أوهام وكوابيس نيابية

تواصل المجالس النيابية العربية استعراض مدى انفصالها عن الشعوب التي يفترض أنها انتخبت أعضاءها، وإلى حد ما، فالأمر يشبه سباقا للتحليق بعيداً عن الأرض والواقع، والتحليق ليس بغاية توسعة أفق الرؤية.
كما أنه لا يرتبط إطلاقاً لا شكلاً ولا مضموناً بالارتقاء في الأداء السياسي، فكل غاية التحليق هي البقاء بالقرب من الأبراج العاجية من الحكومات، واقتناص أو التقاط أقصى حد ممكن من الامتيازات والاستثناءات والعطاءات، فكثير من النواب، في حالة الأردن مثلاً، يأتون من خلفية ترتبط بأعمال تجارية كبيرة وبأعمال المقاولات، وتكاثرت الأحاديث حول المزايا التي يجنيها النواب من علاقتهم القائمة مع الحكومة.
تتوالى إخفاقات المجالس النيابية، ففي بيروت يتصاعد الجدل حول قانون الإيجارات الجديد، الذي يغبن جانب المستأجر المنتمي للطبقات الفقيرة لمصلحة المؤجرين الذين عادة ما يمثلون الطبقات الوسطى والثرية. وفي عمان تتوالى الصدمات التي يتلقاها الأردنيون من جانب النواب، بين من استكثر على الفقراء تناول الأسماك، ومن تحدث عن (تشليح المواطن)، ومعهم النائب الذي تحدث بطريقة غير لائقة أو مقبولة ولا تعبر عن أي حساسية سياسية أو فكرية، مبدياً رأياً مستهجناً تجاه دول الخليج العربي، دون أن يفوضه أحد بذلك، وأبدى النائب استعداد الأردنيين لـ (أكل التراب). وتفاعلت قضية النائب على مواقع التواصل الاجتماعي في دول الخليج، لتضع الجميع في حرج، وتدخل المعادلة السياسية الأردنية في منعطف مليء بالمفارقات. فمن ناحية كانت انتقادات مشابهة سبباً في محاكمة وحبس القيادي الإخواني زكي بني ارشيد، ومن ناحية أخرى، أطاحت رسائل مبطنة لدول الخليج تجاوزت النبرة التقليدية بإمام الحضرة الهاشمية أحمد هليل قبل أيام قليلة.
نموذجان من بين البقية يؤكدان على أزمة هيكلية في بنية المكونات السياسية العربية، فالنواب يمثلون شرائح وفئات اجتماعية معينة، ويظهرون على الساحة بوصفهم منتجات لمشاربهم الطبقية أو العشائرية أو الطائفية أو الجهوية، ولكنهم لا يستطيعون ادعاء تمثيلهم للجميع، ولذلك الكائن المصطلح على تسميته بالمواطن، ولا يستطيعون أن يتحدثوا عن فهم متكامل لفكرة العمل الوطني أو السياسي، فكل ما يقدمونه هو السعي بالأصالة أو الوكالة لمصالحهم أو مصالح روافعهم الاجتماعية لا السياسية بالطبع، فالتجريف متواصل للحياة الحزبية في الدول العربية، سواء من قبل السلطة أو من جهة الأحزاب السياسية نفسها.
السلطة في مرحلتها الأولى وبعد تحقيق الاستقلال وجدت أن قوامات الحراك السياسي تتمثل في الطبقة الوسطى الصاعدة المتعطشة للمشاركة في بناء الدولة الحديثة، ولكن الطغمة العسكرية في بعض الحالات، وبقايا الطبقة الارستقراطية في حالات أخرى، عملت على تعطيل قدرة هذه الطلائع على العمل السياسي، واعتبرت أعضاءها خوارج على التقاليد السياسية، أو في حالات أفضل اعتبرتهم قطعاناً من المتحذلقين الذين يطالبون برفاهية سياسية، بينما أوطانهم تواجه تحديات جذرية وشاملة، ومن ثم بدأت التلاعبات بتشكيل أطر سياسية تابعة للحكومة، وتعتبر مدخلاً للمنتفعين والمتسلقين، وبذلك عملت على إفساد جيل الاستقلال من السياسيين والمثقفين الصاعدين، فوجدوا أن طريق الوصول إلى السلطة (سالك) من جهة الرضى الحكومي ذاته، وكانت الحكومة ككل أداة للسلطة التي استمرت وليدة صدفة تاريخية أو نتيجة لإعادة إنتاج الطبقات نفسها السابقة على مرحلة الاستقلال.
في مرحلة لاحقة قامت السلطة باستغلال مخرجات الحزب الواحد في بناء أحزاب جديدة تعرف حدود المعارضة الشكلية المقبولة، وتقوم بدورها الديكوري بكل التزام وبدون رغبة في التجويد، أو اضافة القليل من الدراما على أدائها، وبذلك أصبح قطاع واسع من الحياة الحزبية مجرد تنويعات على النغمة ذاتها التي تتردد بمعزل عن السواد الأعظم من المواطنين.
ظهر العديد من الأحزاب الأيديولوجية، وعملياً تبنت الموروث الديني والفكر الماركسي والتوجه القومي، وفي جميع الحالات كانت هذه الأحزاب عالقة في الحدود الإيديولوجية، فأخذ الإسلاميون شعار «الإسلام هو الحل» على أساس تطبيق نسخة سلفية غير قادرة على التفاعل مع متطلبات الحداثة، وهو الأمر الذي لم يمكنهم من التعامل مع تحديات السلطة، بينما طبق الماركسيون التبعية الحرفية لمقولات ماركس ولينين، وفي حالات أخرى ماوتسي تونغ وتروتسكي، دون أن يتمكنوا من بناء فكر يمد جذوره في بيئتهم الفعلية وتراب مشكلاتها، أما القومية فلم تقدم سوى ادعاءات قامت على افتراضات خيالية تتجاوز حقائق التنوع والثراء على الأرض، نحو إنتاج مواطن قياسي منسجم نظرياً فقط من الناحية العرقية والعقائدية، وأمام إيديولوجيات عجزت عن مجاراة الفعل السياسي وتفهم طبيعة الصراع السياسي، ولم تستطع أن تقدم البرامج البديلة أو الموازية، أصبحت التجربة الحزبية طاردة للمواطنين الذين كانوا ينتظرون من الحزب أن يقدم حزمة من الحلول التي تحدث تغييراً على الأرض وفي الواقع.
هذه الأرضية أنبتت النخب السياسية الراهنة، التي تمثل مجموعة غير متجانسة ومتباينة بشدة من أصحاب المصالح الاجتماعية، وحتى من لا ينتمون للنخب الاقتصادية، فإنهم استندوا في صعودهم إلى سلوك مهادن للدولة والسلطة، بحيث تحولوا في أوساطهم لأدوات سلطوية، أو كانوا من المعارضة الإيديولوجية التي قفزت إلى الجانب الآخر الأكثر خضرة بالطبع بمزاياه وعطاياه، وكل هذه الأطياف، وغيرها أيضاً، كانت منفصلة عن القاعدة الشعبية، ومن انتمى لناخبيه فعلاً من خلال خروجه من صفوفهم، فإنه تلاعب بمصالحهم واختزلها في شخصه، وأصبح الناخبون، تحت وطأة الالتزام العشائري أو إغراء المال السياسي، مجرد أوراق تستخدم في مواسم الانتخابات أو عند ظهور حاجة لدى نائبهم وممثلهم أن يستخدمهم ليمارس نوعاً من الضغوطات من أجل زيادة نفوذه أو مكتسباته.
المستوى الحالي للمجالس النيابية في معظم الدول العربية، إن لم يكن جميعها، محبط وصادم، الأمر الذي يخلق حالة من العزوف الجماعي لدى المواطنين عن الاقتراع أو المشاركة ليشكلوا نسخة جديدة من الفعل السياسي، تتمثل في مواقع التواصل الاجتماعي التي تمارس ضغوطات مكثفة، بحيث أظهرت حالة الكفر والقنوط بالديكور الديمقراطي لتمارس الديمقراطية الشاملة والفوضوية في الوقت نفسه، وبكل الأخطاء والارتجال، استطاعت هذه النسخة أن تثبت وجودها، وغالباً ما ستواصل طريقها بدافعية قانون إنتاج الزخم الكمي لحالات نوعية، مع تقدم التجربة ودخولها في الأخطاء والتصحيح الذاتي.
في مواجهة الحالة المهترئة للحياة النيابية، تظهر أيضاً دعوات أكثر أصولية تطالب بالانقلاب على فكرة الديمقراطية، والتخلص من تكلفتها المادية والنفسية والعودة للأطر القديمة، طالما أن سلطة الشعب النظرية والممثلة في نوابه لا تفعل ما يعدو (شرعنة) و(مباركة) ما تمليه الحكومة وما تريده من حيث هي نفسها الصورة اليومية والملموسة لوجود السلطة التي لم تتغير أصلاً في جوهرها منذ عقود، أو ربما قرون بأكملها.
كاتب أردني

أوهام وكوابيس نيابية

سامح المحاريق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد حسنات:

    لحظة،أتخذ الكونجرس،قرارآ ضد قرار ،،مجلس الأمن،،2334،،بوقف النشاطات الإستيطانية في الأراضي المحتلة،
    قلت لنفسي،سترد البرلمانات العربية والإسلامية،بالمثل،
    على إعتبار قضيةفلسطين،والقدس في القلب منها،توحدنا،
    قلبآ وقالبآ،وفوق النعرات والتصنيفات العبثية وغير العقلانية
    لكن تذكرت،قول كبيرهم،،نحن لسنا دول،نحن أشباة دول،،.
    وأخشى،أنة على حق !.

إشترك في قائمتنا البريدية