تعود كراهية اليهود في وسط أوروبا إلى فترة زمنية تسبق النازية بكثير، وتصاعدت مشاعر النفور من اليهود مع مرض الطاعون الذي ضرب القارة في القرن الرابع عشر، وبدأ العديد من المجازر التي انتهت بطرد أعداد كبيرة من اليهود إلى بولندا.
لا يعني ذلك بالطبع أنهم تحصلوا على معاملة أفضل في بولندا، ولكن على الأقل امتلك البولنديون خبرة تاريخية أوسع في التعامل مع الشعوب غير الأوروبية، خاصة أثناء الغزو المغولي لروسيا وأوكرانيا، وعموماً فموقع ألمانيا في قلب أوروبا جعلها الدولة الأقل تمرساً مع الشعوب غير الأوروبية، وتبدو ألمانيا منغلقة قياساً بإيطاليا وإسبانيا وفرنسا، أما الانفتاح البريطاني فأتى مع مرحلة الاستعمار، التي لم تحقق ألمانيا حضوراً مهماً خلالها. ارتبط الطاعون باليهود لأنهم غرباء وغامضون، يعيشون في معازلهم الخاصة، من السهل فرزهم عن الشعب الألماني نتيجة لملامحهم التي تميل إلى السمرة، وبنيتهم الجسمانية الضئيلة، وحتى من كانوا على درجة من الشبه بالشعوب الجرمانية أو السلافية والاسكندنافية، فإن ملابسهم الغامقة ومعاطفهم الطويلة كانت كافية لتضعهم دائماً هدفاً سهلاً لمشاعر الضغينة والكراهية، وتقريباً تنطبق هذه التصورات المبدئية حول المسلمين الذين يحملون ملامح قريبة لليهود، خاصة لشعوب أوروبية تتعامل مع الشرق بوصفه كياناً واحداً وهوية متصلة، كما أنهم يرتدون ملابس تميزهم عن الألمان بصورة تحمل فرزاً واضحاً وغير قابل للالتباس، ويرى الألمان أن المهاجرين الذين أخذوا يتزايدون ويباشرون الانخراط في الأنشطة الاقتصادية، ويفتحون محلات تجارية بأسماء تكتب بالعربية بدأوا يشكلون خطراً واضحاً على أسلوب حياتهم الخاصة، وربما بأكثر ما مثله اليهود سابقاً، نعم قطعت ألمانيا شوطاً بعيداً في الاتجاه المعاكس للنازية، فأصبحت إلى حد بعيد من أكثر الدول انفتاحاً على القضايا الإنسانية، إلا أن ذلك لا يمنع تخوفاً مشروعاً من عودة العنصرية لتطغى على الشباب الألمان، الذين بدأوا يستشعرون أزمة مكبوتة يسببها المهاجرون.
المسألة لا تنحصر في ضغوطات اقتصادية، فألمانيا تحتاج إلى المهاجرين لأسباب تتعلق بتوزيع الفئات العمرية في قوة العمل الكلية في البلاد، وحاجة الاقتصاد إلى دماء جديدة يمكن أن تمول تدفقاً من الأموال التي تخصص للتقاعد، الذي يعتبر أحد بنود الإنفاق الرئيسية في الدول الأوروبية، ولكن يبدو أن السلوك الاقتصادي للمهاجرين ورغبتهم في تحديد مجالات الأنشطة الاقتصادية التي تناسبهم، والتي تشمل المشاريع التجارية الصغيرة من شأنه أن يعيد تجربة اليهود، الذين اشتبكوا مع الأنشطة الاقتصادية الهامشية ولم يكونوا عنصراً منتجاً وفق النمط الألماني، بمعنى أنهم نشطوا في المهن الصغيرة والمتاجر المتواضعة وبعض المهن المتخصصة مثل، الطب والهندسة، وكذلك كانوا يؤدون أدوارهم في السمسرة والوساطة، وهذه تقريباً الأنشطة التي استهوت المهاجرين العرب، وتقريباً فإنهم مثل اليهود لن يتدفقوا إلى المصانع ولن يندمجوا في البيروقراطية الألمانية، وبذلك سيقومون بتأسيس (اقتصاد داخل الاقتصاد) وهو أمر أكثر خطورة من مفهوم (الدولة داخل الدولة).
بتوقف الباص في المحطة الأولى بعد مطار تيجل في برلين لمحت عبارات مكتوبة على الجدران بحروف كبيرة، وبالطبع فهذه النوعية من الكتابات في أوروبا لا تغري كثيراً بالتوقف لشيوع رسومات الغرافيتي، ولكن اسم هتلر الذي أتى في بداية العبارتين دفعني لتصوير الجدار، حيث اعتقدت أنها تشتمل على تهجم على اللاجئين، ولكن الترجمة التي حظيت بها بعد ذلك أظهرت أن العبارة تشتمل على ما هو أخطر من مراهقة النازيين الجدد، فكان النص: «هتلر كان دمية، المال كان النصر الحقيقي للنازيين»، ويبدو أن المال أيضاً يحرك الأحداث حالياً.
الطريق للحرب العالمية الثانية كان ينطلق من تفاعلات أزمة اقتصادية لا يمكن أن تفصل تماماً عن توابع الكساد الكبير في الولايات المتحدة 1929، وكانت العدوانية النازية تمثل تعبيراً عن رغبة في تجاوز الانفجار الداخلي وثورة شيوعية في البلاد، من خلال تصديره في صورة حرب توسعية تحمل الصبغة الانتقامية، وبالطبع كانت الهولوكوست تخرج من خصومة متعددة الأبعاد بين الطبقة العاملة الألمانية، التي سعى هتلر لاحتوائها واسترضائها، وبين اليهود ببورجوازيتهم الصغيرة والطفيلية، وهي أوضاع مشابهة في تراصف القوى بالواقع الراهن، بدون أن يكون ذلك نذيراً بالتفاعلات نفسها، لأن عنفوان هذه القوى ضئيل مقارنة بالثلاثينيات من القرن العشرين، كما أن وعياً جديداً منفتحاً ومتسامحاً يسود بين الألمان، ولكن لا يعني ذلك أن المستقبل يحمل نذراً لمواجهات من الصعب التكهن بشكلها أو حتى مضمونها خلال السنوات القليلة المقبلة. بالطبع فإن مقارنة بين غرة شعر ترامب الشقراء المتطايرة، وشارب، أو تحرياً للدقة نصف شارب هتلر، تبدو في غير محلها، ولكن يبدو أن اقتلاع العنصرية لم يكن مبرماً، وكان يمتد ليحصد ما فوق الأرض من جذوع وأغصان، ويتبقى الجذر في العمق متحفزاً ليعلن عن نفسه من جديد. وإذا كان الحديث العنصري الذي يرى المشكلة في المهاجرين يلاقي أذناً صاغية في الولايات المتحدة، فإنه لا يوجد ما يدعو للثقة بأن يصبح نغمة شائعة في ألمانيا على الرغم من المحاولات المضنية لتجنب ذلك، والوباء في المدن الشرقية مثل درسدن يمكن أن يمتد لأكثر المدن الألمانية انفتاحاً على الغرباء مثل فرانكفورت.
أزمة اللاجئين والمهاجرين الاقتصاديين، الذين اعتلوا موجة اللجوء الإنساني كانت الضربة القوية للاتحاد الأوروبي، ويبدو أنها ستكون مصدراً لصراع أوروبي داخلي، يمكن أن يزيد من الأزمات الموجودة أصلاً وتهدد مستقبل الاتحاد، فالنمسا تعلن مبكراً رفضها للمشاركة في النظام المقترح لحصص المهاجرين، لأنها ترى أن استقبالها لتسعين ألف لاجئ يعفيها من ذلك، وفي الوقت ذاته، تناقش كرواتيا نشر القوات المسلحة لحماية حدودها من اللاجئين، وبدأت اليونان تعود صانعة للأرق والصداع في أوروبا مع احتجاجاتها على الإجراءات التي وضعتها جاراتها للحد من تدفق اللاجئين إلى أراضيهم، بما يجعل اليونان عالقة في التعامل مع أعداد متزايدة، بدون وجود تصورات بخصوص توزيعهم على الدول الأوروبية الأخرى. مشكلة اللاجئين أن أحداً لا يمثلهم، ولا يمكنهم أن يشكلوا أي قوة تفاوضية ذاتية، فهم في النهاية ورقة تفاوضية لدى بعض الأطراف، ويتعرض اللاجئون إلى صراع مع صور ذهنية غير صحيحة أو على الأقل لا يمكن تعميمها، فوجود بعض المتشددين دينياً بينهم لا يعني مطلقاً أنهم يتعاملون مع أوروبا بوصفهم فاتحين أو مبشرين دينيين، وأن وجود بعض العناصر المنفلتة لا يعطي الحق في وصف اللاجئين بالقادمين من حضارة متخلفة، أو غير قابلة للتعايش مع نمط الحياة الأوروبي، كما أن مشكلة اللاجئين أنهم سيتحولون إلى الحجة السهلة والمبرر الجاهز لأي اختلالات اجتماعية – اقتصادية في أوروبا خلال السنوات المقبلة.
إدارة ملف اللاجئين تتطلب تدارساً عميقاً لأوضاعهم والتعامل معهم بوصفهم حالات فردية تستطيع أن تتعايش داخل المجتمع، وليس على هامشه، ولذلك يجب أن تتحدد حصص المهاجرين بناء على المدن والصناعات وأنماط الانتاج المختلفة، وأن ينظر لخبراتهم المهنية، قبل وضعهم في حواضن اللاجئين التي يمكن أن تتحول إلى غيتوهات تعمق من الأزمة، وتوجههم لمزيد من العزلة داخل المجتمع، بحيث تتشكل ضدهم الأجسام المضادة في محاولة لنبذهم خارجاً من أجل المحافظة على صحة المجتمع أو معاييره القياسية التي يمكن أن تسمى أنماط حياة أو أنماط انتاج.
هل يمكن أن تكون طريقة التفكير الأوروبية خاطئة؟ السؤال لا يبدو غريباً أو مستهجناً، فالأوروبيون بالفعل فكروا كثيراً بطرق خاطئة، وخطيرة أيضاً.
٭ كاتب أردني
سامح المحاريق