والمفارقة الغريبة هي أن نقاشاتنا العربية حول مفاهيم الدولة والدين والسياسة والمواطنة في بدايات القرن الحادي والعشرين تفتقد للوضوح المعرفي والجرأة الفكرية التي وسمتها في بدايات القرن العشرين (كتابات الشيخ علي عبد الرازق نموذجا).
فمعالجة ترابطات المفاهيم الأربعة تتعلق بالأساس بالتدبر في موقع الدين في الخريطة المجتمعية، طبيعة دور منظومات القيم والرؤى الدينية في السياقات الدستورية والقانونية وفي المجال السياسي، وكيفية تعامل القوى السياسية والاجتماعية مع الدين كما مع مبادئ المواطنة والتنظيم الحداثي للدولة.
ولا تقتصر أهمية التدبر في هذه الأمور على المجتمعات التقليدية أو دينية النزعة أو غير العلمانية، بل تمتد لتشمل المجتمعات الحداثية والعلمانية أيضا. فالدين كظاهرة اجتماعية وكمكون للثقافة ومصدر للأخلاق يتداخل ويتقاطع دوماً مع مسارات تطور الجماعة البشرية المعنية، حتى وإن استبعد في بعض إرهاصاته من الفضاء العام ككل أو من المجال السياسي فقط. وتحضر بالنقاش الدائر حالياً في بعض البلدان الأوروبية التي أنجزت في مراحل تاريخية سابقة فصلاً وظيفياً بين المؤسسات الدينية والسياسية حول وضعية الرموز الدينية في الفضاء الرسمي وما يرتبط بها من صراع بين منطق التحريم أو الاستبعاد الكامل (الحالة الفرنسية) أو محاولة البحث عن حلول وسط (الحالة الألمانية) مؤشرات جلية الوضوح على استمرارية انشغال الأوروبيين بالظاهرة الدينية. بل يمكن الحديث في عديد المجتمعات الأوروبية، وعلى الرغم من الطابع المدني للمجال السياسي بصورة عامة، عن وجود مساحة من التداخل بين الديني والسياسي تظهر بوضوح إما في تشكيلات حزبية ذات طابع مسيحي (الأحزاب المسيحية الديموقراطية الفعالة في معظم أرجاء القارة) أو في تعاظم الدور العام والوزن النسبي للمؤسسات الدينية وخطابها الأخلاقي والاجتماعي (كما في السياق الإيطالي والألماني وسياقات بلدان وسط وشرق وجنوب أوروبا).
وحين النظر إلى الواقع العربي الراهن، يتضح أن الفارق الرئيسي بين فرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها من المجتمعات الأوروبية وبين البلدان العربية (ومع الأخذ في الاعتبار تنوع الخبرات التاريخية في داخل الكتلتين، فالمجتمع الهولندي في الأولى والمجتمع اللبناني في الثانية لديهما تجربة على درجة عالية من الخصوصية من الصعوبة مقارنتها بالمجتمعات الأخرى) ينجم عن حدود توفر أو غياب آليات مؤسسية وتفاوضية مقبولة مجتمعيا تساعد في تطوير صياغات توافقية جديدة للعلاقة بين الدين والمجتمع والسياسة تستجيب لتحولات العصر، وتشرك في هذا الأمر الفاعلين السياسيين والاجتماعيين الرئيسين على نحو يأخذ في الاعتبار علاقات القوة بينها والأهمية المجتمعية لرؤاها الفكرية وخطاباتها المتجهة للجماعة البشرية. فبينما توفرت تلك الآليات المؤسسية والتفاوضية في الخبرة الأوروبية، غابت في الحالات العربية بالكامل أو تعثرت مساراتها واتسمت بالوهن الشديد.
فعلمنة المجتمعات الأوروبية تمت في إطار عمليات تحول شاملة طويلة الأمد، وعنت (أخذا في الاعتبار التراتبية التاريخية) تجريد المؤسسة الدينية من ممتلكاتها وتغير وضعيتها في الخريطة المجتمعية، ثم صياغة منظومة قيمية مستندة إلى حرية الاعتقاد ومبدأ المواطنة والحريات المدنية أضحت حاكمة لحركة الفضاء العام بمجالاته السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية. ولم يحدث كل ذلك (باستثناء ومضات زمنية قصيرة كالحقبة الأولى للثورة الفرنسية 1789) على أرضية رفض شامل أو تهميش للدين كظاهرة مجتمعية، بل على العكس ظل للمكون الديني مساحة حضور في خطاب مشروع الحداثة التنويري وفي الفكر الأوروبي الإنساني على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين. وتنافس الدين على اجتذاب قلوب وعقول الأفراد مع العديد من المذاهب والإيديولوجيات الوضعية التي كانت تتطور سريعا مسلحة بالعلم والتحولات التكنولوجية المتلاحقة.
ومن جانبها، تفاعلت المؤسسات الدينية مع التحولات المجتمعية وتغيرت هياكلها ورؤاها ووظائفها مستجيبة لمقتضيات عصر جديد. لم ترتب، إذا، مركزية حرية الاعتقاد ومفاهيم المواطنة والحريات المدنية في أوروبا القرنين التاسع عشر والعشرين استبعادا للدين من الفضاء العام، بل جردت قبل أي شيء آخر المؤسسات الدينية من إمكانية ادعاء احتكار الحقيقة المطلقة مجتمعيا ونزعت القداسة عن المنظومات الدينية وخصخصت الخطاب الديني ـ أي جعلته مصدرا من بين مصادر عديدة للقيم والرؤى الفردية والمجتمعية وألزمته بالتنافس مع المذاهب والإيديولوجيات الوضعية في الفضاء العام. بهذه المعاني، نكون أوروبيا أمام خبرة تاريخية لا يمكن تأويلها إلا في ظل التشديد على استمرارية الظاهرة الدينية ودينامية إرهاصاتها ووظائفها التي أبدا لم يلغ حضورها.
أما النقاشات العربية الراهنة، فهي تنقل بدلا من مفهوم «العلمنة» فكرة «العلمانية» وتتعامل معها رفضا أو قبولا على نحو إيديولوجي يتجاهل التساؤل حول القضايا المركزية وتختزل البحث في تشابكات الدين والمجتمع والسياسة وعلاقتها بمفاهيم المواطنة والتنظيم الحداثي للدولة في ثنائية الدين خارج المجتمع (القوى والأصوات العلمانية) والدين فوق المجتمع (القوى والأصوات الدينية)، فاتحة بذلك الباب على مصراعيه لجدل عقيم لا طائل منه إلا حجب حقائق التاريخ والمجتمع التي لا تعرف إلا الدين في المجتمع. بل أن مفاهيم مثل المواطنة والمرجعية الدستورية والحريات وحقوق الإنسان وغيرها من المفاهيم التي تقع في صلب التنظيم الحداثي للدولة، هذه المفاهيم تصنف في النقاشات العربية الراهنة كممكنة فقط حال إخراج الدين من المجتمع وهو الأمر المفتقر إلى الموضوعية الذي يجعل من التفكير في حدود التوافق بينها وبين استمرارية الظاهرة الدينية مسألة مستحيلة.
وربما تمثل السياق الوحيد للابتعاد عن ذلك الفهم الحدي والمتجاهل لحقائق التاريخ وللتحولات المجتمعية في الخطاب الإصلاحي لنفر صغير من معتدلي الفكر العلماني ومعتدلي التيارات الدينية الذين يدفعون باتجاه إعادة اكتشاف الجوهر التعددي والحرياتي للدين، ويشددون على إمكانية صياغة منظومات دينية تقبل التعددية وتلتزم بالمرجعية الدستورية (وليس بتأويلات الشريعة الإسلامية) كمرجعية نهائية وأخرى علمانية تقبل وجود الدين في الفضاء العام شريطة الابتعاد عن ادعاء احتكار الحقيقة المطلقة وشريطة التزام العلمانيين بقبول نسبية طرحهم هم أيضا.
٭ كاتب من مصر
عمرو حمزاوي
الفرق في تناول الموضوع في بدايات القرن العشرين عن بدايات القرن الواحد و العشرين ان المشروع الديني ممثلا في اواخر الدولة العثمانية هو الذي فشل في الحالة الاولى بينما المشروع القومي و اليساري و الوطني هو الذي فشل في الحالة الثانية.
المنطقة العربية تفتقر الى القدر الكافي من النخب في مختلف المجالات لسببين تراكما خلال قرن كامل، الاول هو غياب الحريات و الثاني غياب التحدي. و هذا هو سبب التعثر.. و لان انظمة الاقلية لا تتغير الا نحو الاسوأ فان المتوقع معاودة ظهور الهبات او الثورات و تعثرها عدة مرات حتى الانهاك التام لكل الاطراف أو تعلم الدرس
العالم العربي في حاجة الى استعادة مفاهيم محمد عبده والأفغاني