مضى عقدان على صدور «مابعد الأرض الموعودة: اليهود والعرب على الطريق الوعرة صوب إسرائيل الجديدة»، كتاب الصحافي الأمريكي غلين فرانكل؛ الذي ما تزال أصداء خلاصاته تتردد كلما وقعت واقعة تكشف المزيد من تضخّم الهمجية والوحشية والعنصرية والجريمة داخل الباطن العميق للشخصية اليهودية في إسرائيل. والكتاب ذاك، الذي نال في حينه جائزة بوليتزر الرفيعة، ضمن جوائز اخرى هامة؛ كان قد أثار نقاشات مشهودة، في إسرائيل والولايات المتحدة، خاصة وأنّ فرانكل شغل منصب مدير مكتب صحيفة «واشنطن بوست» في القدس، وتسبب مراراً في أزمات «حرج عاطفي» بين الصحيفة المنحازة والدولة المتمتعة بالانحياز، لعلّ أشهرها جرى سنة 1988، حين سحبت السلطات الإسرائيلية بطاقته الصحفية عقاباً له على اتهامه الجيش الإسرائيلي باغتيال خليل الوزير (أبو جهاد).
المرء يستعيد هذا الكتاب في مناسبة أحدث نماذج البربرية الإسرائيلية، أي قتل الرضيع علي الدوابشة حرقاً، ثمّ وفاة والده متأثراً بجراحه؛ بأيدي زمرة من المستوطنين المنتمين إلى جماعات إرهابية، يهودية متدينة متشددة. «الشخصية اليهودية»، ساجل فرانكل، أُتيحت أمامها عشرات الفرص، في مناسبات ومنعطفات شتى، لكي تتصالح مع التاريخ والواقع؛ ولكنّ الحصيلة الإجمالية ظلت تميل إلى ترجيح «ثقافة الحصار» التي تغذّي المكوّنات الدينية والثقافية والسيكولوجية لتلك الشخصية.
الهرب من استحقاقات الحياة اليومية لمواطني أيّة أمّة سليمة الوجدان، ثمّ صحيحة الجسد والروح قبلئذ؛ هو، في يقين فرانكل، علامة على أنّ تلك الأمّة ناقصة موضوعياً، أو منتقصة في ذاتها وبذاتها، وبالتالي فإنّ ما يغذّي شخصيتها الوطنية ليست العناصر التي تصون وجودها وتحصّن مستقبلها، بل تلك التي تفعل العكس تماماً: تنخر البنيان، وتقوّض الدعائم، وتفضي إلى الهاوية. وحين تُتهم «الشخصية اليهودية» باسترجاع شرعة الغاب في فلسطين، وإعادة إنتاج عدد من الممارسات الأبشع التي سبق لهذه الشخصية أن كانت ضحية لها، بما يحيل تلك الضحية إلى جلاد؛ فإنّ المعادلة لا تتوقف عند نموذج منفرد لشخصية متطرفة، بل تنسحب على جيش الاحتلال الذي يتصرّف باسم «الدولة» ذاتها التي تمارس أفانين مختلفة من الإرهاب، من قطع الكهرباء إلى قطع المياه، مروراً باقتلاع الأشجار ومصادرة الحقول والبيارات، وتهديم البيوت وتخريب الطبيعة…
فكيف إذا كان التوصيف الحديث المفضّل لهذه الدولة، أنها «واحة الديمقراطية» في بيداء الشرق الأوسط؟ وكيف إذا توصيفها الأثير الأقدم، المسلّح بالتوراة والأسطورة، هو أنها «أرض الميعاد»؟ ما الذي يتبقى من «قِيَم أخلاقية» وراء هذا «الفردوس الموعود»، الذي لا يتحوّل إلا إلى دولة إرهابية بربرية؛ بعض مواطنيها أحرار في حرق الأطفال الرضّع؟ و»أفواج الحالمين»، كما وصفهم إشعياء في رؤياه، ألا ينقلبون إلى قتلة بدم بارد، تحميهم قوانين ـ «وضعية» و»علمانية»، كما يُقال لنا ـ لا تشجّع الجريمة بحقّ الإنسانية فقط، بل تمسخ وشاح الهمجية إلى إكليل غار؟
وقبل زمن، غير بعيد البتة، كانت الطفلة الفلسطينية إيمان الهمص (13 سنة) قد سقطت أرضاً بعد أن تعرّضت لإطلاق نار من نقطة مراقبة عسكرية إسرائيلية؛ لكنها كانت قد جُرحت فقط، حين تقدّم منها الضابط الإسرائيلي، قائد الفصيل، وأطلق طلقتين على رأسها من مدى قريب، ثمّ عاد من جديد إلى الطفلة، وغيّر سلاحه إلى التلقيم الآلي، وتجاهل اعتراضات زملائه التي تواصلت عبر جهاز الاتصال، وأفرغ كامل الذخيرة في جسدها. ذلك الضابط، الذي لم يكن مستوطناً متطرفاً، وجدته قيادة الجيش الإسرائيلي بريئاً من أيّ اتهام لا أخلاقي؛ وأمّا المنطق البسيط فسيجده نموذجاً، بالغ التعبير، عن «الشخصية اليهودية» إياها؛ ولن يكون عجيباً أن نجده، في أيّ يوم قريب، حاملاً مشاعل الحرق الهمجية، أمام بيوت فلسطينية كثيرة.
صبحي حديدي
اسرائيل قائمة في الحقيقة على اسس مهزوزة و خارج كل منطق تاريخي او جغرافي او شرعي او ديني او اخلاقي. و هذا واضح للكثيرين و منهم يهود يتنامى عددهم باضطراد. بل ان قئة كبيرة جدا من اليهود العلمانيين و المتدينيين يعتقدون بزوال اسرائيل في النهاية
اعتقد ان علينا بذل مجهود اكبر في التركيز على الجانب الاخلاقي و خاصة مع اليهود انفسهم. ومن ابرز جوانب ذلك ان الشعب الفلسطيني بات اما لاجئا مشردا ممنوعا من العودة او واقعا تحت احتلال قهري يهودي.
لعل الفلسطينيون و العرب مما يتقنون اللغات الاجنبية عليهم واجبا اضافيا في مخاطبة الاسرائليين و حلفائهم بذلك