أيها الموت لا تأتي باكرا أرجوك…

حجم الخط
3

أرسل لي صديق مرثية فزّاع في أخيه المرحوم الشيخ راشد بن محمد بن راشد آل مكتوم، قصيدة « كلمة ـ أخي» فاستحضرت أكثر القصائد استقرارا في ذاكرتي عن الفقد وكانت القصيدة تجرني جرا إلى أربع قصائد تحديدا من عيون الشعرالعربي في المراثي:
قصيدة الشاعر نزار قباني في رثاء ابنه توفيق «إلى الأمير الدمشقي توفيق قباني» التي قال فيها:
« لأي سماء نمد يدينا؟
ولا أحد في شوارع لندن يبكي علينا..
يهاجمنا الموت من كل صوب..
ويقطعنا مثل صفصافتين
فأذكر، حين أراك، عليا
وتذكر حين تراني، الحسين
أشيلك، يا ولدي، فوق ظهري
كمئذنة كسرت قطعتين..
وشعرك حقل من القمح تحت المطر..
ورأسك في راحتي وردة دمشقية.. وبقايا قمر
أواجه موتك وحدي..
وأجمع كل ثيابك وحدي
وألثم قمصانك العاطرات..»
وقصيدة ابن الرومي في رثاء ابنه محمد التي قال فيها «بُنَيَّ الذي أهدتهُ كفَّاي للثَّرَى ٭٭٭ فيا عزَّة َ المهدَى ويا حسرة المُهدي»
وجدارية الشاعر محمود درويش الشهيرة التي قال فيها:» أَما أَنا – وقد امتلأتُ
بكُلِّ أَسباب الرحيل
فلستُ لي.
أَنا لَستُ لي
أَنا لَستُ لي…»
وقصيدة مالك بن الريب التميمي في رثاء النفس، تلك القصيدة النادرة في شعرنا القديم وهي تقرأ الموت سلفا لحياة عجّت بكل صخب الدنيا من الصعلكة إلى الالتزام.
ثمة تداخل في النصوص رغم تفاوت التجارب وأزمنتها ورغم حداثة تجربة فزاع في العمر الزمني. ذلك أن للحزن هوية واحدة وللفقد بصمات تكاد تكون واحدة أيضا. سمعت درويش وهو يهزم الموت مجازا «هزمتك يا موت»… محاولا الانتصار لفكرة الروح التي تتجاوز فجيعة الفقد الفيزيائي.. وعشت معه مولده الثاني حين نعاه إعلامنا العربي كأيقونة شعرية لا تتكرر، ولأول مرة يتربع الشعر على الصفحات الأولى للجرائد ويتصدّر نشرات الأخبار والبرامج التلفزيونية..
كسر درويش بموته جدران الصمت التي حجزت الشعر بعيدا عن الجماهير العربية حين رثاه الجميع.. كما منحت قصائد الرثاء المثخنة بالحزن حيوات متجددة للراثي والمرثي. فغير نزار ودرويش وابن الريب وابن الرومي، نحفظ بكاء الخنساء لأخيها صخر، ونردده « أعينيّ جودا ولا تجمدا..» وها هي مرثية فزاع في أخيه راشد تشق ثوب الإمارة السعيدة نصفين، ليبرز الجرح العميق لأسرة طالما ظنناها في منآى عن مصائب الدنيا، أسرة جعلت من دبي مدينة سعيدة فعلا، نقل اليها محمد بن راشد كل ما رآه جميلا في العالم. حتى أنني أردد دوما «الله يسامحك يا محمد بن راشد أفقدتنا الدهشة»، لأننا رأينا كل شيء في دبي، الأبراج العالية، الميترو السريع، المطار الأكثر شساعة ونظافة وتطورا، الخدمات والعمران وكل شيء أُبدِع ونُفِّذ باِتقان…
هذا الرجل الذي منحنا السعادة، وتعامل معنا كأننا أبناؤه وأفراد أسرته، يضربه الحزن في عقر قلبه حين يخطف الموت فجأة فلذة كبده، وهذا ما جعلنا جميعا نشعر بأننا فقدنا أخا عزيزا.. أخا من لحمنا ودمنا، أخا من هالة الروح نفسها التي نتنفس بها ونحيا بها بسعادة على أرض دبي.
هكذا أراد الشيخ محمد بن راشد أن نكون في إمارته، وهكذا أصبحنا فعلا. من هم خارج الإمارات سيصعب عليهم أن يفهموا هذا الشعور. فبعضهم لا يقرأ هذه المدينة إنسانيا بل يقرأها كأرقام، فيما هي مدينة ككل المدن تنبض وتتنفس وتمنح الابتسامة والحياة لكل من يأتي إليها. وهي غير كل المدن التي عرفت، والحمد لله صلت وجلت في العالم كثيرا.
أكتب اليوم عن رحيل الشيخ راشد ليس لأنه ابن الشيخ محمد، بل لأنه ابن هذه المدينة الباذخة في الكرم، الباذخة في الدلال والجمال والعطاءات، ابن مدينة تمر بأقسى ما يمكن أن تمر به الأمهات. لأول مرة أرى دبي حزينة بهذا الشكل… حزن سميك ومختلف. حزن حوّل أشعة الشمس إلى خيوط داكنة. ولا أظنها مرت بنفق معتم كهذا، فقد عشت فيها سبعة عشر عاما، وبقيت فيها أيام الأزمة الاقتصادية التي أرعبت الكثيرين وقالوا دبي انتهت، فسرحوا موظفيهم، وأعلنوا إفلاسهم حتى قبل أن يفلسوا وغادروها هاربين. في عز أزمتها تلك، كان الشيخ محمد يبحث عن حلول، وجعَلَنا جميعا، نحن المنتمين إلى أسرته بالروح، أن البقاء هو الذي سينقذها، وليس الفرار.
واليوم يأتي غياب الشيخ راشد ليؤكد أننا أكثر انتماء لهذه المدينة الفارقة/مدينة الأشياء التي لا تتوقف في الأرض. نفتقد ابن هذا القائد الذي أنجز لنا أرض الأحلام من الصحارى الصفراء.. ونرفض الحزن لقلبه الكبير وعقله الطموح.. وحين كتب أخوه الشيخ حمدان فزّاع مرثيته فيه، شعرنا بأنه قال ما نريد قوله:
ليت القبر يعرف مقام اللي دفنا في ثراه… يا ما أعظمه حي وهو ميت بعد ياما أعظمه
ما عاد لك يا أحمد ولا لي غير ندعي في الصلاة… ونقول يا راحم عبيدك من عذابك تعصمه
أنا شخصيا أحب شعره، لكنني أمام هذه القصيدة أكتشفه من جديد، كل شيء مختلف حين يخرج الشعر من لوعة الفقدان، حين يقول :» لو الحزن يقدر يرده ما ذخر جفني بكاه… حزنت لين الشمس تصبح في عيوني مظلمة».
يبكي الشّعر، وينهمر مبللا ونحن نقرأه. يملأ عيوننا بملح الحزن والخوف والرّهبة. نعم ليس سهلا أن نفقد أخا، ليس سهلا أن نفقد جزءا منّا، أن ننشطر نصفين، نصف يبتلعه القبر ونصف يبقى عالقا بشباك الحياة إلى حين…
ليس سهلا…
الصاحب لحظة غضب يضيع طيبه في رداه… يبيع حبه بأرخص الأثمان مهما تخدمه
وأخوك ما يقدر يبيعه لأن أصلا ما شراه… خلق وحبك وسط خفاقه ويجري في دمه
أليست هذه هي الحقيقة بحذافيرها؟ مهما كابرنا، مهما تمسكنا بنظريات مغايرة، مهما عشنا من تجارب مختلفة، تبقى للحياة مقولتها الأخيرة لتغلق أبواب وجهات النظر كلها.
صدقا أقول لكم إنني دوما أقرأ نصوصا عن الصداقة تمجد الصديق وتمنحه مكانة الأخ، لكنني قليلا جدا ما صادفت نصوصا ترثي الأخ أو الأخت… حتى أنني اعتقدت أن بعد الخنساء لا حب شخص لأخيه، فقد ظلت تبكيه حتى أصيبت بالعمى، وظلت ترثيه حتى توفيت. كما اعتقدت أن مالك بن نويرة الذي ظل يرثيه أخوه متمم حتى وُرِيَ التراب نوع من المرض النفسي لو أصيب به الشاعر في عصرنا لتعالج منه بعدة جلسات عند طبيب مختص.. لكن الحقيقة غير ذلك.. وتختلف تماما عن نظرياتنا المجحفة تجاه فلان وعلاّن، فقراءة الحزن لا تحتاج سوى لعينين تحسنان الرؤية، وبصيرة ترى الإنسان بدون أوسمته ونياشينه وأكسسوارات الحياة..
شعور الحزن غمر مدينتنا وجثم علينا مواطنين ووافدين وعابرين.. يا أصدقائي..
أما رغبة الكتابة تناثرت هنا وهناك في وسائل التواصل الاجتماعي بشكل عاصف.. من قلوب محبة ومخلصة لحاكم فارس أراد الأفضل لساكني أرضه وأهل بيته.. أما أنا فلي رغبة في قراءة القصيدة مرات ومرات ونبش المراثي كلها لإعادة قراءتها… لي رغبة في احتضان كل أخوتي وإبقائهم بين أحضاني قبل أن يقطفنا الموت تباعا وينهي حياة بعضنا بالحزن على سابقيه شيئا فشيئا…
أيها الموت لا تأت باكرا إلى من لا يزال في عمر الزهور، لا تأت باكرا رجاء، دعنا نحب بعضنا بعضا حتى نملّ من الحياة… لا تأت باكرا وكفى، فكلما أبكرت أصبحت مقيتا، وتركت في القلب ندبا عميقة وكثيرا من الجرح…!

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

بروين حبيب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سمير بريطانيا:

    الله سبحانه وتعالى هو خالق الموت والحياه
    وقوله عز شانه فاذا جاء اجلهم لا يستاخرون ولا يستقدمون
    لا احسبك تخاطبينه سبحانه وتعالى

  2. يقول نسيمة حرة - الجزائر:

    فقدت الأخ الأول
    بعد ثلاث سنوات
    فقدت الأخ الثاني
    في عمر الزهور!
    و لست بشاعرة فماذا أقول؟

  3. يقول أفانين كبة . مونتريال ، كندا:

    الحياة فيلم طويل ونحن نجومه ، وكلنا نعيش في غفلتها الى ان نتعثر بالموت ليوقظنا منها .
    لقد احتضنتي دولة الامارات ( أبوظبي) سنة ١٩٨٠ ولمدة ست سنوات . وكانت في ذلك الحين يغلب عليها طابع الصحراء ، حيث كانت تخلوا من المباني الشاهقة ومن كل زخارف الحياة كما هو الان . ولم يهمني ذلك لأنني تعايشت مع أهلها ومواطنيها الطيبين ، وتركوا الاثر الطيب في نفوسنا ، وهذا هو ما يميزها .
    رحم الله الشيخ راشد بن محمدالمكتوم ، ورحم الله كل الضحايا والشهداء الذين قدموا حياتهم ودماءهم في سبيل الانسانية .

إشترك في قائمتنا البريدية