إرادة «الموت المجيد» لدى الساموراي الأخير يوكيو ميشيما

إرادة الموت التي امتلكها الكاتب الياباني يوكيو ميشيما لا يمكن وصفها كمجرد حالة لمواجهة تحولات المجتمع الياباني، وهو يدير ظهره لليابان العتيقة ويتجه نحو التحديث على الطريقة الغربية، ولكنها قوة لا يمتلكها إلا محارب من حفدة الساموراي. يوكيو ميشيما المخلص لنداء الموت على طريقة المبدعين الأصلاء تشبع منذ ولادته بأفكار اليابان المجروحة، التي تعرَّضت لقصف نووي مارسه الأمريكيون ضد السكان المدنيين في هيروشيما وناغازاكي عام 1945.
ولد هيراوكا كيميتاكي (1925 -1970) بمنطقة يوتسويا بطوكيو، وكان أبوه كانازو ساهيروكا موظفا حكوميا، نشأ بعيدا عن أسرته، حيث قضى طفولته بجانب جدته ناستوا. لكنه عاد لأسرته في سن 12 سنة حيث بدأت تظهر مواهبه الأدبية، تأثرا بكتابات الغربيين أمثال أوسكار وايد، ورينير ماريا ريلكا. غير أن والده العسكري في طبعه منعه من كتابة القصص، لكن ميشيما استمر في الكتابة سراَ واضطر للاستقالة من عمله في وزارة المالية ليتفرغ للكتابة الأدبية، ليمثل الثقافة الغربية من خلال مفهوم الجسد الذي يعد موضوعا جديدا في الثقافة اليابانية، وكان في حياته شبيها بأندريه جيد. وربما هذا السبب هو ما دفعه لكتابة «اعترافات قناع». ولميشيما ولع كبير بالسينما فقد شارك في فيلم «الخائف من الموت» للمخرج الياباني ياسوزو ماسميورا. فضلا عن أدائه لأغنية فيلم «يوكاكيو». كما أنه أنجز فيلما خاصا به مثل فيه دور البطل الساموراي الذي يقتل نفسه. غير أن زوجته لم تعمل على إخراج الفيلم إلى حيز الوجود بعد رحيله. وموته ليس تراجيديا كما قد يتبادر إلى الذهن، بل كان موتا جماليا لأنه كان يتوخى الوصول إلى قمة الكمال تماما مثل زهرة لوليس، وردة الساموراي التي حال تفتحها تموت.
ميشيما مزود بإرادة الساموراي تغلب على ضعفه الجسدي على نحو ما يسرد في «اعترافات قناع» وزاول تمارين قاسية أهلته لامتلاك جسد المحارب، تزامنا مع دعوته للعودة إلى جذور اليابان وشخصيتها الأمبراطورية المستقلة. وكان قد رشح لجائزة نوبل ثلاث مرات، على غرار عراب الأدب اليابابني ياسوناري كواباتا المتوج بنوبل، وصاحب روايات ساهمت في التعريف بخصوصية الأدب الياباني، ومنها رواية أستاذ «غو» ترجمة صبحي حديدي، الصادرة عن دار الفارابي ببيروت في طبعتها الأولى سنة 2007، وقد وصفها ياسوناري كاواباتا برواية الوقائع الأمينة، حيث يصف فيها مباراة «غو» جرت سنة 1938 وحضرها بنفسه وغطاها لصحيفة «ماينيش». وحمل في روايته اسم أوغامي الصحافي. وهي رواية تصف أسلوب أوتاكيه في الجلوس والنهوض، أي أنها رواية تكشف عوالم المجتمع الياباني في كثير من تفاصيله اليومية. ياسوناري كاواباتا وصف ميشيما بالرجل الذي قلما تلد النساء مثله قائلا، في حوار مع صحيفة» نيويورك تايمز»، «لا يظهر كاتب له وزن ميشيما إلا مرة كل قرنين أو ثلاثة قرون، وفي تاريخنا، و»بحر الخصب» هي رائعة ميشيما» ص 26 من «ثلج الربيع».
أصدر ميشيما سنة 1944 أول عمل روائي «الغابة في ريعان ازدهارها». و‏يعده اليابانيون مثل أرنست همنغواي، فهو أهم كاتب روائي ياباني، حاول أن يبين خطر التوجه نحو الغرب، وما يرافق التوجه نحو حداثته من نسيان للتاريخ الياباني المجيد ونسيان الهوية، وهو ما تعبر عنه مختلف أعماله الروائية «المجلة الأدبية الفرنسية» العدد 169- 1981.
يوكيو ميشيما الذي يعد الأثر الأدبي الأبرز في القرن العشرين، على حد تعبير مارغريت يورسنار، ودونالد كين كان شاعرا يعرض قصائده على الشاعر رايكو كواجي. دافع بقوة عن الأخلاق اليابانية، وقاد ثورة التطهير بمعية رفاقة في جمعية درع (تيت أي كاي) حيث أسس جيشا خاصا من مئة شاب لإحياء بوشيدو، الساموراي تمجيدا لوطنية اليابان الأمبراطورية بأسلوب أكثر من رائع، وقد استطاع العبقري فرانسيس فورد كوبولا سنة 1985 أن ينتج فيلما مثيرا من إخراج باول ستشرادار يحمل عنوان» يوكيو ميشيما: حياة في أربعة فصول» عن آخر فرسان اليابان الحديثة الذي جسد أدبيات الشرق، سواء في ثلاثية «مورو كيتا» أو في ملحمته السردية الموسومة بـ»بحر الخصوبة» في مكوناتها الأربعة والصادرة عن دار الآداب اللبنانية «ثلج الربيع» 1990، «الجياد الهاربة»1991، «معبد الفجر»1993، و»سقوط الملاك» 1995، ترجمة كامل يوسف حسين عبر مشروع فردي طموح يتوخى الاقتراب من عوالم صاحب «اعترافات قناع»، رغم الصعوبة السيميولوجية لدلالة التسميات. وقد وضع المترجم مقدمة دقيقة ترصد تفاصيل الحياة الأدبية ليوكيو ميشيما، مستحضرا متخيله الشرقي وإرادته في كتابة عمل سردي مغاير بعد عشرات الأعمال التي قدمها في جل الأجناس الأدبية.
وبدون شك فإن المشروع الروائي لميشيما يؤرخ لتحولات اليابان التي تخلت عن نهجها الإمبراطوري العسكري لصالح المدينة الحديثة التي تتجه نحو الفراغ والعدم. «اختفى الحاجز بين الإنسان والشيء. وحظي المبنى الهائل ذو الطوابق العشرة المقام على الطراز الأمريكي والبشر الذين يسيرون عند أدناه بوضعية قوامها أنهم سيبقون بعد هوندا، ولكن هناك وضعية مماثلة في الأهمية هي أنهم سيسقطون» ص 304 «سقوط الملاك».
ومن أجل رصد هذه التحولات وتعميق الوعي الروائي بمرجعيات فنية وجمالية سافر ميشيما إلى الهند والصين، ولهذا السفر أثر واضح في مكونات الرباعية، وفي مشهدية الوصف، حيث الافتتان بالنجوم والأرض والبطولة التي تجسدها حياة البطل كيواكي الممجد للطقس المقدس «السيبوكو» والوفي لسيفه ولمصيره الدرامي، الذي سيخلصه من الحياة الصغيرة لينتقل إلى الحياة الأبدية. وسيعمل ميشيما في عمله الثاني «الجياد الهاربة» على تقديم صورة دقيقة لليابان في ثلاثينيات القرن الماضي بكل الاضطرابات والتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية. ومرة أخرى ستكون سيرة ميشيما العسكرية قريبة من سيرة بطل «الجياد الهاربة» إيساو كبطل غير عابئ بالحب الرومانسي للفاتنة «ماكيو» لأنه على شاكله صاحب «البحار الذي لفظه البحر» يحلم بالطقس الأسطوري لـ»السيبوكو». وفي السياق نفسه يحمل الجزء الثالث من ملحمته «معبد الفجر» وصفا دقيقا لمناطق شرقية ولمناخها الاستوائي مثل الصين وتايلند، وإبحارا في الثقافة الهندية عبر منظور البطل هوندا المفعم بحيوية الساموراي، الذي يتوق لصوت الينابيع الصافية، بعيدا عن جلبة المدن تماما كما كان يفعل ميشيما في حديثه عن ضوضاء طوكيو. هذا المنظور السردي الحامل لكتل سردية سوداء تتساوق مع كتل الغموض والسحر والجمال، جعل الجزء الأخير من هذه الرباعية الموسوم بـ»سقوط ملاك» يحمل رؤية أنطولوجية لشخصيات الرواية ولموته المؤجل. ذلك أن الرواية كتبت بعد أن اتخذ ميشيما قراره الصارم والنهائي بالموت المجيد، بعد أن ترك ستة وثلاثين مجلدا. وهذه المرجعية المؤطرة لبنية الكتابة السردية في هذه الرباعية وفي «سقوط ملاك» بشكل خاص هي التي جعلت تفاصيل السرد مفعمة بدرامية مؤثرة، خاصة في مشهد لقاء هوندا بساتوكو بطلة ثلج الربيع، وفي مشهد انتحاره في الفناء الداخلي للمعبد. وكان آخر ما رآه هوندا ساتوكو وهي ترتدي الزي الأبيض في قوام شاحب وقد انسدل عليه الكيمونو الأبيض والعباءة الأرجوانية القاتمة. ولأن الذاكرة مثل مرآة شبحية بتعبير يوكيو ميشيما فإن الموت هو ما يحقق القدرة على التخلص من الحضور الجزئي وشحذ الحواس لصالح الحضور في عدة جوانب من الكون. «ينبغي الآن أن نكون جميعا قد تعلمنا الدرس الصعب، القائل بأنه ليس هناك شخص مختار أو من الصفوة» ص 288 من «سقوط ملاك».
كان ميشيما مثل بطله الأثير هوندا لا يندفع في طريق تحقيق حلمه بالطبيب رغم ما كان يعانيه من آلام لأنه كان يفرق بين ألم الروح وألم الجسد. وكان يستحضر طقوس الموت البطولي حتى في حديثه عن طقوس الحب الأكثر قداسة لديه. وتكشف خطبته الأخيرة أمام صفوة من الضباط (ثلاثة آلاف ضابط ياباني) كرهه لمظاهر الاغتراب وتمجيده للجيش الإمبراطوري ولذكرى الأسلاف من حاملي سيوف الساموراي. «إن الأبدية لا تأتي إلى العالم لأنني أظن أنني على قيد الوجود» ص 302 من «سقوط الملاك».
حياة الساموراي تنعكس على نظام أسرته سلوكيا واجتماعيا، فإذا ولد للساموراي صبي تقام له طقوس خاصة تسمى «mamorigatana» وبعد بلوغه سن 13 عشر تقام له مراسيم جديدة يمنح خلالها السيف والدرع، ويمنح اسما جديدا، ويرتدي لباس الكيمونو وهو عبارة عن ثوب على شكل حرف T يصل طوله إلى الكاحل وله ياقة وأكمام عريضة. يلف الكيمونو حول الجسم بحيث يكون الطرف اليسار فوق الطرف اليمين، إلا في حالات الوفاة والدفن فيكون الطرف اليمين فوق الطرف اليسار، ويلف بحزام يطلق عليه اسم أوبي يربط من الخلف لإحكام تثبيته. يترافق ارتداء الكيمونو عادة مع ارتداء زوج من الأحذية التقليدية التي يطلق عليها اسم زوري أو غيتا، مع زوج من جوارب الإبهام التي تدعى تابي، ويطيل الساموراي الجديد شعره تيمنا بالأسلاف، وباعتباره رمزا للشرف. وإلى جوار إتقانه لفنون السيف والقتال يتقن فنون الرسم والشعر. والساموراي الأخير يوكيو ميشيما خرج صباح يوم الخامس والعشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر سنة 1970 واتجه صوب القاعدة العسكرية حاملا سيفه، ترك روايته الأخيرة «سقوط الملاك» على الطاولة ولم يعد إلى بيته أبدا.
وقد شكل انتحاره مثار اهتمام خاص من قبل المجتمع الأدبي الياباني والغربي على وجه التحديد، خاصة أنه اختار الموت على طريقة الساموراي، تمجيدا لموته، وللأجداد باتباع طريقة دقيقة في الموت يوضحها بشكل دقيق الشريط المصور الذي يرصد لحظات ميشيما الأخيرة، بما فيها خطبته التي تحت الضباط على العودة إلى روح اليابان الأصيلة، ليجلس بعد ذلك في هدوء مقدس ويشق بطنه بشكل أفقي من اليسار إلى اليمين ثم من أعلى إلى أسفل ضمن طقوس الانتحار المجيدة التي تعرف باسم السيبوكو أو الهارا كيري. بعد أن حاول جاهدا عودة اليابان إلى مجدها الأمبراطوري على شاكلة الساموراي أودانوبوناجا، الذي أسقط حكومة موروماتشي سنة 1573. والساموراي طوكوجاوا إياسو، الذي حكم اليابان سنة 1603. لذلك فقد اختار الموت وهو في ذروة نجاحه محليا وعالميا، وكانت جائزة نوبل للآداب قريبة منه بشكل كبير.
امتلك يوكيو ميشيما إرادة الغياب من أجل ديمومة الحضور. وكان آخر ما كتب ميشيما قبل أن يلج مقر القيادة الشرقية للجيش الياباني» حياة البشر قصيرة، لكني أود أن أحيا إلى الأبد».

كاتب مغربي ـ أغادير

عبد السلام دخان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية