لا تنفصل الهوية السياسية لأي حزب أو جماعة سياسية عن مرجعيتها المعرفية والحضارية، التي تتأسس عليها هويتها البصرية المتمثلة في الشعار الجامع للعقيدة بكل دلالاتها وإيحاءاتها، حيث يمكن تطبيق القراءة الفنية الفكرية لشعار تنظيم «داعش» من هذا المنظور، فهو يحمل أيقونة الختم/الخاتم النبوي، المثبّت في المراجع العلمية منذ أربعة عشر قرناً، بالخط والتصميم الكاليغرافي ذاته (محمد رسول الله)، مع إضافة عبارة (لا إله إلا الله) خارج الإطار الأيقوني، حيث تتعمد الحركة دمغ كل منتجاتها به، كتأكيد على أن ارتكاباتها ومخططاتها السياسية كلها تحدث تحت هذه المظلة المحمدية.
بهذه الطريقة الارتدادية إلى الوراء يمارس «داعش» النقش في الذاكرة الطهورية، واستحضار الأبعاد الثقافية لأمة كانت ذات أمجاد، حيث تهدف هذه الاستعادة الرمزية إلى استثارة القوة الدلالية من مهاجعها، واستنفار كل ما ترسّب في قاع التاريخ، وما إشاعة هذه الهوية البصرية إلا تعبيرا بلاغيا عن الحضور، إذ لا ينفرض الشعار المصاحب للسواد في العلم المرفرف في أرجاء ما تسميه «دولة الخلافة الإسلامية، فقط، بل يتمدد ويفرض سطوته البصرية في الوجود اليومي، وهو ما يعني أن المختبر الاستخباراتي الذي أنتج هذه الهوية البصرية لم يستلهمها بمنطق التاريخ الرومانسي وحسب، بل مارس اشتغاله على الوجدان والشعور، وتفنن في استقراء الذات المتوحشة واستفزاز المخزون الأيديولوجي.
إن الرمز الداعشي كمنتج إستهلاكي، الذي بات اليوم مألوفاً بصرياً، لم يتوطّن في الوعي واللاوعي العالمي إلا من خلال استعراضات ذات طابع تعبيري، ولم يتم توظيفه كتعبير عن العنف فقط، بل عن مجمل الأداءات الحياتية، فهذه الرمزية المكثفة في شعار تأتي مسنودة بطاقة هائلة من التاريخ، وبمعرفة مضاعفة بالآلية التي تحول القصص والحكايات إلى أساطير، كما يبدو ذلك على درجة من الوضوح في استعراض البنيات الجسدية النموذجية، المتسربلة في سواد يماهي مبتغيات الشعار، ويعمّق الإسقاطات النفسية في الموالين والمريدين.
هكذا تتم مثلنة حالات الوعظ في شعار رمزي جامع، تتكثف فيه التأثيرات الشعورية واللاشعورية، إلى جانب المضامين المراد تأوينها في اللحظة المعاشة، بما هي مختصر فلسفة الحركة وتوجهاتها الميدانية، حيث تتكاتف الهوية الإسمية مع الهوية البصرية مع رهان على ما يراكمه الزمن ليتحول الشعار ذاته إلى أيقونة راسخة في الوعي الجمعي، ويكون ذلك التجريد الذي انطلق منه ذلك الشعار قوة تمكيثية في سيرورة الزمن، وذلك بموجب مخيال يلعب على أوتار الغرائز، بلغة تبشيرية مسكوكة من صميم الهوية البصرية.
ومن يتفحص الشعار الداعشي، بما هو منصة انطلاق الحركة بموحياتها وممارستها، لا بد أن يلاحظ أنه ثيمة تمت هيكلتها في صورة تمتلك امتداداتها الروحية والموضوعية المتجذرة في الزمن، وهي ثيمة مخيالية تم ترميزها، أكثر من كونها مرجعية واقعية، بمعنى أن الشعار أُريد له أن يكون فيصلاً أو معياراً للإطلاقية والطهورية والمثالية، وأن القيم الدلالية المختزنة فيه تمتلك من الكفاءة والشرعية ما يمكّنها من عبور التاريخ، أي الاستجلاب من هناك، من تلك اللحظة المتخثرة في التاريخ إلى اللحظة المعاصرة، بالفاعلية والإلهامية ذاتها.
وللبرهنة على طاقة هذا الشعار أردفه «داعش» بمتوالية من الإكسسوارات البصرية، كاللحى الطويلة والملابس الفلكلورية، واللغة التراثية المغترفة من قواميس السلف، والسيوف المسنونة، لتحويل تلك البانوراما الاستعراضية إلى قيم محسوسة، يلعب فيها البصر الدور الأكبر، فإرعاب الخصم لا يتم إلا بتقديم صورة من صور العنف المدروس سيكولوجياً، حيث تتعزز العلامة الرمزية للهوية البصرية الداعشية بالكلمات القليلة والطقوس الكثيرة وفائض الحركات التمثيلية، وهذه هي الميكانزمات التي يعمل بها الشعار الذي يختزنه الختم النبوي.
بمنطق التسويق التجاري وظّف «داعش» الذاكرة الحضارية الإنسانية للمسلمين، واستخدم بالتحديد ما يمثل العمق الرمزي للأمة، وذلك من خلال قيمة مرئية ثرية بشكل صريح ومباشر، ليغذي الأمّية السياسية التي تعيشها الجماهير المتعطشة لأي ثأر تاريخي من (الآخر)، وعلى هذا الأساس ابتنت دعايتها وحمولتها التعبوية والتحريضية لتؤكد سلفيتها، وتمارس فعل التصريف السياسي.
إن الختم النبوي الذي صار ملحوظاً اليوم في كل مكان وفي كل مظاهر الحياة بعد أن اختطفه داعش من سياقاته التاريخية الحضارية، ما هو إلا كوة ضيقة تريدنا هذه الحركة المدبرة في المختبرات أن نطل عليها من خلاله، ليس باعتباره الرمز البصري لهويتها فقط، إنما كمحلٍ للرؤية السياسية الاجتماعية التي تريد إيهامنا بأنها ستحكم بها.
كاتب سعودي
محمد العباس