تعليقاً على «الصفة العائلية» للأعمال الإرهابية، كما في مثال تفجيرات مطار ومترو بروكسيل مؤخراً، يقول الفرنسي باتريك أموايل، المحلل النفسي وأستاذ تشخيص الأمراض النفسية: «الشيء الوحيد الثابت حقاً، الذي يشترك فيه عدد من هؤلاء الشبان [الانتحاريين] هو اختلال الحياة الأسرية. هنالك حالات طلاق دراماتيكية، وخيانات، وهجران، وإساءات جنسية، وآباء رحلوا، وآباء منحرفون اعتدوا على أطفالهم». هذا في حوار مع أسبوعية «لوبوان»، وأمّا في حوار مع وكالة الصحافة الفرنسية، فيقول أموايل (الخبير، أيضاً، في مؤسسة تعالج الشباب «المصابين براديكالية جهادية»!): «إنهم ينعزلون بسرعة داخل نوع من الحيرة السيكولوجية. هنالك شيء ما يشبه الجنون، وشيء يشبه اللاعقلانية، في هذه السيرورة. اقتحام للمجازفة فيه قليل من الرشد، حتى إذا لم يكونوا راشدين»!
بالطبع، ليس ثمة سياسة هنا، عند صاحبنا، ذات صلة بالأسباب الأعمق ـ الجديرة، أولاً، بالصفة الراديكالية ـ التي قادت هؤلاء إلى «داعش»، في سوريا أو العراق، ثمّ آبت بهم إلى بروكسيل، وقبلها باريس؛ لكي لا يعود المرء بالذاكرة إلى حقبة أسبق، لم يكن الخليفة البغدادي قد تسيدها بعد، حين أصاب الإرهاب قطارات مدريد وأنفاق لندن وباريس. وحتى الاجتماع السياسي، بمعنى روابط الحياة العائلية مع السياسة في الشارع والوجدان والثقافة والديانة، لا يُطرح إلا على نحو انتقاصي واختزالي. تأثيراته ليست هيّنة بالتأكيد، لكنها ليست العوامل الكبرى الحاسمة في تكوين الذهنية الجهادية، ثم الإرهابية الانتحارية. وكأنها الأسطوانة المشروخة ذاتها، يديرها «خبراء» أتقنوا زيادة نغم هنا وهناك، على الطنبور إياه.
خذوا، في مثال ثانٍ، ما يقوله بول ـ لوران أسون، المحلل النفسي والأستاذ في السوربون: «بالنسبة إلى هؤلاء، وهم أيتام رمزيون، فإنّ الدم طريقة لترك الأثر، ولإحداث ثقب في ذاكرة الآخرين، وارتكاب فعل ترهيبي لا يمكن نسيانه، 7 كانون الثاني (يناير)، أو 13 تشرين الثاني (نوفمبر) مثلاً، حيث سنتذكر حقدهم وليس اسم الأب». وليست رابطة أخوّة الدم، بين الشقيقين خالد وإبراهيم البكراوي في بروكسيل، وقبلهما الأخوين كواشي، والأخوين مراح… سوى انعزال إضافي في «الحصن المشترك»، وصناعة للعائلة بأدوات مختلفة. من جانبه، يؤكد البلجيكي ريك كولسايت، في حديث مع الـ»غارديان» البريطانية، أنّ هذه الروابط العائلية ركن أساسي في التجنيد الجهادي، وتجري في صيغة ثنائية: «القرابة والصداقة لهما وزن أكبر من الدين أو الحيّ الواحد». وإذْ يشدد الجميع على الماضي المنحرف لمعظم هؤلاء، جريمة ومخدرات وسرقة واغتصاب… فإنّ قلّة قليلة من «الخبراء» تسعى للبحث في السؤال الحارق: كيف، ولماذا، ينقلب هذا المنحرف إلى متدين متشدد، جهادي ثمّ انتحاري؟
يتوجب التذكير هنا، وكما في كلّ واقعة إرهابية تشهدها البلدان الغربية؛ أنه إذا صحّ، من جانب أوّل، أنّ يد الإرهاب عمياء في ما يخصّ الضحايا، لأنها عشوائية في إقامة الموازنة بين الغاية والوسيلة؛ فإنّ من الضروري، تالياً، التشديد على أنّ المنخرطين في مختلف مستويات الإرهاب ليسوا دائماً قتلة محترفين تخرّجوا من مدارس البلطجة والجريمة المنظمة. ليس بهم، أو غالبيتهم الساحقة، مسّ من جنون متأصل يجعلهم في حال من البغضاء المطلقة ضدّ الإنسانية جمعاء (كما توحي القراءات العنصرية، الضحلة السطحية عن سابق قصد أحياناً)؛ أو ضدّ «النموذج الحضاري الغربي»، كما أوحى ساسة غربيون حكموا شعوبهم، أمثال جورج بوش الابن وسيلفيو برلسكوني وتوني بلير. لم تكن هذه، أو ما يشبهها في قريب أو بعيد، حال الغالبية الساحقة من منفّذي تفجيرات باريس ومدريد ولندن وبروكسيل، وسواها؛ ولعلّ العكس هو الصحيح بالضبط، كما تشير المعلومات التي توفرت حول تفاصيل التربية العائلية والحياة اليومية والسلوك العام والأمزجة النفسية والنزوعات الفكرية والثقافية…
غير أنّ الإشكالية قد تكمن هاهنا تحديداً، أي في باطن وضعية الازدواج الإنكساري العميق التي عاشها انتحاريون ولدوا في باريس ولندن وبروكسيل، من أصول مغاربية غالباً، وعاشوا حياة شباب طبيعية، بمساوئها ومحاسنها، أسوة بأقرانهم أبناء البلد «الأصلاء»، قبل أن يتسع الشرخ العميق: بين اندماج كامل أو شبه مكتمل في الحياة والحضارة والأعراف وأنساق العيش الغربية إجمالاً؛ وانسلاخ إرادي عن هذه كلها، استجابة إلى اعتبارات عقائدية صرفة، لا يصحّ تغيب السياسة عن مفاعيلها. وبهذا المعنى تصبح تشخيصات «الخبير» النفسي بمثابة الوجه الثاني للعملة ذاتها التي تتصدر تصريحات الساسة وجهها الأول؛ خاصة حين يتضح، في حالات عديدة، أنّ هذا الانتحاري أو ذاك جاهد ضدّ استبداد مشرقي في سوريا مثلاً، أو احتلال أمريكي في العراق، قبل أن يعود إلى «المركز» الذي احتضن الاستبداد وساند الغزو؛ لكي يثأر ضمن هذه الخلفية أولاً، وليس احتجاجاً على هذا أو ذاك من أعراف الحضارة الغربية، أو لهذه أو تلك من القضايا التي تخصّ الإسلام في الغرب.
على سبيل المثال، في عام 1989 حين أحرق الإسلاميون المتشددون في برادفورد نسخاً من رواية سلمان رشدي «الآيات الشيطانية»، وتظاهر الملايين في مختلف عواصم آسيا المسلمة، كان أعمار منفّذي تفجيرات قطارات الأنفاق في لندن، صيف 2005، كما يلي: محمد خان 14 عاماً، وشاهزاد تنويري 6 سنوات، وحسيب صادق 3 سنوات! أي انتهاك أخطر للدين الإسلامي شهدته بريطانيا بعد قضية رشدي؟ لا شيء عملياً، باستثناء السياسات البريطانية المؤيدة للولايات المتحدة في فلسطين وأفغانستان والعراق والشيشان، وقبلها في البوسنة. القياس ذاته يمكن أن يُعتمد في أعمار غالبية الجهاديين الانتحاريين، الذين تفاوتت دوافعهم وحوافزهم، ولكنها نادراً ما التقت عند عنصر الدفاع عن الديانة، أو لأنّ التكوين العائلي كان شائهاً على نحو أو آخر.
وفي العودة إلى تاريخ أسبق، وموجة الإرهاب التي طالت فرنسا صيف 1995، وشملت تفجير محطة مترو سان ميشيل الرئيسية في قلب العاصمة باريس؛ كان أحد أبرز المنفّذين فرنسي شابّ من أصل جزائري، يدعى خالد قلقال (الذي كان، حين قُتل على يد الشرطة الفرنسية في 29/9/1995، لا يتجاوز 24 سنة). بعد نحو أسبوعين وقع الانفجار الإرهابي الثامن في قلب العاصمة أيضاً، فعاد ملفّ قلقال يرشق كوابيسه الأمنية والأخلاقية على مشهد الحياة اليومية الفرنسية، وعاد الفتى القتيل ليحتلّ من جديد صورة «خالد الغابة»، نسبة إلى روبن الغابة» في اللغة الفرنسية، أو روبن هود كما هو معروف عالمياً.
بعد ذلك سوف تنشر صحيفة «لوموند» المحضر شبه الحرفي لحوار أجراه السوسيولوجي الألماني ديتمار لوش مع قلقال، عام 1992 في سجنه؛ فتكشفت المعجزة الناقصة للسياسات الفرنسية الخاصة بدمج الأجانب في الحياة المدنية. هذا مخلوق ولد صحيحاً في مستغانم الجزائرية، وجاء إلى فرنسا في الثانية من عمره، وتفوّق في دراسته، قبل أن يكتشف العزلة القسرية التي لا يستطيع الفكاك منها، ويدرك أنه «لم يجد لنفسه مكاناً» في العديد من الميادين، بما في ذلك العدالة والقانون والتمييز العنصري والإجتماعي و»الجدار الهائل» الذي يفصل الضاحية الفقيرة عن المدينة الزاهرة الزاخرة. ثمّ كان أن اكتشف، أو اقتيد إلى اكتشاف، ذلك الطراز الإرهابي من التشدد.
وبانتظار محاضر أخرى تذهب، على نحو أكثر رصانة وأقلّ خفّة واستخفافاً، صوب الجذور الأعمق لتجنيد وتجنّد إرهابيي الغرب من أبناء المسلمين؛ يستطيب «الخبراء» مواصلة تشغيل الأسطوانة المشروخة ذاتها، المكرورة التنميطية، التي لا تذهب من عماء إلا إلى عماء أشدّ…
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
صبحي حديدي
الأخ صبحي،
كتبتُ، قبل يومين، تعقيبًا على رأي القدس «تفجيرات بروكسل: أسئلة لا يريد الإجابة عليها أحد؟» (ق ع، 22 آذار 2016) ما يلي:
ومع هذا العرس الدموي الذي لا ينتهي، ويا للأسف، لا يسعني في هذا التعقيب المقتضب سوى أن أعيد ما قاله نعوم تشومسكي ذات يوم مخاطبًا أولئك المسؤولين الاستعماريين في الغرب، ما معناه: إذا كان القلق والخوف يعتريانكم من هجمات من تصمونهم بـ«الإرهابيين المتطرفين» فعلاً، فإن هناك طريقةً بسيطة كلَّ البساطة للتخلص من هذا القلق ومن هذا الخوف، ألا وهي: «كفُّوا، قبل كل شيء، عن ممارسة إرهاب الشعوب المغلوبة على أمرها وعن حتى المشاركة غير المباشرة بهذا الإرهاب».
ولا يسعني هنا، كذلك، سوى أن أضيف إلى هذا القول ما يلي: المعادلة أكثرُ بساطةً بكثيرٍ من سابقتها، ولا تحتاج إلى أي مستوىً من الذكاءٍ جديرٍ بالذكرِ لإدراكها، حقيقةً. فإن كان هناك إرهاب دول بأي شكلٍ من الأشكال، لا بدَّ أن يكون هناك إرهابٌ مضادٌّ بأي شكلٍ من الأشكال، في المقابل. وكلما ازداد إرهاب الدول تشعُّبًا وتعقيدًا كلما ازداد الإرهاب المضادُّ تشعُّبًا وتعقيدًا لا محال، سواءً كان هذا الأخير على مستوى التنظيمات أو حتى على مستوى الأفراد.
ولا ننسى، أخيرًا، أن هذا التشعُّب وهذا التعقيد لا يصبُّان إلا في صالح أولئك «الأسياد» الذين يصنعون الإرهاب في الغرب، كأمريكا وروسيا وأحلافهما، وإلا في صالح أولئك «العملاء المأجورين» الذين يعيدون صناعة هذا الإرهاب في الشرق، كالنظام الأسدي المافْيَوي الطائفي المجرم وميليشياته وعصاباته كذلك.
___________
ملاحظة: بعد ان انتهيتُ من قراءة هذا المقال، أحسستُ أن شيئًا له أهميَّتهُ لم يُذكر في الفقرة السادسة الي تبدأ بعبارة «على سبيل المثال» بين الحادثتين المعنيَّتين، أي بين ذكر [في عام 1989 حين أحرق الإسلاميون المتشددون في برادفورد نسخاً من رواية سلمان رشدي «الآيات الشيطانية»،…] وبين ذكر [كانت أعمار منفّذي تفجيرات قطارات الأنفاق في لندن، صيف 2005،…]
الحرب الصهيونية على الاسلام هي حرب غربية بالوكالة، تستعمل فيها أياد من أصل عربية لها خلفيات سيكولوجية، سوسيااقتصادية، و سوسيوثقافية.
جنون ؟ أمراض نفسية ؟ كنت بدأت أعتقد أن ما يسمى ياﻹرهاب هو فعل شعوب مقهورة ضد تاريخ كولونيالي و بعد كولونيالي
العنصرية مرض خطير يدمر وجدان الإنسان .وتستفيد من ذلك داعش وأخواتها . معظم الإرهابيين معروفين لأجهزة الأمن أو من خريجي السجون . العنصرية والتطرف وجهان لعملة واحدة .
هناك أشياء لا نتقنها نحن العرب …مثل السياسة الناعمة أو سياسة التودد ….العرب (لا أريد أن أعمم) عادة يرهبوا من خصومهم ….ولا يريدون الاحتكاك معهم أو الحديث اليهم ….. علي عكس خصومنا يرغبون في القرب منا والتودد الينا وكسب ثقتنا ….وبعد أن يكسبوا ثقتنا يصبحوا يؤمرون ….وأذ أمروا تنفذ أوامرهم بدون نقاش أو حتي تسألات