وردتني ملاحظة حول تركيزي على الشأن المصري، وتراجع المعالجات العربية والاهتمامات الإقليمية؛ عما كان عليه الأمر قبل ثورة يناير 2011.. وقد يتصور البعض هذا نزوعا شوفينيا؛ أعتقد أنني آخر من يقع في براثنه.. ويسأل السائل لماذا تهتم بمصر ويقل اهتمامك بغيرها، وأنت محسوب على تيار عروبي، ومن أشد المدافعين عن حقوق العرب وقضاياهم؟. وأجد أن من يرى ذلك له عذره، وهو ينظر حوله فيرى مدا انعزاليا وطائفيا ومذهبيا وصهيونيا متمكنا، وهذا أسهم إلى حد كبير في إلغاء الذاكرة التاريخية وأضعف الروابط الوطنية والعربية، ووجد هذا المد الانعزالي ضالته في القبلية والطائفية عونا ومددا.. وقام بينهم حلف استطاع الإمساك بزمام الأمور خلال العقود الأربعة الماضية؛ في طول المنطقة العربية وعرضها؛ وكان لسياسة السادات دور الريادة، وتوالدت بطلبه ودعمه جماعات و»مليشيات» مدربة؛ تمكنت من الاستحواذ على عوالم «البيزنس» والصحافة والإعلام والفنون والمؤسسات الدينية والجامعات الحكومية والخاصة.. وصار لها «نجوم» فتحت لها خزائن الأرض بسخاء شديد!.
وتناول الشأن المصري ممن لديه اطلاع كاف على تفاصيله من داخله؛ فهذا أفضل كثيرا من انسياق البعض وراء حملات سابقة التجهيز، لا تترك نقيصة إلا وتلصقها بمصر والمصريين.. ولم تتمثل هذه الحملات لقول السيد المسيح عليه السلام: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر».. وعادة ما يتوب الخطاؤون كي يتخففوا من عبء الحساب التاريخي والضغط النفسي لهذه الحملات.. وإذا كان تناول الشأن المصري يصدر عن قدر مناسب من المعرفة المباشرة، فذلك غير النقل عن ترجمات الوكالات الصحافية أو بث «الكتائب الالكترونية» بانحيازها المعروف!.
وحين يتناول كاتب مصري شأنا وطنيا وداخليا بروح أقرب إلى الحياد والموضوعية، فهذه إضافة تؤخذ في الاعتبار في التعامل مع من يحقرون ويقللون من شأن المنطقة وأبنائها بمن فيهم المصريون، وقد أخرجهم البعض من الملة، واستخدموا ضدهم أسلحة عديدة ومتنوعة. وعن نفسي لم أتأخر يوما عن المشاركة في الفعاليات العربية وغير العربية منذ الصغر.. ومنذ مدة تناولت مستجدات الشأن السوري تحت عنوان: «الموقف في سوريا يحتاج المراجعة فإذا سقطت لن تكون وحدها!»، وفي العدد التالي كتبت عن المسجد الأقصى بعنوان: «عار الأقصى يتحمل مسؤوليته العرب العاربة والعرب المستعربة!».
وطالبت بالتخلي عن هوان الضعف ورهانات المذلة بالتفاوض من أجل التفاوض، وهو ما يسر عمليات «المصادرة» الممنهجة والمتواصلة لأرض فلسطين التاريخية، وقد اوشكت هذه المصادرة المستمرة بالوصول بالمخطط إلى منتهاه، فاقتربت ساعة تهويد فلسطين كاملة وبصورة نهائية. ومن سنوات كتبت أقول أن فلسطين أصبحت بمساحة الوطن العربي.. وقد طالت نكبتها كل العرب، وحكامهم هم أول من تخلوا عنها، ومزقوا مواثيقهم التي صاغوها من أجلها وأبطلوا إجراءات اتخذوها لم يلتزموا بها، وتحول حلم تحريرها إلى كابوس استيطاني رهيب..
ودائما ما أتطرق إلى الأحوال العربية والأوضاع الإقليمية؛ بين ثنايا الشأن المصري.. وكثيرا ما يتم التركيز على استمرار رفض «التطبيع» مع تل أبيب، وخطيئة السياسة الرسمية المصرية تمثلت في أنها فرطت في أوراقها، وحصرت دورها في خدمة «المشروع الصهيوني»، والآن فإن المسؤولين عن المشروع يتخذون من «الفوضى الخلاقة» نهجا؛ يزكون به الفتن، ويزيدون من التحريض المذهبي والطائفي، بكل آثاره المدمرة على جبهات العرب الداخلية والبينية، ويتمادون في الاعتماد على واشنطن والعواصم الغربية.. وتناول الشأن المصري يدخل في نطاق التناول الحميد؛ أقله أنه جزء من جهد عربي أكبر يسعى لاستعادة دور مصر العربي والإقليمي والدولي.. فالعرب في حاجة إلى مصر، ومصر في أمس الحاجة لأشقائها، وتتعاون معهم في البحث عن حلول لمشاكلها الاقتصادية والتنموية، وتتعاون في مواجهة معضلة الإرهاب والعنف المسلح. وإذا استمر الحال على ذلك المنوال من الاستنزاف، فقد تواجه الثروة النفطية خطر النضوب؛ وهذا قد يتيح للجماعات المسلحة فرصة استغلال ذلك الاحتمال وتغيير الوضع من الرخاء إلى الشدة بكل ما يحمل من مخاطر على الاستقرار والأمن!.
وأثق في حسن نية من أبدوا هذه الملاحظة.. وأنتهزها فرصة لأهمس في أذن نوع آخر من القراء، مطالبا إياهم بالتجرد بعيدا عن روح الثأر وعسكرة الخلافات والمنافسات والصراعات.. واعتماد النقد والحوار والتواصل.. على قاعدة فليقل الإنسان خيرا أو يصمت. وليجربوا التحلي بالحرص على استعادة الدور الإنساني في إعمار الأرض وليس خرابها.. ومن لا يفطن لذلك؛ سيحمل عاره معه؛ فهو لن يترك للأجيال القادمة غير الذكريات المرة وثارات الدم وويلات التقسيم والدمار..
وأتصور أن معدلات النقد وجلد الذات بين المصريين هي الأعلى بين العرب، ومع أنهم الأكثر صبرا وتحملا، فهذا لم يمنعهم من وضع سياسة بلدهم وتصرفات حكامها ومسؤوليها تحت مجهر النقد والملاحظة والملاحقة؛ مع الحرص على الدولة والحفاظ عليها.
والدولة بالنسبة للمصريين تحديدا «خط أحمر»، فهي الغطاء الوحيد الذي لا يملكون غيره، ومع طفرة الوعي الراهنة سقط الخلط العمد بين الدولة ونظام الحكم.. واعتاد المواطن مؤخرا على الأخذ بزمام أمره، ويتولى مراقبة أجهزة الدولة بنفسه؛ على أي مستوى، ويلفت نظر مسؤوليها إلى سلبياتها، بغض النظر عن أوزانهم، وأدى ذلك إلى قيام علاقات جديدة بين المواطن والمسؤول الحكومي، وهذا من مصادر القوة الصاعدة من أسفل إلى أعلى.. وتحول أصبح من أسباب أضعاف المكلفين بـ «الحملات»، الذين اكتشفوا أن وعود المن والسلوى ما هي إلا سراب أثار الخلافات وفجر الصراعات بينهم!!.
ومن يختلف وينتقد ويرفض فهذا حقه.. أما التحريض والتصيد والتربص الدائم يجلب على صاحبه المشاكل.. ونظرة إلى الخريطة العربية تؤكد على أن الأقطار الأخرى ليست أحسن حالا، وقد تكون مصر أفضل نسبيا بالحصانة التي وفرها «الحراك التحتي» النشط.. ويحسب له المسؤول ألف حساب.. ولا تجد مسؤولا يملك ترف الصدام معه.. ومنذ أن تحرر المصريون من الخوف بعد يناير 2011 انعدم بينهم الساكت على الظلم أو المتنازل عن الحق.. وهذا أدى إلى تحييد موجبات الضغط والردع الإداري والبوليسي، وأضحى المسؤول مرتبكا وقلقا من ذلك الذي يتصوره انفلاتا وتسيبا.. وهذا في طريقه للتحول إلى ثقافة تُعيد لمصر تأثيرها وألقها..وهذا متوقع إلى حد كبير،
والخلاصة أن الكتابة عن شأن داخلي ووطني في بلد عربي لا يعني إهمال أحوال البلاد الشقيقة الأخرى.. ودائما ما أضع فلسطين أمامي؛ كبوصلة ومثل وعبرة.. فعلى أرضها وقعت النكبة ومن المؤكد أن نفس الأرض ستشهد نهايتها؛ فور تحررها وعودتها إلى أصحابها الأصليين.
في النهاية فإن الهم المصري هو الأكبر بين الهموم العربية.. وفي انتظار عودة مصر عفية وقوية؛ وقتها يرى أناس الزمن القادم واقعا غير الواقع، وحالا غير الحال.. والغالبية العظمى من المصريين تؤمن بهذا، وتعمل على اكتشاف مواطن القوة فتستردها، وتبحث في نقاط الضعف فتتجنبها، وبذلك يبرأ الجسد العربي المثخن بالجراح.
والنكبة الحقيقية صنعها النظام العربي المغيب بعد أن قدم التنازل تلو الآخر، وساهم من نقل العرب من الانحطاط إلى الحضيض.. ورغم كل المحن لم يفطن ذلك الحاكم أن الرهان الخارجي معتمد ومستقر منذ عقود بل قرون، وليس فيه غير الإبادة الثقافية والتطهير العرقي؛ إنه رهان التوسع الإمبراطوري الصهيوني، ومن أجله تتفجر الفتن وتثار النعرات، وتتحول الخلافات لعداوات؛ اعتمادا على وفرة المال وعلى كم الأسلحة الفتاكة، ويتم إغراء الشباب المستعد لسفك الدماء والتمثيل بجثث الأبرياء؛ يغرونه بأن الولوغ في الدماء والتمثيل بالجثث مكرمة يثاب الشباب عليها وتقربهم زورا إلى الله(!!).
وهكذا أخذتنا الملاحظة التي نوهنا إليها بداية هذه السطور بعيدا عما أعددنا لهذا الاسبوع عن أوضاع الليبراليين المصريين؛ بما لهم وما عليهم.. فمعذرة وإلى مناسبة قادمة!.
٭ كاتب من مصر يقيم في لندن
محمد عبد الحكم دياب
تحية للكاتب المحترم
أين الحيادية من عشرات الآلاف المعتقلين والمعذبين في سجون السيسي ؟
أين الحيادية من فظائع القتل التي إرتكبها جنود السيسي ؟
إين الحيادية وأنت الليبرالي من إنبطاح رجالات الأزهر والكنيسة أمام السلطة ؟
أين الحيادية وقد عاد نظام مبارك بأسوأ مما كان ؟
يقول الكاتب ” أن الدولة المصرية بالنسبة للمصريين خط أحمر ” أقول هذا صحيح فى حالة أن تكون دولة عادلة ترعى حقوق الوطن والمواطن . أما إذا كانت دولة يحكمها عسكرى لا يعرف إلا لغة القتل والسحل والسجن ، واغتصاب البنات ، كما حدث فى إغتصاب البنت المصرية فى مدرعة من قبل ضابط حقير بالقوات المسلحة ، أو إغتصاب الفتاة ذات السبعة عشر عاماً فى قسم الشرطة بالجيزة ، ففى هذه الحالة مصر ليست أبداً خط أحمر ، بل يكون من حق المصريين الدفاع عن حياتهم ، وأعراضهم ،وأموالهم ، وقبل كل هذا الدفاع عن كرامتهم الإنسانية المسلوبة ، من قبل عسكر ليس لهم شىء من الإنسانية أو الكرامة أو الوطنية أو الضمير . وقال الحكماء والشرفاء ” يموت الجبان ألف مرة فى اليوم ويموت الحرمرة واحدة مرفوع الهامة وبيده أعلام النصر “