«إبدأ من جديد» للأيرلندي جون كارني: تحيّة إلى الأفلام الموسيقية وسيدات العصر الذهبي للسينما

حجم الخط
0

بيروت ـ «القدس العربي»: بطلة فيلم «إبدأ من جديد» اسمها «غريتا»، اسم غريب، قليل الانتشار، يُعيدنا فور نطقه إلى «غريتا غاربو 1905-1990» أحد أشهر من حملَ هذا الاسم، وهي ممثلة أمريكية سويدية المولد، يعود أوّل أفلامها إلى حقبة الأفلام الصامتة، أدّت عام (1935) دور «آنا كارنينا» في فيلم عُنوِنَ باسم بطلة رواية الكاتب الروسي الشهير تولستوي 1828-1910.
عام 2012 أعادت الممثلة البريطانية كيرا ناتالي تقديم شخصيّة «آنّا كارنينا» في فيلم حمل العنوان ذاته، وناتالي اليوم تؤدي شخصية «غريتا» الفتاة الموسيقية، العاشقة، المستقلة، والمتمرّدة على الأحكام الجاهزة في الفيلم الصادر حديثاً «إبدأ من جديد».
غرابة اسم «غريتا» كخيارٍ درامي لاسم بطلة فيلم موسيقي، رومانسي، ترفيهي تنساق وجمال كيرا ناتالي الخاص، وأدوارها التي ارتبطت غالباً بأزياء غريبة أو شخصيات درامية استثنائية. اختيار هذه الأدوار، مع تجنّب ناتالي الظهور على صفحات «البابراتزي» ساعدها في أن تكون من الممثلات الشابات القلائل اللواتي، يبدو أنهنّ، نجحنّ في عدم الانجرار إلى ماكينة التسويق الهوليوودي. كسر القواعد هذا هو ما تقوم به «غريتا» في الفيلم، تكسر قواعد العلاقة بين الفنان وشركة الإنتاج حين ترفع التحدّي، تتمرّد على الاستديو وتسجّل موسيقاها في الهواء الطلق، في الشارع، مستعينةً بكل الأصوات من حولها، وتكسر القواعد التي تفترض جمال المغني لزيادة التسويق والمبيعات، ترفض أن تفكر بتقبّل الجمهور أو رفضه طالما أنّها تحب أغنتيها.
فما هو فيلم «إبدأ من جديد»؟ إنّه ببساطة شريط سينمائي يكسر توقعاتنا الكليشيه، أجل لن تستسلم الفتاة الشابة التي غامرت بعلاقة حب وعمل طوال خمس سنوات مع شاب يعشق الموسيقى مثلها، لكنه يعشق ذاته أكثر، فاختار تسلّق سلم الشهرة وحده مُخلّفاً إياها مهجورةً كامرأة وشريكة له في فنهما، لن تستسلم وتدخل في علاقة عابرة مع منتجها الذي يغامر معها فنياً لينهض هو أيضاً من أزمته المهنيّة والشخصيّة. ومرّة اخرى تخيّب «غريتا» توقعاتنا التي بُنيت عبر عشرات الأفلام المُنتجة والمُسوّقة هوليوودياً، فلن تعود وتستسلم لصديقها الذي عاد بعد مغامرته القصيرة.
بدأ إنتاج فيلم «إبدأ من جديد» عام 2012 بعنوان «هل تستطيع أغنية إنقاذ حياتك؟»، وعرض في مهرجان «تورنتو» السينمائي في أيلول/سبتمبر عام 2013، إلاّ أنّه لم يوزّع في الأسواق حتى حزيران/يونيو 2014. عُرضَ وسوّق بتأنٍ، وصُنِعَ بتأنٍ ممائل إن لم يكن أكثر. يكسر الفيلم هذه التوقعات التي أصبحت مفضوحة حد الملل لكثرة استخدامها، كما يكسر الترتيب في البناء السينمائي، هنا التراتبيّة لا تأخذ معنى السيرورة الدراميّة، بقدر ما تبني تراكميّة هرميّة- إن صحّ القول- فلا يغدو القص سيراً إلى الأمام مع حدث يتطوّر ويتصاعد دراميّاً، بقدر ما هو إغلاق لدائرة الحدث، وكأنّنا أمام حلقة من حلقات الحياة، مرّت بها أحداث وشخصيّات غيّرتنا، كادت تهزمنا، ولكنها ليست كلّ الحياة، هي جزء منها، خرجنا منها لنبحث عن بداية وأفق جديدين. ومع نهاية شريط «بدأ من جديد» نجد أنفسنا وكأّنّنا نتذكر معنى «التجربة السينمائية»، ونرغب في أن نبدأ الفيلم من جديد لنعيش هذه التجربة مرّة أخرى. شريط سينمائي مُمتع، بموسيقى مُتجدّدة، شخصيّاته غنيّة، متطوّرة، غير مُنمّطة، تلامس روحك، في الوقت ذاته الذي تغريك فيه بعيش الطقس السينمائي في المنزل، بصحن البوشار والإضاءة الخافتة ومزحات قصيرة مع العائلة.
كيف ينجح مخرج الفيلم جون كارني في أن يُنقذ مشهده الأخير «غريتا» تقود دراجتها وحيدة في مساء نيويورك أواخر الصيف، من مشاهد سينمائية عديدة مُشابهة، لعلّ من أبرزها مشهد أودري توتو في فيلم «إميلي بولان 2001»؟!. بل يتجاوز هذه الذاكرة السينمائية ليقودنا إلى الذاكرة البعيدة، موقظاً في داخلنا ذاك الإحساس الذي ارتبط بفيلم ما، بمشهد ما، ببطلات يُشبهنّ «غريتا» أو هي تُشبههنّ، فناتالي في شخصيّة «غريتا» بعينيها الواسعتين، وملابسها الكلاسيكية المُنتقاة بعناية لا يُمكن سوى الإشادة بها، بشعرها المقصوص قصيراً وغرتها المائلة، بنحولها وابتسامتها العريضة، نجد أنفسنا في آخر لقطات الفيلم وقد عثرنا على ما كنّا نبحث عنه، أجل تذكرنا بشخصٍ ما، ليس «غريتا غاربو» بقدر ما هي أودري هيبورن 1929-1993، المشاكسة في فيلم «سابرينا 1954»، لكنها تملك قوّة غريس كيلي 1929-1982 واستقلاليتها، وربما عناد فيفان لي 1913-1967 في «ذهب مع الريح 1939» أو رهافة «ميريل ستريب 1949- في «جسور بلدة ماديسون تاون 1995».
بذات العناية يشتغل كارني على مُجمل تفاصيل فيلمه الأخرى، من السيارة التي يقودها المُنتج الموسيقي (دان- مارك روفالو)، إلى الآلات الموسيقيّة المُستخدمة، حيث يُعيد تقديم «التشيللو» الساحرة إلى جانب الطبول، البيانو إلى جانب الغيتار الكهربائي في شارع مفتوح، تحيّة إلى مدينة نيويورك، المدينة التي لا يتوقف عن التجوّال فيها ونحن نسير مع أبطال شريطه نسمع الموسيقى التي تحوّل مشهداً عادياً إلى لحظة استثنائية.
من خلال الموسيقى التي اشتغل عليها غريغ ألكساندر نستعيد نيويورك التي عرّفنا إليها وودي آلن في أفلامه، وقد أزال عنها كارني تلك القشرة البلاستيكية الملوّنة البرّاقة التي صبغتها بها أفلام مثل «المدينة والجنس 2008»، من خلال الموسيقى وليس الكلمات يُذكرنا كارني بقوّة اللحن، بجمال الكمان والتشيللو والغيتار، وبجوهر الأفلام الموسيقية التي تحاور الموسيقى لا تستغل الكلمات، بأفلام من طراز «موسيقى القلب 1999»، خاصة أنّه يضعنا في مواجهة لعبة الجماهيريّة والتسويق والصناعة الإعلانيّة من خلال نموذج (ديفيد- آدم ليفن).
في الوقت ذاته الذي نستكشف فيه المدينة عبر فصولها، تنمو بهدوء هذه العلاقة الإنسانيّة بين فنانة ومنتج موسيقي، وكيف تتقاطع عوالمها الشخصيّة مع المهنيّة، من دون أن يمسّا بذاك الخيط الرفيع من الخصوصيّة في العلاقات الإنسانيّة، ومع تقدّم التسجيل الموسيقي، أغنية بعد أغنيّة، فكرة وراء فكرة، نقترب من الشخصيات أكثر، نكتشف جوانبها المختلفة، ونكاد لا نلحظ كيف تتبدّل وتتطوّر، وهذا ما يحدث في الحياة، وليس ذاك الموقف الدرامي حين ينهار البطل في يومٍ سيئ وينهض في اليوم التالي وقد قرّر التحوّل إلى بطلٍ هوليوودي.
«إبدأ من جديد» فيلم يقدّم الناس العاديين، تفاصيل الحياة العادية، الموسيقى البسيطة، بفنيّة سينمائية تحوّله شريطاً استثنائياً في زمن الاستهلاك والإنتاج السريع.

يارا بدر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية