أوروبا والشرق… جهات مضطربة ومصائر متقاطعة

القارة العجوز لقب أرادت به أوروبا أن تستأثر بوصف يدلل على عراقتها وأسبقيتها المعرفية والفكرية، والوصف هو أحد مظاهر المركزية الأوروبية التي ترى أن الفكر العالمي لا يمكن أن يبدأ من مكان آخر غير اليونان، في حالة من التجاهل لكل الإسهامات البشرية السابقة التي ألهمت أثينا صناعتي الفكر والفلسفة.
وإذا كان من المتعذر أن توصف القارة الأوروبية بالعجوز بالإحالة على ذلك التراث، فإنها تستأهل الوصف نتيجة لتزايد معدلات أعمار مواطنيها، وهو الأمر الذي يهدد القدرات الإنتاجية في القارة، ويؤشر لوجود خلل اقتصادي سيعبر عن نفسه مع الوقت، ويتعلق ذلك بقدرة الأوروبيين على تمويل مصاريف التقاعد لشريحة واسعة جداً من المستفيدين. أوروبا تحتاج إلى المهاجرين، وبالفعل بدأت حركة واسعة من الإزاحة السكانية من دول شرق أوروبا مثل رومانيا والمجر التي تعاني أيضاً من أزمة ارتفاع متوسط العمر إلى أوروبا الغربية للحصول على شروط عمل أفضل، ولكن مع متوسط أعمار يقارب أو يتجاوز الأربعين عاماً، سيتزايد التعطش الأوروبي للحصول على سكان من الشباب في عمر مناسب للإنتاج لإحداث التوازن المطلوب في المجتمع، والدفع بمزيد من الدماء في شرايين الاقتصاد الأوروبي الذي يتحمل تكلفة عالية للمحافظة على نماذج الرفاه الاجتماعي المطبقة.
يبدو كل ذلك متناقضاً مع السلوك الأوروبي لاستقبال المهاجرين من دول الشرق الأوسط ذات متوسط الأعمار الصغيرة، فمثلاً يبلغ متوسط العمر في الأردن 22 عاماً، وسوريا 23 عاماً، ومصر نحو 26 عاماً، ومع وجود المتاعب الاقتصادية القائمة، فإن نسبة المحتمل قبولهم بشروط معقولة للهجرة، وحتى لو كانت متواضعة قياساً بمستويات المعيشة في الدول الأوروبية، ستبدو كبيرة وتستحق نظرة مختلفة من الأوروبيين، وعلى الرغم من ذلك فإن النزعات اليمينية تتصاعد في أوروبا وتطالب بمواجهة المهاجرين الجدد على أرضية تأثيرهم الثقافي المحتمل والتكلفة الأمنية التي ستترتب على استضافتهم، بجانب التخوف على مستقبل القيم الأوروبية وأنماط الحياة السائدة في القارة (العجوز).
الهجرة القسرية أفرزت وجود مجموعة كبيرة من المهاجرين الاقتصاديين للدول الأوروبية ممن لا تتهددهم مخاطر فعلية تتعلق بأمنهم وسلامتهم الشخصية، والهجرة التي تنتقل لأوروبا تحمل طموحات اقتصادية كبيرة، وبعضها يتفهم أن من حقه الحصول على بضع سنوات من البطالة تحت ذريعة الاندماج والتأهيل، والمشكلة أن هذه المرحلة تجري على الأراضي الأوروبية وبتكلفة كبيرة قياساً بفكر مغاير يمكن أن يجعلها تتطور طبيعياً في مناخها الطبيعي، من خلال المشاريع المشتركة التي تنقل عمليات الإنتاج إلى دول المتوسط ومنها لآسيا الوسطى وأفريقيا، وهو الأمر الذي سيحقق مكاسب كبيرة للأوروبيين وشركائهم من الجنوب في الوقت ذاته.
تهربت أوروبا طويلاً من ثنائية الجنوب والشمال، ووجدت في إعادة صياغتها ضمن استقطاب الشرق والغرب موضوعاً يتصف بالإثارة والجدلية، وهو الأمر الذي يرضي النخبة الأوروبية ويسهم في محافظتها على مكتسباتها في مؤسسات صناعة الرأي، وتحولت القضية الواضحة في فقر الجنوب وضعف إمكانياته الإنتاجية وتراجع قدرته على التنمية الإنسانية، إلى مسألة غامضة ومشوشة تداخلت فيها عوامل ثقافية ودينية وتراثية مختلفة عندما استدعي الشرق ليصبح بديلاً للجنوب في الفكر الأوروبي، ويدفع الشرقيون الذين يتطلعون لمستويات معيشية أفضل إلى أن يدفعوا ثمناً غير ضروري ومن الممكن تجنبه من أجل إرضاء غريزة التشكك والريبة لدى الأوروبيين.
توجد تيارات متعصبة ومتطرفة في المنطقة العربية، ومن ورائها في أرجاء واسعة من آسيا وافريقيا، وتشترك الدول ذات الميول المتعصبة في نسبة واسعة من انتشار الفكر الإسلامي، ولكن العامل المشترك لا يحمل بالضرورة تفسيراً كاملاً لظاهرة التطرف والانغلاق التي يعاني منها الشرقيون، بينما يتحمل الاستثمار السياسي للإسلام المسؤولية الكاملة بحيث أصبحت الجنة الأخروية الموعودة تعتبر البديل المتاح لحياة تصطبغ بالفقر والفاقة وتدني مستوى الخدمات، وتترافق مع القمع، وتغيب مفاهيم حقوق الإنسان والوعي بقيمة الوجود الإنساني، وعملياً فإن البديل الذي يدفع للتطرف لم يقدمه أصلاً الإسلام السياسي المعروف ضمن الجماعات الدينية التقليدية، فعلى العكس، ادعت هذه الجماعات أنها تقدم حلولاً نهضوية دنيوية ستترك آثارها على المعيشي واليومي، فكانت بديلاً في حد ذاتها للبديل الأخروي، أما مسؤولية شيوع البديل الأخروي فكانت تقع على عاتق السلطة نفسها التي تخيرت أن تتيح الدين بوصفه وعداً بالغ الاتساع والمرونة لكل مشروعاتها، ولذلك حرصت السلطة على رعاية طبقة من رجال الدين لم يكن الإسلام يستوعب وجودهم أصلاً، ولكنهم أخذوا على عاتقهم أن يقوموا بدور مانحي صكوك الغفران، سواء كانوا يرتدون الجبة الأزهرية أو العمامة الحوزوية أو الخرقة الصوفية، فجميعهم يؤكدون على جدارة الحل الأخروي والغيبي.
ما يدحض البديل ليس مقاومته أو تفكيكه، ولكن تقديم البدائل الأخرى، والأوروبيون لا يرغبون في المقابل في تقديم أي من البدائل المعقولة ويتعاملون مع المهاجرين بوصفهم موضوعاً للفلترة والغرب،لة بناء على المواصفات القياسية التي يضعونها، والمشكلة أن الأوروبيين سيتيحون فرصاً للحراك الاجتماعي بين المهاجرين، ولكنهم سيدفعون بعشرات الملايين ليشكلوا نسخة جديدة من الغيتو على هامش المدنية الأوروبية، وليجد الأوروبيون أنفسهم في حاجة لافتعال محرقة جديدة لأنهم ببساطة يتعاملون مع المهاجرين بوصفهم مرشحين للدخول في الجنة الأوروبية وعليهم أن يثبتوا أحقيتهم بذلك، وإلا سيجري إقصاؤهم مع الوقت وطرحهم خارج المعادلة، مع أن الأصل في الأشياء أن يكون الاستيعاب هو المصطلح الذي تتعامل معه أوروبا بكل ما يحمله من احتمالات التفاعل ونتائجه، وذلك مكان مصطلح الاندماج الذي يعني قابلية القص واللصق الذي يكون موضوعه اللاجئون والمهاجرون أنفسهم.
مناسبة الحديث تتعلق بالنوايا الفرنسية لتفريغ مخيم الغابة في كاليه الفرنسية من آلاف المهاجرين الذين يعيشون ظروفاً صعبة بانتظار فرصة للتسلل إلى الأراضي البريطانية، ولم يتوقف الفرنسيون بوصفهم مركز الثقل الثقافي والفكري لأوروبا أمام تفاصيل هذه الظاهرة لآلاف المهاجرين الذين يبحثون عن فرصة لمغامرة جديدة أو تحرياً للدقة، مواجهة أخرى مع الموت للوصول إلى الشواطئ الإنكليزية مع أنه من المفترض أنهم يعيشون على الأرض التي رفعت سابقاً شعارات الإخاء والمساواة والحرية، ولكن هذه الشعارات اليوم تعاني من متلازمة مزرعة الحيوانات التي خلصت لأن جميع الحيوانات متساوية، إلا أن بعضها أكثر مساواة من الآخرين، والأوروبيون يرون أن شعاراتهم التي قامت على أساسها النضالات السابقة تبقى حصرية عليهم، ولذلك فالعلمانية الفرنسية بكل مبادئها تصطنع اليوم مشروعاً لإعادة إحياء الغيتو. الهجرة غير الشرعية يمكن أن تجري مواجهتها بالهجرة الشرعية، فالدول جنوب المتوسط لديها الفائض الذي تحتاجه أوروبا سكانياً، ومع ذلك تحاول أوروبا التذاكي لتحصل على الفائض بالتكلفة الرخيصة وبحيث يجري تسكينه وتأهيله وهو مقيم على الهامش، ولكن سعي أوروبا في سلوكها شبيه بالعجائز المتصابيات على شواطئ شرم الشيخ أو المنستير ومحاولة اصطياد أحد الشباب المحليين للترفيه مقابل (وعد) بالسفر والعمل في أحد مدن أوروبا الغربية، وهذه العلاقة قائمة قبل المصالح على تبادل الأكاذيب بين الطرفين أو ما يمكن تسميته بالتكاذب، فالأوروبيون يحاولون أن يظهروا إنسانيين، والجنوبيون أو الشرقيون حسب مقتضى الحال، يتفانون في تمثيل دور الضحايا.
كاتب أردني

أوروبا والشرق… جهات مضطربة ومصائر متقاطعة

سامح المحاريق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    مقال جميل وواقعي ومتوازن بنفس الوقت
    ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية