احتفلت الشعوب السودانية في الفاتح من يناير الجاري الذي هو رأس السنة الميلادية بعيد «استقلال البلاد» الستين، من عباءة الكولنيالية البريطانية. وعلى غير العادة، جاءت احتفاليات هذا العام بمساءلات نقدية واسعة، لماهية هذا الاستقلال، وفائض قيمته بعد ستين عاما، وهل المطلوب، في مثل هذا اليوم اجترار لرمزيات الشكل والخيال والعاطفة؟ أم وضع استفهامات جوهرية حول كل منعطفات التاريخ السيوسياسي السوداني الحديث، الذي تشكلت أعمدته في أربعنييات القرن المنصرم، جراء سيرورة تاريخية وقعت في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.
إن استفهامات الشعب السوداني لها شرعية تجد سندها في راهن حالها ومآلها المبني على المجهول تماما، ولا يمكن التموقع في حكم المبني للمعلوم إلا بواقعية وعقلانية وقراءات نقدية وبقساوة لبنيات التاريخ السوداني، التي أنتجت عقل الفشل، ويمضي نحو إعادة إنتاج الفشل نفسه، لأن الواضح أن الأزمة السودانية، في تمظهراتها المختلفة، التي بلغت درجة عالية من الانحراف، المعادية لقيمة البقاء والوجود الإنساني، تعود في الأساس إلى مكونات العقل السوداني، ومرجعياته المختلفة، وفق أسس بنائه التاريخي والجغرافي.
«الاستقلال»، كمفهوم سياسي ولج في أدبيات المنطقة، إثر سقوط إمبراطورية «آل عثمان»، وارتبط بمبدأ «سيادة» الشعوب على إقليمها وتحقيق مصيرها في القيم الإنسانية من حرية وديمقراطية وتحقيق «الاستقلالية» في فعل الإرادة والإنتاج بدون تبعية، وفي أن تكون لذاتها وللمجتمع، في علاقة جدلية، نشيطة ومنتجة. وبهذا تجاوز مفهوم «الاستقلال» تعريفه الكلاسيكي الوارد في جل الأدبيات المعرفية.
وبالنظر إلى أهمية تطور هذا المفهوم، ومحاولة إجراء مقاربة موضوعاتية من خلال رموز دلالات الاستقلال الحديثة وتطبيقه على واقع الحال السوداني، نجد أن كل تلك القيم والرموز والدلالات تمت مصادرتها واحتكارها لفائدة قوى «الاقطاع الإسلاموية» المهيمنة على السلطة والسيادة والجغرافيا السودانية، التي تتصرف فيها كحقوق ملكية خاصة، تبيع فيها الأرض وتنتفع بقيم المجتمع، لتعتاش عليها. وهذا، جاء نتيجة فشل السودانيين في تحديد ماذا يريدون وماذا يفعلون؟ ضد مشروع استيطاني استعماري أعاد إنتاج أدوات الاستعمار الأجنبي وقام بتحديثها وفق حاجياته، هذه الحاجيات ليست «قارة» يتبدل معاملها باستمرار، إن كان في المواجهة أو تقييد هذه المواجهة.
إن نجاح الشعب السوداني في مشروع التحرير الوطني من قبضة الاستعمار الأجنبي، جاء وفق عقد اجتماعي، سياسي وطني قوامه السيادة والحرية وتحقيق المصير، فيما تعثرت في بلوغ المشروع الوطني الثاني ومتطلباته العقلانية، لأن بنيات مكونات العقل الاستعماري ما زالت قائمة ومهيمنة على تنظيم وتدبير الشأن، ونسى أو تناسى أن الشعب السوداني ومن أجل بلوغ قيم الدولة الحديثة لابد له من مشروع وطني جديد ومتوافق عليه، ولا يمكن الوصول إلى ذلك بالنظر إلى صنم الاستبداد الاستعماري الواقع على البلاد، إلا باستدعاء التاريخ السياسي السوداني الذي وقع فيه تحرير البلاد الخرطوم مرة ثانية وقتل «غردون» الحاكم الاستعماري مرة ثانية، ورمزية مقتل «غردون» ترمز إلى رمزية حكم الاستعمار الداخلي عبر أيديولوجيا إسلاموية أيضا كانت وافدة على الدولة والشعب السودانيين.
بالأمس وإثر اقتراب عيد الاستقلال، قرر مجلس الوزراء السوداني، منح عطلة رسمية للشعب لمناسبة عيد الاستقلال، الذي احتفت به قوى الهيمنة والاستبداد، وعبر مظاهر الشكل التي تقيمها سلطات الاستبداد، في المبنى الجديد الذي سمي «القصر الجمهوري الجديد». الغريب في هذا الأمر، أن التاريخ الوطني السوداني الحديث والقديم، لم يسجل لهم أي دور في المقاومة الوطنية السودانية، لا من قريب ولا بعيد، لذك نجد، ومنذ استيلائهم على السلطة يحاولون ويعملون على إلغــــاء و«دك» الذاكرة الجماعية للشعب السوداني، الأمكنة والأزمنة، رغم أهمية رمزيتهما في المخيال الجمعي للشعب السوداني، بل تعدى الأمر ذلك إلى إلغاء معــالم ترتبط بذاكرة بعض قيادات مهـــمة في الدولة، وفي إطار مشروع «كنس» الذاكرة، تم هدم حديقة الحيوان، كمـــعلم من معـــالم العاصـــمة القومية الخرطـــوم، بحجة أن أحد مهندســـي انقــــلاب يونيــــو1989، عاش مع والده بالحديقة أو خارجها، حيث كان والده يعمل هــــناك، في عمــــل حر، شريف، ولم يقل له الشعب الســـوداني يومـــا رغم سلوكه السياسي أنه كان قريـــبا لإنســـان عاش مع «مملكة الحيـــوان»، والشـــيء ذاته، ينسحب على «القصر الجمهوري الجديد»، لكنس معالم رمزية القصر الجمهوري التاريخي، الذي بدأ يعرف بـ«القديم»، كشكل من أشكال التجاوز، وهو القصر، الذي شهد فيه الشعب السوداني وقواه الوطنية رفع علم الاستقلال، حيث لا وجود ولا أثر وقتئذ للإسلامويين السودانيين في هذا التاريخ الوطني.
في مسك الختام ، تقول عنا، بعض الآذان العربية، أنها تسمع نطق «القاف» «غين» عند السودانيين، فالاستقلال السوداني، ما زال «استغلالا» استعماريا سودانيا إذن.
٭ كاتب سوداني مقيم في لندن
محجوب حسين