المشهد هو؛ الخميس 16 يونيو، بداية يوم عمل عادي، شابة شقراء في بداية الاربعينيات من عمرها، رغم أنها تبدو أصغر من ذلك بعشر سنوات، تسير باستعجال في شارع قريب من مكتبة المدينة في بريستل، الضاحية القريبة من مدينة ليدز في يوركشاير في شمال انكلترا.
يظهر أمامها فجأة رجل في بداية الخمسينيات من عمره، بجسم رياضي مشدود يرتدي قبعة بيسبول بيضاء وسترة، يقف أمامها مباشرة يخرج من جيب سترته مسدسا قديما، يصوبه نحو المرأة ويطلق الرصاصة الأولى ثم يردفها برصاصة ثانية، تسقط الشابة التي تفاجأت بإطلاق النار، يقترب منها الرجل ويصرخ (بريطانيا أولا) ثم يطلق رصاصته الثالثة عن قرب على رأسها، بعض المارين يهربون من المشهد الغريب الذي لم يألفـــوه في مدينتــــهم الهادئة، رجل واحد يحاول أن يقــترب من الشخص ويمنعه من أن يجهــز على المرأة فما كان من المهاجم إلا أن استل خنجرا وجــــرحه، لينهال بعد ذلك على جثة المرأة الممدة بعدد من الطعنات وهو في حالة هياج عصبي واضح، يترك مسرح الجريمة ويسير باتجاه أقرب شارع إلى سوق المدينة، تعترضه دوريات الشرطة التي ملأت المكان وتلقي القبض عليه وبحوزته أداتا الجريمة المسدس والخنجر… هذا هو ما حصل وما تناقلته وكالات الأنباء حول مقتل النائبة البريطانية عن حزب العمال جويل (جو) كوكس والمهاجم توماس ماير.
خبر اغتيال النائبة العمالية كان مادة لعدد من القصص الصحافية والتأبينات وبعض التغريدات على تويتر، منها تغريدة رئيس الحكومة ديفيد كاميرون، وهو ينعى النائبة الشابة. أما زعيم حزب العمال جيريمي كوربن فقد صرح بأن البلاد ستصدم بهذه الجريمة المروعة، واصفا كوكس بأنها كانت «زميلة محبوبة جدا». والشرطة بدورها أوضحت في مؤتمر صحافي أنها لا تبحث عن أي شخص آخر له صلة بالهجوم، شقيق توماس ماير صرح لصحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية وقال إن توماس أصيب باضطرابات نفسية وخضع للعلاج.. وأضاف: أصيب في الماضي بمرض نفسي، لكنه حصل على المساعدة اللازمة. وأضاف، لا أستطيع أن أصدق، شقيقي ليس عنيفًا ولا مسيسًا، انتهت القصة ونكست الأعلام على مبنى البرلمان العريق إلى منتصف السارية حدادا، وتوقفت حملات التنافس بين الاحزاب على بقاء بريطانيا في الاتحاد الاوروبي او خروجها منه، لكنها بعد ثلاثة ايام عادت للعمل ودارت الحياة دورتها الطبيعية.
الآن، ماذا لو تخيلنا ان القاتل كان ذا ملامح شرق أوسطية، أو بلحية طويلة، أو كان يصرخ «لا الله إلا الله» أو أي شعارات توحي بانه مسلم، ماذا سيكون رد فعل العالم ؟ بالتأكيد وبدون عناء التكهن أو نظريات مؤامرة، كانت الدنيا انقلبت رأسا على عقب، وخرجت المظاهرات المنددة بالإرهاب الإسلامي الذي ضرب في عقر دار الديمقراطية الغربية، وخرج المتضامنون مع النائبة المغدورة وهم يرفعون شعارات (كلنا جو كوكس) ولتبرأ ائمة جوامع لندن من هذا الإرهاب، خصوصا ونحن في ظل الشهر الفضيل.. لقد تنفس الملايين الصعداء، وأظن أنهم قالوا الحمد لله لم يكن (متطرفا إسلاميا) هذه المرة.
إن حوادث الاغتيال السياسي، كانت قد نسيت في بريطانيا منذ ما يزيد على الربع قرن، منذ اغتيال النائب النائب إيان غو على يد مسلحي الجيش الجمهوري الإيرلندي السري، في تفجير سيارة مفخخة عام 1990، ولأن القاتل في اغتيال النائبة كوكس لم يكن (إسلاميا ) ابــــتدأت وســائل الإعلام بطرح الأسئلة والبحث في دوافع القاتل وخلفياته، فاتضح بناء على ما نقلته منظمة «ساذرن بوفرتي لو سنتر» إن توماس ماير لديه تاريخ طويل مع «التيار القومي الأبيض»، وأضافت، حسب وثائق حصلت عليها، كان ماير من الأنصار الأوفياء لـ»التحالف الوطني» الذي كان لعشرات السنين أكبر منظمة للنازيين الجدد في الولايات المتحدة.
«التحالف الوطني» منظمة عنصرية امريكية اسسها وليام لوثر بيرس، تسعى لتنفيذ أهدافها عبر الأعمال الإرهابية، وكان بيرس قد نشر رواية «يوميات تيرنر» تحت اسم مستعار هو أندرو ماكدونالد، وقد وصف فيها حرباً مستقبلية تجري فيها عمليات تطهير عرقي الغاية منها إنشاء أمة من البيض، عبر قتل الأقليات كاليهود والزنوج، وقد افصح تيموثي ماكفي، الذي قام بنسف مبنى الحكومة الفيدرالية بمدينة أوكلاهوما عام 1995 مخلفاً أكثر من 168 قتيلاً، اثناء التحقيق معه انه تأثر بتلك الرواية، وعمليته كانت جزءا من خطة العمل التي ينادي بها «التحالف الوطني «، ولم يتوقف تأثير بيرس على ماكفي وحده، بل إن جرائم كثيرة ارتكبت في الولايات المتحدة، كان منفذوها يعلنون انتماءهم إلى التنظيم المتطرف في عقود الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، وقد ولدت النسخة البريطانية من هذه المنظمة الارهابية حوالي عام 2011، وقد أصبح عدد المنضوين تحت راية هذه المنظمة اليمينية المتطرفة، بحسب صحيفة «التلغراف» البريطانية بحدود ستة آلاف عضو، يسعون إلى وقف تدفق المسلمين إلى بريطانيا، وإعادة الاعتبار للهوية البريطانية.
اذن، توماس ماير عضو في جماعة من النازيين الجدد، ممن يسعون إلى قتل المهاجرين والأقليات العرقية في بلدانهم، وقد قتل النائبة جو كوكس لمواقفها الانسانية والسياسية، فقد كانت تعمل في منظمة أوكسفام الخيرية مديرة للبرامج السياسية في المنظمة، وكانت ناشطة في مجال استيعاب المهاجرين وبشكل خاص السوريين، وهي نائبة يسارية في حزب العمال، وكانت ذاهبة صباح يوم مقتلها لتلتقي بعدد من ابناء دائرتها الانتخابية في يوركشاير، التي تعودت أن تسمع مشاكلهم أسبوعيا في مكتبة المدينة، وتحاول أن تساعدهم في إيجاد حلول لها، وتفاجـــــأت بقاتل نازي يطلق في وجهها عبارة (بريطانيا اولا) ويطلق عليها النار، ويمارس حقده على جثتها بالعديد من الطعنات بخنجر كان يحمله. فكيف تعاملت مئات الصحف وقنوات التلفزيون العربية مع كل هذه المعطيات؟
تعاملت الصحافة العربية المقروءة والمسموعة بمنتهى البرود مع الموضوع، ولم تتابع القصة سوى بعدد من المواضيع الصغيرة، بل الأسوأ من ذلك ومع كل ما توضح من معطيات أن البعض كتب ان القاتل ربما تأثر بمشاهد الذبح التي يمارسها إرهابيو «داعش» عندما طعن جثة كوكس المسجات على الرصيف! وكأن اعلامنا لا يستطيع أن يرى إرهابا أبعد مما يلصق بنا حقا وباطلا، وهذا ما يذكرنا بمواقف بعض دولنا من تفجيرات أوكلاهوما 1995.
فقد نشرت خدمة «وورلد نيت ديلي الإلكترونية للمعلومات» في يونيو 2002، بعد تنفيذ حكم الإعدام بتيموثي ماكفي المدان بتفجير اوكلاهوما تقريرا أوردت فيه قول محام في اوكلاهوما يعمل مع مؤسسة قانونية في واشنطن، إن المخابرات السعودية حذرت مكتب التحقيقات الفيدرالي من تآمر نظام صدام حسين وتخطيطه لمهاجمة مباني اتحادية في عام 1995 ومنها مبنى مورا في مدينة اوكلاهوما. وأوردت قول المحامي وهو مايك جونستون الذي يعمل مع مؤسسة (Judicial Watch) إن تحذير المخابرات السعودية جاء في التاسع عشر من أبريل من عام 1995 وهو يوم تفجير مدينة اوكلاهوما، وقد سعت المخابرات السعودية إلى التعاون مع المخابرات الامريكية لاثبات تورط العراق بدعم وتمويل منفذي العملية الارهابية لادانة نظام صدام عدو السعودية اللدود في تلك الفترة، لكن التحقيقات الامريكية رغم تتبعها التحذيرات والمعلومات السعودية لم تصل إلى اي ربط بين المنفذين والنظام العراقي، وأغلق الملف بإعدام منفذ الهجوم المنتمي لمنظمة عنصرية، ووفق هذا السياق ربما سنجد من يحاول ان يربط بين الاغتيال السياسي الاخير مع اي جهة قد تمت (لإرهابنا ) بصلة.
٭ كاتب عراقي
صادق الطائي