إذا أردت أن تقضي على ثورة اصنع لها متطرفين!

هل لاحظتم في بداية الثورة السورية أن أكثر شيء أزعج نظام بشار الأسد هو مطالبة الشعب بالحرية. وقد لاحظنا كيف كانت أجهزة الأمن تنكّل بالمتظاهرين الثائرين، وتتلذذ بتعذيبهم بطرق وحشية وهي تقول لهم: «بدكن حرية، أي خذوا حرية» (وهي تسحقهم طبعاً). هرش النظام وحلفاؤه وكل من يريد إفشال الثورة رؤوسهم وهم يفكرون بالانتقام من الثوار، ثم صاحوا: وجدناها، وجدناها: نحن نعرف كيف نجعل الشعب الثائر يحن إلى أيام الطغيان الخوالي، ويلعن الساعة التي طالب فيها بالحرية. أحضروا له جماعات متطرفة تجعل النظام يبدو «ديمقراطياً» للغاية بالمقارنة معها. سنجعل تلك الجماعات تتدخل حتى في لباسكم وشرابكم وأكلكم وسجائركم.
عندئذ ستقولون: «ما أحلى أيام المخابرات، على الأقل لم تمنعنا من التدخين، وتركتنا نلبس، ونأكل، ونشرب، ونسمع ما نشاء».
إياكم أن تستهينوا بهذه الحريات البسيطة. تخيل أنك تمشي في الشارع، وجاء شخص، وضربك، وطالبك بالدعس على السيجارة فوراً، أو منعك من الاستماع إلى موسيقى معينة. كيف سيكون شعورك، إذا لم يكن بإمكانك أن تنظر في وجهه، فما بالك أن تصرخ؟
ومما يجعل الطواغيت أكثر شعبية من بعض الإسلاميين المتطرفين أن بعض المجتمعات التي ثارت فيها الشعوب هي عبارة عن موزاييك ديني وطائفي وعرقي، وبعضها فيه نسبة كبيرة من العلمانيين. أي أن ذلك الموزاييك ليس مستعداً للعيش في مجتمع محكوم دينياً، وبالتالي فهو سيفضل الطاغية العسكري، على علاته الكثيرة، على «الخليفة المُعمم». وحتى المسلمون العاديون الذين تعودوا على حياة اجتماعية غير متزمتة لن يقبلوا بنظام حكم ديني صارم. وقد سمعت من كثيرين من المسلمين السوريين أنهم بعد الثورة سيحملون السلاح فوراً لتحرير البلاد من أي جماعة دينية متطرفة. أي أنهم لم يثوروا ضد النظام العسكري المخابراتي ليستبدلوه بنظام ديني متطرف.
ألا يحق للبسطاء الآن أن يتساءلوا بعد أن وجدوا أن الجماعات المتطرفة اختطفت الثورات؟ من أين أتت تلك الجماعات؟ لماذا لم نرها قبل الثورات؟ من أين أتت بالسلاح؟ كيف تغولت، وسيطرت على الساحات بسرعة وبقوة؟ لماذا لا تسقط مواقع النظام في سوريا إلا أمام جماعات إسلامية معينة؟ لماذا اختفت الجماعات الثورية الأصلية التي كانت تريد بناء أنظمة ديمقراطية حديثة تصون الحقوق والحريات الأساسية؟ أسئلة مشروعة جداً بعيداً عن الفلسفات. أليس من عادة الثورات أن تنقل الشعوب إلى الأمام لا إلى الوراء؟ ألم تثر الشعوب لتنتقل من الواقع البائس إلى مستقبل مشرق؟ هل أرسلوا لها جماعات متطرفة لتنتقم منها، وتعيدها مئات السنين إلى الوراء؟ ألا تحاول الجماعات المتطرفة التي تتزعم الساحات الآن إعادة الشعوب إلى الخلف فعلاً؟ ألا تهدد بالتدخل في أبسط حرياتها؟ فمن المستفيد إذاً من تصرفات تلك الجماعات وطغيانها؟ أليس الطواغيت الذين ثارت على ظلمهم وطغيانهم الشعوب؟ ألا يفرك بشار الأسد وأمثاله وحلفاؤه أيديهم فرحاً عندما يرون تلك الجماعات تنافسهم في القمع والطغيان؟ النظام السوري وأتباعه يشتمون الدواعش نهاراً، ويشكرونهم ليلاً، لأنهم وفروا لهم متنفساً عظيماً.
سؤال للجماعات التي تريد أن تعود بالشعوب الثائرة إلى ما قبل القرون الوسطى: ألا تعتقدين انك بذلك تقدمين خدمة جليلة جداً لأعداء الثورات ولطواغيت الذين يواجهون ثورات شعبية؟ الشعوب ثارت للتخلص من الظالمين، وليس للوقوع في حضن الظلاميين الذين يريدون أن يعودوا بالشعوب إلى غياهب الماضي. إما أنك لا تفقهين ألف باء الثورات كونها قفزة إلى الأمام وليس نكوصاً إلى الخلف أيتها الجماعات، أو أنك من صنع الطواغيت وأعوانهم كي يجعلوا الشعوب تقول: «خليك على قردك كي لا يأتيك الأقرد منه». أليس من حق الشعوب أن تظن أن الديكتاتوريات المحاصرة بالثورات تعمل مع حلفائها على خلق جماعات تدعو للعودة الى الوراء، فتتوقف الشعوب عن مطالبها الثورية، وتقول: فلنبق على ما نحن عليه، أفضل من أن نعود الى الماضي السحيق.
لا شك أن البعض سيقول لنا: وما العيب في أن نعود مئات السنين إلى الوراء؟ ألم نكن أفضل في تلك الأيام الخوالي؟ نعم بالتأكيد كنا أفضل وأقوى. لكنه بصراحة سؤال ساذج؟ ومن قال لك إن تلك الجماعات المتطرفة ستعيدك إلى العصر الإسلامي الذهبي؟ ولو افترضنا جدلاً أن تلك الجماعات تريد ذلك فعلاً، هل تسمح لها القوى الكبرى بذلك؟ صحيح أن كثيرين صفقوا لبعض الجماعات المتطرفة في سوريا وغيرها، لكن ليس لأنهم يريدونها بديلاً عن النظام، بل فقط نكاية بالنظام وانتقاماً منه، دون أن يعلموا أن بعض الجماعات تقوم بتلميع صورة النظام بطريقة غير مباشرة داخلياً وخارجياً. ثم أين انتصرت تلك الجماعات المتطرفة، ثم بنت دولة أفضل من الموجود؟ في أفغانستان؟ في الصومال؟ في الجزائر؟ في ليبيا؟ أم إنها انشغلت بمقاتلة بعضها البعض بعد أن نفذت مشاريع الاخرين هناك؟ انظر كيف تصفّي بعضها البعض في سوريا وغيرها؟ أليست الجماعات الإسلامية أكثر من يردد القول الكريم: «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم»، لكنها أكثر الجماعات تنازعاً فيما بينها وخاصة أثناء الثورات وبعدها؟ قد يقول البعض إن الثورة المصرية لم يقتلها المتطرفون الإسلاميون. وهذا صحيح، لكن الثورة المضادة نجحت نجاحاً باهراً في استغلال البعبع الإسلامي لإعادة الشعب إلى بيت الطاعة.
لقد حققت الجماعات المتطرفة هدفين لأعداء الثورات في الداخل والخارج. أعادت بعض الأنظمة الساقطة للسلطة، وأطالت بعمر النظام السوري وغيره بعد أن انشغل بها الداخل والخارج، واستغلها الخارج وعملاؤه في الداخل لحرف الثورات عن مسارها، واستخدموها سكيناً لإعادة رسم خرائط المنطقة. تدخل داعش إلى منطقة، فترسل لها أمريكا وإيران طائراتها وجماعات لتقاتلها على الأرض، فتخرج داعش من تلك المنطقة لتحل محلها جماعة أخرى، كما يفعل الأكراد الآن في الشمال والجماعات الإيرانية في العراق. وبحجة ذلك يتم تهجير شعوب وإعادة تقسيم المناطق بتنسيق أمريكي إيراني لا تخطئه عين. وحتى لو صدقنا أن تلك الجماعات مستقلة تماماً، ولا تخدم أحداً، وانتصرت، وحلت محل الأنظمة الساقطة، ألا يحق للشعوب أن تسأل: هل ثرنا كي نستبدل الفالج بالسرطان، أو الظلم بالظلام؟

٭ كاتب وإعلامي سوري
[email protected]

د. فيصل القاسم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عربي حر:

    تحية للكاتب المحترم
    الإستبداد والتطرف وجهان لعملة واحدة
    كلاهما يقتل معارضيه
    وجود أحدهما مرتبط بالآخر
    المستبد يتاجر بالإرهاب والمتطرف يتاجر بالدين
    كلاهما أس التخلف والتبعية

  2. يقول عمر العكاوي:

    يا فيصل القاسم تقول ان البعض غير مستعد ان يعيش تحت حكم ديني وانا اقول لك ان الاكثر غير مستعد ان يعيش تحت حكم علماني. نرضي من برايك؟ الاقلية ام الاكثرية؟ .

  3. يقول حي يقظان:

    /… تخيل أنك تمشي في الشارع، وجاء شخص، وضربك، وطالبك بالدعس على السيجارة فورًا، أو منعك من الاستماع إلى موسيقى معينة. كيف سيكون شعورك، إذا لم يكن بإمكانك أن تنظر في وجهه، فما بالك أن تصرخ؟…/

    يا عزيزي فيصل، حَنْجِرْها شوي،

    هؤلاء الإسلاميون المتطرفون يريدون منا أن نتحلى بأخلاق السيد المسيح على الطريقة المازوخية قبل كل شيء، أي على مبدأ «إذا ضربك أحدُ هؤلاء الإسلاميين المتطرفين على خدِّك الأيمن فأدِرْ له خدَّك الأيسر (ومع ابتسامة كمان)»!!!

    وعندها، فقط، يكون هؤلاء الإسلاميون المتطرفون قد أنجزوا إنجازًا تمهيديًّا “عظيمًا”، وذلك بجعلنا مؤهَّلين بجدارة، ودونما أية شفاعةٍ، للتحلِّي بأخلاق الرسول الكريم، ولكن على الطريقة السادية هذه المرة،… كلُّ هذا من أجل ألا ننصعقَ بصدمة الحضارة، حينما يعيدُنا هؤلاء الإسلاميون المتطرفون إلى “العصر الإسلامي الذهبي”!!!

    وبعدها،
    سنعيش في تبات ونبات،…
    وسنخلِّف صبيان وبنات،…
    وتسترجي أمريكا، أو حتى روسيا،
    أن تنالَ منَّا مثقالَ ذرَّةٍ،
    حتى لو تظافرت معها كلُّ الكائنات،…

  4. يقول ألمانيا:

    الأستاذ فيصل القاسم. لقد صدقت في هذا المقال بكل كلمة كتبتها. لأن النتائج في كل البلدان العربية التي ثارة على الطغيان واضحة وجلية. العالم الغربي ساهم أيضاً على إفشال الثورات العربية، لأنها ليست في مصلحته أن تنجح. لأن هذا يعني أيضاً الإستقلالية السياسية، العلمية والاقتصادية……….

  5. يقول تيمور:

    رالاسد اسهل من داعش

  6. يقول سامح:

    منذ بداية الاحداث ظهر جبهة النصرة الارهابية وتبنت التفجيرات في دمشق وغيرها هل تعتقد اننا لم تنابع الاحداث ويمكنكم الرجوع الى تقرير الجنرال الدابي

  7. يقول أنيس زعبي لوس انجيليس الولايات المتحده:

    نعم المقال لكنه صرخه في وادي عميق ما له من قرار… ليت قومي يفقهون يا دكتور

  8. يقول راشد .ألمانيا:

    لقد أصبت كبد الحقيقة يادكتور كما يقال
    النظام السوري هو من سهل ودعم ظهور التطرف الديني وعلى رأسه داعش التي هي الوجه الأخر للنظام كي تبدو المقارنة بينهما كمن يقارن ذئبا بأرنب أين هي معارك داعش مع النظام ؟؟؟!!
    داعش حليفة صنيعة نظام الاسد لاتقاتل إلا من يقاتل الاسد
    اللهم إلا من معارك مصطنعة مع قوات الاسد لذلك فالتطرف الديني هو صنيعة هذا النظام حتى يجعل الغرب خائفا من البديل وقد نجح في ذلك علما أن الغرب يعلم علم اليقين أن التطرف الديني في سوريا قد تسلل من
    الغرف السوداء للمخابرات السورية والايرانية وهو ماجعل الغرب ينكفئ
    عن دعم الثورة السورية حتى الان لأنه بالمقارنة لديه فإن نظام الاسد يعد الأفضل كما وأنه يؤدي خدمات له وموثوق به أكثر من غيره بمعنى أنه مجرب والمثل يقول “الذي تعرفه أفضل من الذي لاتعرفه ”
    ونظام الاسد استغل هذا المثل الشعبي وطبقه مع الغرب

  9. يقول نمر ياسين حريري ــ فرنسا:

    مقارنة :
    النظام العلماني يسمح بممارسة الاديان والعبادات . فهل يسمح النظام الديني على اقلّه بحرية الفرد .
    نظام يساعد على العيش بكرامة وحرية للاديان والافراد , وآخر يقضي على الحريات ويضطهد الانسان ويسلبه حريته .
    نظام يخضع الحاكم والمسوؤل للمحاكمة والمحاسبة عبر الاقتراع .وآخر ينزل الله على الارض يطلق له لحية ويلبسه جبة وعمامة ويخرج له نماذج في كلّ حيّ وحارة .ولا نملك معه الا الطاعة والخضوع .واحد يحترم الانسان وآخر يسعى لتحويلنا الى قطعان .

  10. يقول نمر ياسين حريري ــ فرنسا:

    ليعلم المشرقيون انه ممنوع عليهم غربيا ان ينعموا بالديمقراطية لانه بالديمقراطية تتقدم وتزدهر المجتمعات وبالتالي تصبح قوية بعد تفجير طاقاتها .وهذا مخيف للغرب لانّه بالنسبة له الحروب الصليبية لم تنتهي بعد .

    1. يقول فحل العرب:

      و من قال لك أصلا أننا نحتاج إلى الديموقراطية !؟؟!؟! :)

      و من قال لك أن الديموقراطية هي الحل الأمثل للبشر !؟!؟؟! :)

      الديمقراطية هي ما بين الإلحاد و الكفر البواح :) :)

      فهل هذه تصلح للمسلمين الذين يقولون:

      لا إله إلا الله محمد رسول الله .

      كلامك صحيح فيما يخص الحروب الصليبية :)

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية