تعيقه حقائق كثيرة تتجاوز الجوانب الاقتصادية، فالاتحاد الأوروبي ليصل إلى تحقيق وضعية الربح للجميع، يجب أن يشهد تضحيات كثيرة، وتبدو الدول الأوروبية في وضعية من يأخذ المبادرة ليتحمل على عاتقه الجزء الأكبر من التضحيات.
البريطانيون، ومهما تكن نتائج الاستفتاء حول بقائهم أو خروجهم من الاتحاد، فإن بريطانيا وضعت الحلم الأوروبي أمام برودة لعبة المصالح التي يتقنها البريطانيون، وهذه الوضعية ستحبط مناصري الاتحاد وحالميه في كل البلدان الأعضاء، خاصة تلك التي تتحمل أكثر من غيرها على المستوى الاقتصادي، وسيعمل على تقوية النزعة القومية التي تكتسب زخمها أصلاً من رغبتها في مقاومة الأوربة، وبعيداً عن المدرجات الفرنسية التي تشهد سخونة المنافسة في الملاعب، وتوتر المتفرجين في المدرجات، كانت شوارع بلدة بيرستال الهادئة تشهد سقوط أول ضحية للحلم الأوروبي، عضو مجلس العموم جو كوكس المعروفة بمواقفها المؤيدة لبقاء بريطانيا في الاتحاد.
القاتل يمثل حفنة من الأفراد شديدي التطرف من مناهضي الاتحاد الأوروبي، وأغلبية من يرون بريطانيا خارج الاتحاد لا يشاركونه بالطبع في عدوانيته التي تشكل سابقة خطيرة في تاريخ الديمقراطية البريطانية وتقاليدها العريقة، ولكنهم بالطبع لن يتقبلوا تحويل جو كوكس إلى شهيدة لبريطانيا الأوروبية، ولن يخلطوا العاطفي بالمادي، فالبريطانيون تاريخياً يجيدون اقتناص الفرص أو على الأقل الخروج بنصيب الأسد منها، ولذلك فحتى لو توجهت بريطانيا للبقاء فإنها ستفرض شروطاً على الاتحاد الأوروبي يجعلها تحصل على المزيد من المزايا وتتملص من العديد من المسؤوليات في المقابل.
هل انتهت صلاحية السلم الأوروبي الذي يتواصل عملياً منذ الحرب العالمية الثانية بوصفها آخر الحروب الكبيرة في القارة، ونظرياً بعد انتهاء الحقبة الشيوعية وتراجع احتمالات نشوب حرب أو صراع مسلح في القارة؟ أم أن ما يواجهه الأوروبيون هو أزمة مؤقتة سيجري تجاوزها مع الوقت؟
من بين المعالم الأساسية التي سبقت الصراعات الأوروبية الكبيرة كان تصاعد الحس القومي مع تراجع اقتصادي موجع، ولكن بوتيرة أعلى كثيراً مما هو قائم حالياً، ولكن انهيار النموذج الأوروبي الذي يبقى محتملاً أيضاً فإن التبعات المتوقعة ستشمل العالم كله تقريباً، وخصوصاً منطقتي البحر المتوسط والشرق الأوسط من ناحية أهميتها التاريخية وموقعها الجغرافي من القارة الأوروبية، ووضعها كساحة تنافس جوهرية وحيوية بين أوروبا والجارة اللدود روسيا.
النزعة الجديدة المناهضة لمزيد من الاندماج الأوروبي ستحرر الدول الأوروبية من التزاماتها بسياسة خارجية متجانسة، وستفتح شهية بعض من الدول الأوروبية المركزية مثل، ألمانيا وفرنسا للتصرف بصورة منفردة، وستكون قضايا الشرق الأوسط في مقدمة هذه الملفات التي ستتأثر بتوجه أوروبي جديد يعزز المراهنة على المصالح الأنانية أكثر من المثالية الأوروبية التي يشكل الاتحاد نفسه تجسيداً لها.
في بداية القرن العشرين قدم عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر كتابه عن الأخلاق البروتستانتية ليفسر التفاوت في الدخل والاختلاف في القيم الإنتاجية بين الدول البروتستانتية والكاثوليكية، وربما ما زال الكتاب على جانب كبير من الصلاحية، إلا أنه يفترض أن القيم الدينية كانت تنتج هذه الحالة، ولكن هل يمكن أن نعتبر في المقابل أن القيم البروتسانتية نفسها لم تكن دافعاً أكثر مما كانت نتيجة واستجابة لتغيرات في المجتمعات الأوروبية الشمالية التي صاغت قيمها الاجتماعية والاقتصادية في قالب ديني، وأن طبيعة البنى الإنتاجية في الشمال والغرب الأوروبي هي التي غيرت العقائد الدينية ووضعتها بوصفها ذريعة على جانب من النبل لصراع دنيوي مادي عنيف.
لم تتغير أوروبا كثيراً، وبقيت التقاليد الإنتاجية والعلاقات الاقتصادية القائمة تشكل فارقاً مهماً بين ألمانيا من جهة، واليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال وهي من الدول التي تورطت بصورة كبيرة في المديونية وفي الإغداق على شعوبها، بدون أن تعمل على رفع إنتاجية هذه الشعوب، وحتى لو كانت الاستثناءات قائمة في حالة أيرلندا وأيسلندا اللتين تورطتا في أزمة الدين، فالمرجح أن الاقتصاد هو الصوت المرتفع في الاتحاد الأوروبي، وعندما تبدأ الشكوى الاقتصادية فكل شيء برسم التداعي بصورة تلقائية.
مشكلة التوسع الأوروبي في عضوية الاتحاد أنه أدخل قيماً وممارسات سياسية غير معتادة في أوساط دول غرب أوروبا التي عادة ما تحاول أن تعطي مطامعها غلافاً من الادعاءات الإنسانية والأخلاقية، فالشرق في أوروبا، وكأي شرق آخر، صريحون ومباشرون وتأخذهم عادة شهوة إطلاق العبارات الكبيرة، كما هي الحال في المجر وغيرها من دول البلقان في تعاملها مع تحديات المهاجرين القادمين من المتوسط، كما أنهم يواجهون على جبهات مختلفة مثل روسيا مزيداً من الشطط فالرئيس بوتين من طرفه تعامل باستخفاف مع الشكوى الأوروبية من انفلات مشجعيه وكأنه يتفاخر بأن أداءهم في الشغب وعنف الشوارع هو جزء من معركة وطنية نبيلة.
ليكن، مشجعو بطولة أوروبا ليسوا أنفسم من قاتلوا في النورماندي وستالينغراد، وجو كوكس ليست جان دارك، ولكن ثمة جانبا من الشبه في الوجوه والنوايا، ومن المحتمل في التبعات.
٭ كاتب أردني
سامح المحاريق