تسعى الكاتبة والأكاديمية بلقيس الكركي في كتابها الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بعنوان « إرادة الكتابة للإجابة عن سؤال الكتابة، وما يُناط بها من إرادة. ولعل العنوان يستدعي نصاً آخر للفيلسوف الألماني نيتشه بعنوان « إرادة القوة»، بيد أن الملاحظ لا يقتصر على تماثل في العناوين بمقدار ما يتمثل بنهج فلسفي على اختلاف المتن، كما أن الرؤى والتوجهات العميقة تبدو شديدة الحماس لأنساق عنيفة من حيث الاكتناه المعمّق لموضوع الكتابة، وعلى هامشه الإنسان. وكما يبدو فإن قراءة الكتابة ربما تنقلنا إلى مجال غير محدود من الفهم والتأويل تجاه النوايا والمقاصد التي تستهدفها الكاتبة، وهي بهذا تستجلب لعنة نيتشه، وكتابه الذي خضع لأفعال من التأويل أفرزت نتائج كارثية من قبل تيارات فكرية أحدثت تحولا على خارطة الوعي البشري اتكاء على فهم مركزية القوة؛ وقيمها، وما يتصل بذلك من نبذ الضعف، وقيم العدمية.
من خلال توجه ذاتي، وربما لا يخلو من الأثر الانطباعي، فإن قراءة الكتاب بدت عملية جدلية، كوني قد أدركت المتعة، وفي أحيان كثيرة أدركني الإرهاق، حتى كدت أفقد الحماس لاستكمال القراءة، ولاسيما في بعض الأجزاء، ولكن ما أن أقرر التوقف حتى أقع على جزئية ما في الكتاب تدعوني إلى التخلي عن ذلك، بل وتنقل لي «طاقة داخلية» تكمن في الكتاب من أجل استكمال القراءة والبحث سعياً وراء تكوينات معرفية لاكتناه توجهات هذه الكاتبة في ما يتعلق بإرادة الكتابة، أو الكتابة بوصفها فعلاً عميقاً من البحث في دواخل الإنسان، وتموضعه في هذا الكون، وهنا تنطلق جملة من الأسئلة التي لم تطرأ على الذهن من قبل، أو ربما لم ينظر لها من قبل عبر وجهات نظر مختلفة، إذ تبدو شديدة الحساسية والخصوصية، ولا سيما حين نتساءل عن حقيقتنا، أو عن حقيقة وجودنا ونحن نمارس الكتابة، أو نمارس حياتنا في الكتابة ؟!
يتكون الكتاب من ثلاثة أقانيم: أولا: الهاجس الأكبر: الصورة، ثانياً: في جحيم الثنائيات، وثالثاً: حتمية الاختراع. في الجزء الأول، يتشكل البحث في الكتابة ضمن مجال الآخر، أي في حضورك وأنت تمارس بغاء الكتابة، وعيونك تتابع من يعيد تشكيلك في حدود وعيه، ثمة نهج رقابي، ويبدو أن الحدود أكثر مما نعتقد حينما نسعى إلى الكتابة، وهنا تبدو بعض الحقائق أقرب إلى مواجهة نحاول أن نتجنبها، ولاسيما ونحن نمارس الظنون بأن إرادتنا الحرة في الكتابة هي محض خيار فردي، ولكننا في الحقيقة لسنا سوى محاولات للإبقاء على تكويننا ضمن الصورة الكلية، أو في مجال الآخر، ولكن قبل ذلك الذات. إن قراءتي للكتاب، لا تتصل بمحاولة تقديم سرد موجز للكتاب، أو حكم عليه، إنما هو نابع من الأثر الذي أحدثه الفعل القرائي للكتاب، أي ذلك الفهم، وربما حساسية الإدراك لمعاني من حدود الكتابة، قدمتها بلقيس الكركي بوعي، ولغة خطرة جدا، إذ تبدو في بعض الأحيان أشبه بعمليات تعذيب كونها تقترب من محاولة نيل اعترافات من الذات، وتعريتها، فهاجسنا يطغى على موضوعيتنا حيث نبحث عن صورتنا في حضور المتعاليات، تلك المناطق البينية التي نستشعر لذتها بين مفاصل الزمن، كما تحيل الكاتبة إلى نماذج سردية من قدرة الراوي على اختزال بواطن أفعال شخصيات من اجترحهم من خياله، وهي بهذا تحاكي صورة الحياة حين تفقد القدرة على الاختيار، وتمضي معذبة بوجودها، ليست مكتملة بل هي أشبه بقصة فلكلورية غير منجزة، كما تقول الكاتبة. إننا لا نكاد نتخلص من وهم صورتنا في مجال الآخر حتى نقع أسيري مجالنا الذاتي، وهنا تبدأ الفوضى بالانتشار، مع تسرب الإحساس العدمي، لتبدأ الكتابة بوصفها مجالاً لإعادة النظام إلى عالمنا الفوضوي، وربما العبثي.
يبدو نيتشه، حاضر الأثر، واللغة، والمنهج، كما تبدو بلقيس أقرب إلى وعي يتبع مجال الحفر في مجال معرفي تتخفف فيه من النسق الأكاديمي إلى مجال ربما يندر في الكتابات المعاصرة، حيث ثمة قدر كبير من العمق بحثاً عن نتائج شعورية يمكن لها أن تحدث مجالاً في النهج الذهني للذات القارئة، إنها أبعد ما تكون عن فرضية، ومنهجية، كما نتائج تبدو أكثر وهماً من أي شيء آخر، الوهم الذي تتقن المؤسسة الأكاديمية إنتاجه يوما بعد يوم، وهذا يتوافق مع رأي لنيشته الذي وصف العالم الأكاديمي بأنه خلوٌّ من المرح والمتعة والخفة. إن إرادة الكتابة تتصل بطريقة أو بأخرى بمحاولة تحطيم صورة الذين لا تعجبهم صورهم، أو تمثيلاتهم، وهنا أستطيع الجزم بحيوية الحقيقة، بأن ممارستنا على مدار سنوات حياتنا هي محاولة لإعادة إنتاج ذاتنا، أو وهمنا، ولعله مخيالنا في عيون الآخرين، وهنا نستطيع أن نتلمس مقدار ضآلتنا في هذا الكون، وعدمية وجودنا، وهنا تنطلق ثنائية الوجود والماهية، وأيهما أسبق، فثمة شخصيات تبدو أقرب إلى الحبر كما شخوص أي عمل سردي، إننا نعيد إنتاج وجودنا على صفحات التواصل الرقمي، كما نعمل على إحداث تكويننا في مجال الآخرين، نعيد ترتيب ذواتنا، ما نريد أن يظهر منها، وما نريد أن نخفي، إنه عالم مرتب، في مجال فوضوي، يسوده الخطر كما تقول الكاتبة، فالكتابة أقرب إلى المشي بين خيطين رفيعين في الهواء، نظامي العالم والتأليف، وهنا تكمن حقيقة الكتابة كونها تستند إلى هذا الحذر بين إدراك قواعد العالم، أو الاستجابة لإغواء الكتابة، وهنا نستعيد ثنائية المجال العام والخاص، وتذبذبنا وجبننا بين هذين المكونين لعوالم الكتابة، وما بعدها؛ ولهذا نلجأ كما تقول الكاتبة إلى التكنية عن الحقيقة، لا طرحها كما هي حتى نتجنب قدراً من الخطر الناتج عن سلطة ما، ومع ذلك، فإن الكتابة تتفوق على مجال الصدق المحض، لأنها تستند إلى عملية التمثيل حسب التعبير الفوكوي، ولكن يجب أن تدرك حقيقة ذات أولاً، لا وهماً تصوغه حول ذاتك الكاتبة، وهنا تطفو حقيقة علاقتك بما تكتب وما يقرأ القارئ، وما بينهما من ثبوتية، أو ادعاء، فربما ما تضمنه فيما تكتب لا يعني حقيقتك .
في الجزء الثاني من الكتاب، وضمن مسودات تعبيرية، تلجأ بلقيس إلى اكتناه ثنائيات الحياة والكتابة وما بينهما من فراغات تختزن شيئا من التردد لأيهما تنحاز، وبين هذيان الكتابة، تبحث عن ترتيب عالم الكتابة بوعي، أو أن تطلق ذاتك في عالم الارتجال، وهنا تكتنه الكاتبة آلية التأليف والاستعداد لترتيب مسننات الكتابة كي تعمل بانتظام وألا تتعطل، وربما ثمة أسلوب آخر، هو أن تلجأ إلى تحرير الذات لتمارس شغبها، وهكذا يبدو الكتاب، ومن خلفه ذات الكاتبة في الاستناد إلى منهجية خطابية تشبه إلى حد ما كتابات فوكو حين ينقل ما يدور في ذهنه عبر الإسناد لمجالات من المعرفة والمحاكاة موظفاً نماذج لغوية تتطلب قدرا من التأمل والتركيز لفهم التعالق القائم بين المقصد الدلالي والإحالات الإدراكية للقيم المعرفية التي يبسطها المؤلف، وكما يبدو من مقاربة بلقيس لخيانة المؤلف، ولحنين دائما يسكنه إلى مجال المتخيل… الكتابة… الصورة، لا الحقيقة كما في قصة بلقيس، وهي لا تزال في أورشليم حيث تدرك بأن شولميث حقيقة، فنحن لطالما نخاف من حقيقتنا. وفي بعض الأحيان نخاف من أن نخسر لا جهة الصورة فقط، إنما أيضا جهة الحياة.
لا شك بأن الإحالات والمرجعيات التي تطفو على صفحات الكتاب تبدو أشبه بحيوات تتعرض للانتهاك التأويلي من ذات المؤلفة، مع قدر غير قليل من القراءة الموجهة من منظور كاتب كلي، وربما قمعي يمارس إسناد المجال التأويلي، ولكن هذا النهج يبدو نسقاً من الإثراء لا المعرفي فحسب، ولكن ثمة متعة ما في أغلب الأحيان …. غير بريئة، وهي تقرأ مغايرة السائد في (الفهم – التاريخ- الموروث- المتخيل- الفلسفة – النص) أي ما تلقيناه من ذوات آخرين، بينما تسعى بلقيس الكركي في إرادة الكتابة لأن تفتعل قدرا من الخراب الشهي لقلاع نصية فائقة الحضور والتأثير.
حياة الكتابة تقتضي أن تعيش لا كباقي البشر، ولكنها تلك الحقيقة التي تستحق أن تعاش، كونها تنتمي إلى المدى غير الطبيعي، إنها مقاومة الاعتدال التي تلائم الكتابة كما تبحث المؤلفة في مجال التأثر بنيتشه ودولوز، وهذا يتفق مع الدعوة إلى مفهوم «الكلبية» كما يناقشها فوكو في «شجاعة الحقيقة»، هي دعوة للإخلاص إلى الكتابة كما يخلص الكلب لسيده، هنا تكمن قيمة فارقة في توصيف أفعال الكتابة بوصفها مجالاً متسامياً على الطبيعي، إنها أنساق من التطرف كي تستجيب لاشتراطات الكتابة بالحدود القصوى من التعريف لا بحثاً عن التناغم الزائف فحسب، إنما بغية خرقه، وتبديده، ونعني بين الكتابة والحياة، وذلك يأتي تحقيقاً لحياة الفنان كما سادت شرعيتها في عصر النهضة. إنها دعوة إلى التطرف الكلي من أجل الكتابة، بأن تتعالى على الطبيعي، والسائد، أن تهب ذاتك لعالم لا يعترف بالقواعد، أو المنتظم، بل إلى معانقة مخالفة التناغم، إلى نمط من النشاز الفاعل لصالح الكتابة استجابة لمقولة الفارابي حين يصف بأن من يرون السعادة في شيء آخر غير الفكر بمرضى النفوس… ثمة حاجة إلى قدر من الجنون لأجل تحقيق تمثال الكتابة، والتي لا يمكن أن تتحقق إلا باختلال عقلي، يعمل كمحفز للكتابة كما يرى نيتشه.
ثمة قدر غير يسير من قدرات الكتاب… أو المؤلفة على استنفار الخطاطات الذهنية التي تتكئ على إحداثيات تاريخية ونفسية حيث تمتزج الوقائع المعرفية بالإحالات، والخطابات، والشخصيات المتخيلة، مع شيء من الآراء الفلسفية، علاوة على قائع من سير ذاتية، كلها تنصهر في روافد بناء دلالات تتأسس على اكتناه كيفية تخلّق إرادة الكتابة مما يبعث على الإعجاب بقدرة هذا الكتاب على تغذية الحواس الذهنية تبعاً لتمكنه من تشبيك هذا القدر الهائل من السعة المعرفية، وقيادتها نحو إشكالية الكتابة من منظور جديد، أو شديد التطرف، فالكتابة يجب ألا تخضع لاعتبارات الحب والزواج والجسد، بل إلى التحرر الكلي من أي علاقة تستهلك الوجود الكتابي.
في محور فرعي يتصل بالجزء الثاني، يُستدعى الخيال، أو فائض الوهم اللذيذ بحيث تتحول الكتابة إلى أكثر من نسخة عن الواقع، بل إن الحياة تحاكي الفن، لا العكس، وهنا تستعيد بلقيس أثر الكتابة بحدود الخارج وتعالقه بالداخل.. أيهما الأصل والأكثر أهمية، حياة الحلم أم الكتابة لتجاوز الموت، وهي كلها تحفل بثنائية الكتابة والحياة، وما يكمن في الكتابة من حدود الفني، أو الفائق التأثير لتجاوز الواقع نحو نبض، ودفءٍ، ينتقل بنا من الواقع إلى مجال المتخيل، بيد أن الواقع يصبح أجمل حينما يوشح بمسحة من الخيال، ولكن إلى أي مدى يمكن أن يصدق هذا في كتاب، لا يحتمل أقداراً نهائية من المعنى؟ إنه كتاب بلا عقيدة، أو يقين، فهنالك في الأفق دوماً ما يجهز على اكتمال الطرح سعياً إلى مدى لا متيقن، وبوجه خاص، ونحن نحاور ثنائية الخيال والواقع: « إذا كــــان جزءاً من متعة الأدب هو في انحرافه عن السائد المألوف، فإن محاولة هذا الانحراف على أرض الواقع بقصد المتعة هو ربما إذعان لنفس المفاهيم التي تحددها سلطة السائد… لكن إذا كانت أقصى متعة ممكنة للإنسان شرطها الانحراف على طريقة دوساد، فإذن لا بأس من أن نستغل السائد بأن نعطيه سلطة ربما أكبر مما يمتلك كي نختبر لذة الانحراف». لا شيء يمكن أن يختزل هذا الأمر أشد من رأي لفلوبير الذي يرى « بأن الواقع ضيق، والخيال واسع».
في الجزء الأخير «حتمية الاختراع» انتقال إلى قدر ملتصق بمحاولة تقدير دلالة نهائية لهذا الارتحال المستمر والممتع بين تساؤلات جسد الكتابة، وروحها، وهنا يكمن فعل الاختيار للكتابة، ومدى الحرية اللازمة والوعي لتقدير ذلك، أم أنه محض جبر أسند إلى الذات الكاتبة، وهي ميسرة له كيفما شاء، كما هو وعينا الذي نعتقد بوجوده، والذي ربما يكون محض اختراع كوننا أسياد المفاهيم، وبأن جزءاً من كتابتنا هي وهم البحث عن الحقيقة والمعنى الذي ربما لا وجود لهما، ولكن في الطريق إليها ثمة متعة فائضة حسب توصيف فوكو، لعلها تتأتى من معانقة الدهاليز والتوق إلى شيء ما نتيجة (الرغبة) التي تعالج في هذا الكتاب عبر منحى جدلي تقترب من أهمية النزوع الحسي نحو المتخيل تبعاً لآراء ابن رشد حيث تقول المؤلفة بأن إرادة الكتابة « تأتي من صورة متخيلة متشوّقة، وهي هنا صورة الكاتب. رغم وجود حركات مضادة سببها اختلاف بين النزوع «.
في سفر التكوين الجزء الأخير، والذي يبدو ذاتياً، ثمة تطلعات لاكتناه الداء الكتابي ومصادره، سواء أكان جينالوجياً أم أركيولوجياً، وبينهما يجري تفنيد المقولات التي اصطنعت الذات الكاتبة، مع تقدير عال لمجال الأنثى التي سرعان ما تخلع عنها ضروريتها، كما دوافع تقويض السلطة والسلبية، أو ربما لنفي الفوضى نحو شيء من النظام، أو للبحث عما سيكون، أو لكونه لا شيء له وجود سوى الصورة حيث ينتهي الكتاب إلى هذه النتيجة بعد نص تأملي تحليلي يحفل بمتعة مرهقة، وأسئلة على ما يبدو ستبقى معلقة بحدود الكتابة التي إذا ما اكتملت فقدت قيمتها.
٭ كاتب فلسطيني ـ أردني
رامي أبو شهاب
لاشكّ الدكتورة بلقيس الكركي ناقدة أدبية…رسالتها للماجستيركانت مقارنة بين صورالقرآن وصورمحمود درويش الشعرية ثمّ كانت اطروحتها للدكتوراه بشأن المقارنة بين النظريات النقدية العربية ( الكلاسيكية ) والغربية الأوربية…فهي ملمة بشؤون الأدب النقدي برؤية شرقية / غربية
لذلك صاغت إرادة الكتابة ؛ وننتظرالحصول على نسخة منه ؛ للاطلاع على تفاصيله ؛ فيبدومن العرض أنّ له شخصية مغايرة لما هوسائد من
طروحات كثيرة في دنيا الأدب العربيّ المعاصر.لكن في العرض وقفت عند عبارة : ( في الجزء الثاني من الكتاب، وضمن مسودات تعبيرية، تلجأ بلقيس إلى اكتناه ثنائيات الحياة والكتابة وما بينهما من فراغات تختزن شيئا من التردد لأيهما تنحاز، وبين هذيان الكتابة، تبحث عن ترتيب عالم الكتابة بوعي..).وأظنّ أنّ إرادة الكتابة لا تلتقي كرؤية مع ( هذيان الكتابة ) بل الإرادة مآلها إلى قرارفعل قد ارتبط سلفاً بالنتيجة كوعي.
والهذيان قرين اللاوعي.لذلك أربأ بالنصّ عن فكرة الهذيان ؛ بادي ذي بدء..مع مودتي.