ما يشغل طهران هذه الأيام إقليمياً وحتى دولياً، ليس – كما تقول واشنطن – الجدل حول تطوير ترسانتها الصاروخية بما ينقض «روح الاتفاق النووي» وبالتالي فرض عقوبات جديدة على الحرس الثوري، لأنها كانت قررت سابقاً منذ الحرب العراقية الإيرانية وما سمي آنذاك «حرب المدن»، أن مسألة إنتاج صواريخ باليستية بالنسبة لها، مسألة حياة أو موت، وأن بقاء نظام الجمهورية الإسلامية، واستقراره، مرتبطان بشكل أساسي بتعزيز قدراتها الصاروخية للردع فقط، و»منع ظهور صدام حسين آخر يهدد بضرب المدن الإيرانية متى ما يشاء لابتزاز الجمهورية الإسلامية» على حد تعبير وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف وهو يرد على صحافي ياباني سأله عن مخاوف دول مثل اليابان في الاستثمار في إيران بسبب إصرارها على إنتاج الصواريخ الباليستية.
فطهران التي تورطت حتى العظم في الملف السوري منذ بداياته في آذار/مارس 2011 ثقفت جمهورها على أن الانتصار في سوريا على المنافسين الإقليميين، ورقة أساسية في فرض نفسها كدولة تشارك في حل أزمات المنطقة.
وفي هذا الواقع تنظر طهران إلى أهمية كسب دول إقليمية فاعلة ومؤثرة في الملف السوري لصالح هذه الرؤية، وبدأت ذلك مع أنقرة.
إنقلاب
كان شيئاً هاماً جداً لإيران أن يحدث ما تسميه صحافتها القريبة من صناع القرار بـ»إنقلاب» الرؤية التركية من القضية السورية بعد موقفها الداعم حتى النخاع للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أثناء محاولة «الانقلاب» عليه في تموز/يوليو 2016، ما جعل أردوغان ينخرط في المحادثات التي أوصلت إلى إتفاق أستانة لإيجاد وقف إطلاق شامل للنار في سوريا، وضبط الجماعات المسلحة في هذا الاتجاه.
وبعد إندلاع ما يسمى»الأزمة القطرية» وبروز توافق كبير بين طهران وأنقرة منها، زادت مساحات التفاهم الإيراني التركي ووصلت إلى الذروة بعد «الاستفتاء» الذي أصر عليه في 25 أيلول/سبتمبر المنصرم زعيم الحزب الديمقراطي الكرستاني العراقي مسعود بارزاني، ما جعل الفجوات التي كانت تبرز بين الإيرانيين والأتراك في أستانة، تضيق بسرعة، خصوصاً بعد أن توج البلدان إتصالاتهما حول كردستان العراق عندما زار الرئيس التركي أردوغان طهران وسبقه بيومين رئيس أركانه ورئيس الوزراء قبل إنطلاق عمليات الجيش التركي في إدلب السورية.
وبدا واضحاً منذ إنطلاق إجتماعات أستانة في العاصمة الكازاخية أن ما يشغل الإيرانيين الذين كانوا يتولون مهمة التنسيق العسكري للدول الثلاث إيران وسوريا وروسيا في سوريا، هو إيجاد منطقة آمنة في إدلب السورية، إذ نوقشت هذه النقطة بالتفصيل في الجولة السادسة من «أستانة» برعاية روسية، إيرانية وتركية، ثم صودق عليها في الاجتماع الأخير الشهر الماضي.
وكانت موسكو حريصة على التنسيق مع طهران قبل الذهاب إلى العاصمة الكازاخية، فقد قام ألكسندر لافرنتيف المبعوث الخاص للرئيس الروسي لاجتماعات أستانة، بزيارة رسمية للعاصمة الإيرانية الشهر الماضي، والتقى بسكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني الذي يتولى أيضاً مهمة التنسيق العسكري للدول الثلاث إيران وسوريا وروسيا، كما التقى نائب وزير الخارجية الإيرانية المسؤول عن شؤون العالم العربي وأفريقيا جابري أنصاري، إذ شددت طهران على «ضرورة إحترام جميع الدول وأطرف النزاع في سوريا للسيادة الوطنية السورية ووحدة أراضيها»، وهذه إشارة إيرانية لافتة لما يشغل بال أنقرة أيضاً وهي القلقة من تعاون واشنطن مع قوات المعارضة الكردية!
مصير إدلب
وبعد المبعوث الروسي زار الرئيس التركي ورئيس أركان جيشه طهران ونوقشت هناك بتفصيل أدق نتائج زيارة رئيس الأركان الإيراني والتي كرست لمنع إنفصال كردستان العراق، وبات من المؤكد القول هنا إن الصفقة الإيرانية التركية بشأن إدلب لها صلة مباشرة بالقلق الإيراني التركي المشترك من تداعيات «الاستفتاء» في كردستان العراق الذي ألقى بظلاله بقوة على التطورات الميدانية الجديدة في سوريا، بعد أن تلقى تنظيم «الدولة الإسلامية» هزيمة كبيرة في معقله في الرقة، وسيطر الأكراد المدعومون من الولايات المتحدة على أجزاء كبيرة من المحافظة، فيما يمضي جيش النظام السوري قدماً نحو السيطرة على الأجزاء الشرقية من البلاد للقضاء على التنظيم بشكل نهائي في هذه المحافظة.
وحسب إعلان وزارة الدفاع الروسية، فقد تم تحرير أكثر من 91 في المئة من الأراضي السورية وتطهيرها من «التنظيمات الإرهابية». كما أن أمين عام حزب الله حسن نصرالله، ذكر أن التنظيم متواجد فقط في أجزاء من دير الزور والميادين والبوكمال. ورغم هذا كله فإن المناطق التي قد تتجه إليها الأنظار مستقبلا وقد تكون من بين النقاط الساخنة عسكريا هي التي تقع في الشمال الغربي من سوريا وتحديداً في محافظتي حلب وإدلب، وهي المناطق التي شهدت خلال الشهرين الماضيين تحولات سياسية وميدانية عدة، من أبرزها الإتفاق بين إيران وروسيا وتركيا في اجتماع أستانة الأخير والذي يهدف لإيجاد منطقة آمنة رابعة في إدلب الذي أطلق يد الحكومة التركية في أن تبدأ عملياتها العسكرية، وتتوغل داخل الأراضي السورية في عملية «الفرات» الثانية.
وتدرك طهران ومعها الحليفان السوري والروسي أن نحو 67 في المئة من التنظيمات المسلحة في سوريا بإستثناء تنظيم «الدولة» تتواجد حاليا في هذه المنطقة، ومن هنا فإن الهدف الأول الذي تفكر به طهران من هذه العمليات التي بدأتها تركيا في إدلب، هو سد الطريق أمام الولايات المتحدة وتفويت الفرصة عليها للتدخل العسكري بحجة مواجهة «جبهة النصرة»، وستكون الرقة هدفها التالي لمنع تشكيل جبهة موحدة تساند الأكراد الإنفصاليين شمالي سوريا، وذلك بمحاصرة عفرين.
ومن الطبيعي في هذه الحال، فإن تواجد القوات التركية في كل من إدلب، ومنطقة عفرين سيحد من انتشار القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة ومنظمة PKK . ويعتقد الإيرانيون أن مثل هذه العملية ربما ستجعل المواجهة قريبة بين القوات التركية والأكراد بما يدخل أنقرة من دون شك في صراع سياسي مع واشنطن، يمكن أن تستثمره طهران لصالح التعاون أكثر للتصدي لتداعيات استفتاء كردستان العراق.
وفي وضع كهذا، قد تسعى الولايات المتحدة للحد من المواجهة العسكرية في الميدان بين الأكراد والقوات التركية. وقد تكون الضغوط التي تمارسها واشنطن على أنقرة إحدى الأسباب التي تدفع أمريكا لإبقاء القوات الكردية بعيدا عن أي اشتباك مسلح مع الأتراك.
لكن هناك تحديا آخر يزعج بال الإيرانيين يتمثل في أن التحركات التركية في شمال سوريا ربما تؤدي إلى صب الزيت على النار وإطالة أمد الحرب الأهلية السورية. الأمر الذي لا يخدم مساعي طهران وموسكو في إنهاء الحرب في سوريا وخروجهما منتصرين من المستنقع السوري. يضاف له أن لروسيا علاقات جيدة مع الأكراد على غرار الأمريكيين، وهي لا ترغب في الدخول في مواجهة معهم، رغم أن سيطرة الأكراد على المناطق الشمالية الغربية في سوريا ووصولهم إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط أثار الكثير من القلق لدى طهران وأنقرة اللتين تسعيان إلى قطع أي إرتباط بين الأكراد في سوريا والعراق.
مخاوف
ولابد من الإشارة إلى أن ظاهر الخطة التركية هو الإستعانة بالجيش الحر لمواجهة «جبهة النصرة» والأكراد، إذ يثير بعض المحللين في طهران مخاوف من تكون أنقرة تخطط بالأساس لإعادة الحياة مجددا إلى الجيش الحر الذي أصابه الوهن في بنيته الفكرية والايديولوجية وشهد الانشقاقات بين صفوفه خلال العامين الماضيين، وخسر ما يقارب 70 في المئة من قواته.
ورغم أن روسيا لا ترى في تلك الخطوة أي تحد لها، إلا أنها بالتأكيد تتعارض مع مصالح طهران ودمشق، لأن «الجيش الحر» يسعى في العلن لإسقاط النظام السوري، حتى أن محمد علوش المسؤول السياسي في تنظيم جيش الإسلام أعلن في وقت سابق عن أن تحالفهم مع تركيا سيكون بمثابة سفينة للنجاة من أجل استعادة إدلب من «جبهة النصرة».
وبالإضافة إلى هذا كله، فإن إتساع النفوذ العسكري التركي في سوريا سيتحول إلى ميزة استراتيجية مستقبلا لصالح أنقرة في الأزمة السورية. وفي الواقع، فإن دعم أنقرة للجيش الحر وسيطرتها على أجزاء واسعة من الشمال السوري سيدعمها في قدرتها على المناورة في المعادلات السورية مستقبلاً بما لا يريح إيران التي لا تجد خيارا الآن، وهي ترى شبح «التقسيم» يلاحقها إذا أعلن الكرد العراقيون انفصالهم، سوى الاعتراف – مكره أخاك لا بطل- أن التدخل التركي في إدلب خطوة إيجابية على طريق الحل السياسي في سوريا.
نجاح محمد علي