أين بشار الأسد وأين المناعة الوطنية؟

حجم الخط
18

منذ بداية حملة القصف الروسي على سوريا اختفى بشّار الأسد. واختفاء الـرجل ليس حدثاً، لأنه منذ بداية انهيار جيشه في إدلب، وهو لا يظهر إلا ليختفي. لكن اختفاءه هذه المرة، في لحظة حدث مفصلي، يتمثل في دخول الجيش الروسي طرفاً في الحرب السورية، يثير أكثر من سؤال. فالروس الذين أتوا بعدما تبين محدودية قدرات التدخل الإيراني بأشكاله المختلفة وميليشياته المتعددة، يعلنون اليوم إفلاس الحلف الإيراني في حماية نظام الاستبداد، وحاجته إلى تسليم القيادة لطرف جديد، كي يعبئ فراغ الانهيار.
بشّار الأسد يعلم أنه مجرد دمية، وأن الدمى لا تحكي إلا بصوت محركها، وهو يتلقى اليوم دروساً كي يتعود على الصوت الروسي بعد سنوات من التدريب الإيراني.
بوتين يحلم بدولة القياصرة ممزوجة بالوزن الذي كان يحتله الاتحاد السوفييتي «الجبار» على المستوى الدولي. لكن فاته أن دولة القياصرة دالت، ولا تنفع صلوات بعض معتوهي الكنيسة الروسية لإحيائها، كما أن النفوذ السوفييتي نشأ كحامل لفكرة أممية قبل أن يطيح الاستبداد بالفكرة وبالتجربة السوفييتية برمتها.
فليحلم بوتين كما يشاء، السؤال ليس موجهاً إليه، بل إلى لحظة فقدان المناعة الوطنية التي تعيشها سوريا بشكل مأسوي. السؤال الحقيقي هو المناعة الوطنية وليس خرافة «الممانعة»، التي لم تكن أكثر من وسيلة لرفد الاستبداد البعثي – الأسدي باستبداد ديني.
لقد اختبر الشعب اللبناني طويلاً معنى فقدان المناعة الوطنية، حين قامت البنى الطائفية بتحويل لبنان إلى ساحة للصراعات الإقليمية، وحيث عبثت بأرضنا جيوش لا عدد لها، وانتهينا تحت مظلة نظام الاستبداد السوري.
لا شك أن ضباط وقادة الجيش والمخابرات السورية يعلمون جيداً معنى أن يقوم جيش أجنبي بإحتلال و/أو إدارة الحرب في بلد آخر. يعلمون لأن ممارساتهم الإذلالية في لبنان كانت عنوان هيمنتهم. وعليهم اليوم أن يمروا بتجربة إذلال مماثلة، مهما قيل عن التحالف الاستراتيجي بين أربعة زائد واحد (روسيا، إيران، العراق، سوريا وحزب الله).
هذا الواقع له اسم واحد هو فقدان المناعة الوطنية، ولا يعقب هذا الفقدان سوى انهيار الأوطان. الجواب الروسي – الإيراني – السوري على هذا الطرح سوف يلقي التهمة على الآخرين، ويتهم «داعش» و«النصرة» وتركيا ودول الخليج، بأن بداية فقدان المناعة الوطنية بدأ بسبب تدخل هذه القوى العلني في الصراع السوري.
هذا النوع من المحاججة يقود إلى تحويل الكلام لغواً، لأن جوابه جاهز، فلو لم يلجأ الاستبداد إلى إبادة المظاهرات وسحق الانتفاضة الشعبية الكبرى ضده، لما وصلت سوريا إلى هذا المنحدر المخيف. ولكن هذا الجواب هو مجرد لعب كلامي أيضاً، يحاول رتق عجز المعارضات السورية عن تحمّل مسؤولية عسكرة الصراع، أو التنبيه إلى مخاطر هذه العسكرة. كما أنه لا يعفي قوى المعارضة من مسؤولياتها وارتمائها في أحضان القوى الإقليمية والدولية، التي رأت في الإنفجار السوري مناسبة لتحطيم سوريا وعرقنتها وإذلال شعبها.
لقد قاد الاستبداد سوريا إلى الوقوع تحت الاحتلال، الاحتلالات تمتد من اللاذقية إلى الرقة، وتتصرف وكأن الوطن السوري غير موجود، والبلد مجرد ساحة. ولعل التعبير الأكثر وضوحاً عن رؤية سوريا كساحة هو مقال الصحافي الأمريكي توماس فريدمان في «نيويورك تايمز» الذي يدعو فيه الإدارة الأمريكية إلى الاكتفاء بمشاهد أفغنة سوريا، واستنزاف روسيا على الأرض السورية!
«الأفغنة» بعد «الصوملة» و»العرقنة»، هل هذا هو مآل حلم الحرية الذي غطى سوريا بدماء أبنائها، في واحدة من أنبل انتفاضات الشعوب في التاريخ المعاصر؟
هل يتلقى السوريات والسوريون ومعهم كل عرب المشرق درس ثمن الحرية موتا وسجونا وإبادات وتشريدأً؟
كأننا في كابوس، بل نحن في أفدح لحظات الكابوس الذي نعيشه في اليقظة وليس في المنام.
يجب وضع الأمور في نصابها رغم كل العتمة.
النصاب يقول إن سوريا اليوم تحت أكثر من احتلال، وإن مقاومة الاحتلالات جميعها هو شرط استعادة المناعة الوطنية.
نبدأ من فهم طبائع الاستبداد، كما علمنا الكواكبي، فاستبداد الطغمة المافيوية التي أسسها حافظ الأسد، قاد إلى استبداد الطغمة التكفيرية التي تأسست على أيدي «المجاهدين الأفغان» وأسيادهم واجتاحتنا من خلال ورثائهم في سوريا والعراق.
العلاقة بين الاستبدادين معقدة، كلاهما يلجأ إلى الأصول، ويدمر الحاضر باسم الماضي، كلاهما بعثي بمعنى ما، وكلاهما لا يقيم وزناً لمعنى الأوطان، ومستعد للارتماء في أحضان القوى الخارجية.
عشنا في لبنان نسخة مخففة من التجربة المريرة لانهيار المناعة الوطنية، وعلى الرغم من النهاية الرسمية للحرب الأهلية، فإننا لا نزال نتخبط بحثاً عنها، ولعل التحرك الشبابي – الشعبي هو بداية الطريق الطويل إليها. كما تعيش فلسطين المحتلة شكلاً آخر لهذا الانهيار مع الانقسام وعجز القيادة وانهيار القيم. ولعل مقاومة القدس هي مؤشر على احتمال الخروج من هذا المنزلق.
غير أن الانهيار السوري هو الأكثر خطورة، فسوريا هي قلب المنطقة ونبضها، ومن دون بناء مناعتها الوطنية فإن فلسطين ولبنان سيبقيان تحت المقصلة.
منذ العام 2003، والمشرق يعيش في «عاصفة صحراء» تتجدد بتغير اللاعبين، حطم الأمريكان العراق وتركوه للفراغين الأصوليين: الإيراني والداعشي، والآن جاء الروس ليكملوا اللعبة.
لكن اللعبة ما كان لها أن تتخذ هذه المسارات الوحشية لولا أنظمة الاستبداد، التي صنعت سابقة استباحة الأوطان وإذلال الناس، ما سهّل المهمة على القوى الخارجية التي لا تخفي طبيعتها الهمجية، وانجرارها إلى حماقات القوة.
واللعبة معقدة، بعد تنمّر بوش الإبن جاءنا تنعّج أوباما الكاذب وتطوّس بوتين المضحك. وبعد «القاعدة» وهمجية الزرقاوي، جاءنا البغدادي بهمجية الصورة ووحشية إبادة الأقليات، وجاء الحرس الإيراني و»حزب الله» بخطاب الحرب المفتوحة ومشاريع الاجتياحات.
صارت بلادنا مسرحاً لحرب الهمجيات، وطُرد أهلها من المعادلة، وفُقدت المناعة الوطنية. ولن تبدأ رحلة الخلاص من المذبحة المفتوحة إلا عبر استعادة الناس لمصيرها بعيداً عن الأيديولوجيات القيامية المجنونة، وعلى أنقاض الاستبداد والاحتلالات.

الياس خوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ما قل ودل:

    مقال رائع لكاتب متميز سلمت يداك استاذ الياس

  2. يقول عبد الناصر محمد اسماعيل عبدي الشمري:

    احسنت استاذنا الخوري مع اضافة بسيطة تتمثل في كون القضية الان لم تعد من هو المحق او الذي على حق ( المعارضة ام النظام السوري ) يعني لم يعد معقولا ولا مقبولا العودة الى نفطة البداية في هذه القضية العربية بالذات اذ كان الرئيس السوري مصرا على ذلك تماما مثل اصراره على استئناف المفاوضات مع اسرائيل من حيث توقفت مع الرئيس حافظ الاسد. تقديري واحترامي
    عبد الناصر محمد اسماعيل -العراق

  3. يقول صالح علي:

    تعليق على تعليق للأخ صالح
    ما اريد قوله يا اخ صالح وهل هناك أسوأ مما هو سائد اليوم في سوريا وهل. ينكر احد حجم الاستبداد والارهاب وخنق الحريات التي كان يمارسها نظام الأسد الأب والابن ضد المواطنين السوريين ما قبل الانتفاضة الشعبية المشروعة التي انطلقت شرارتها من درعا وهل من الجائز القول بضرورة بقاء النظام بعد كل هذا الخراب والدمار والدماء التي تجري على ارض سوريا الحبيبة اليوم وماذا بقي من سوريا التي تتحدث عنها بعد ان استبيحت ارضها من قبل دول وقوى مختلفة كما استبيحت سماؤها من قبل كل الدول شرقها وغربها باسم محاربة داعش

  4. يقول Ahmad ismaeil.Holland:

    كلام الاستاذ الياس صحيح و في الصميم. في انتفاضة 6 شباط 1984 في بيروت التي اصبح فيها نبيه بري زعيماً للشيعة ،البعض من عناصر حركة امل بعد ما نزلوا الى شوارع بيروت قالوا نحن صار لنا ١٤٠٠ سنة مظلومين و هلاَّ اجا دورنا يعني الآن هو دورنا في السلطة،ونفس الشيء حافظ الاسد في سوريا كان يعتبر الطائفة العلوية التي ينتمي اليها كانت مظلومة ومضطهدة عبر تاريخ الاسلام واستلم الدور مثل ما قال العنصر من حركة امل، عمل انقلاب و استلم الحكم وباع الجولان وشعارات فارغة مثل بطل تشرين و بطل الجولان،الصمود والتصدي،وسوريا الاسد،ونظام الاسد لم يطلق رصاصة على اسرائيل طيلة اربعين عام وعائلة الاسد اصلاً و في الاساس لا تريد الحرب مع اسرائيل لأن اذا عملوا حرب مع اسرائيل يخافون ان يخسروا او ينهزموا و ان يفقدوا السلطة والحكم في سوريا.

  5. يقول سعيد الاردن:

    مقال صحيح ورائع وشكرا للكاتب الكبير

  6. يقول Rayan-UK:

    Well done

  7. يقول الحج ابًو خالد:

    يا أخوان الجميع يسعى بالاتجاه الأموال ، وفضائح الفساد داخل المعارضة معلومة ناهيك عن النظام ، ومسكين شعب الي بتشريد على أوروبا وبموت بالبحر ، ولا حوله ولا قوه الا باللة .

  8. يقول fatima:

    he did not hide , he gave a couple of interviews and answered a few questions . Syria is not a superpower , not rich , not well armed , when it faces such a conspiracy it has every right to protect whatever is left of the homeland yes even request help from friends .

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية