ليس من قبــيل المبالغة بأي حال وصف المشهد السياسي وانعكاسه الإعلامي في مصر بالمزري والعبثي، إلا أن الأكيد أنه متمادٍ في التردي في هوةٍ ليس لها قرار، فكلما تصورت أنك رأيت منهم ومن الزمان أعجبه فاجأوك بما يتخطاه.
من ذلك مثلاً تلك الفرحة العارمة البلهاء التي أشاعها الإعلام لدى التعثر في مياهٍ جوفية أثناء حفر القناة الجديدة، كأن الهدف منها استصلاح أرضٍ للزراعة لا شق مجرى مائي عبر عملية حفرٍ، من المفترض أن تكون جافةً قدر المستطاع لتقليل التكلفة والحاجة إلى مضخاتٍ لتفريغ تلك المياه؛ لكنني أعترف بأن الصدارة في اللامعقول حازتها باقتدار حلقة من برنامج الإعلامي تامر أمين، لمناقشة أزمة السينما، حيث سب أحد ضيفيه الآخر ونال منه بالفاظ بذيئة، ولعله بذلك يحسب نفسه «ذكــــرا» مغـــواراً! غير أن هذين المثالين لا يتعديان خانة «الفكاهة» الغرائبية المسفة لنظامٍ يتخبط، نفخت في صورته وأنقذته من شفير الهاوية توازنات الضعف والمصالح المحلية والإقليمية، وحماقات الإسلاميين وسائر القوى السياسية والقوى العظمى، نظام ميت مترهل في حقيقة الأمر، والأكيد أن المعلم الأكثر ثباتاً الذي يشكل خلفيةً دائمة الحضور في ذلك المشهد الكئيب، هو العداء المسعور للإخوان المسلمين والتنديد والتشهير المستمر بهم… لقد تخطت تلك الحرب العداء السياسي إلى مرحلة الفحش، حيث بات النظام يفسر كل إخفاقاته ويلقي كل بلواه على «منتسبين «للجماعة الإرهابية المحظورة».. فإذا انقطعت الكهرباء أو الماء فالفاعل إخواني مندس! معاذ الله أن تكون الخدمات والمرافق تتعطل بسبب التسيب والإهمال وانهيار البنية التحتية وتآكلها المتعفن عبر ما يقارب الأربعين سنة من التدهور الحثيث والنهب، ومن يدري فربما نصحو يوماً لنكتشف أن جهاز الكفتة مدسوسٌ على النظام من الإخوان، وأن عم اللواء عبعاطي خلية إخوانية مندسة ومرجفة.
بعيداً عن السخرية من واقعٍ مسخ هو المسخرة بعينها، فلا بد من تقرير أن النظام برئاسة السيسي يعيش أزمةً وجوديةً عارمة ومفزعة، ولعله، أي السيسي، بدأ يدرك جدية وإلحاح تلك الأزمة، وفق بعض المؤشرات والتصريحات/ التسريبات للصحف.
نحن باختصار أمام نظامٍ مني بضريةٍ قاصمة هادرة أخذته على حين غرة، إلا أنه لعب أوراقه جيداً، أو كان أقل من أخطأ في مجالٍ عام جرفه هو من السياسة لما يقرب من ستين سنة حتى صار مقتصراً على الإخوان المسلمين، الذين تصور أنه يعرف كيف يلاعبهم أو يتعايش معهم وفق صيغة قلقة، وعليه فقد تمكن ذلك النظام خلال الثلاث سنوات المنصرمة من ترميم هياكله ولملمة ما أمكنه من شعاث أجهزته، الأمنية – الاستخباراتية في المقام الأول بطبيعة الحال، ومن ثم قام بحملةٍ ممنهجة ودؤوبة لعقاب الشعب المصري، عن طريق أزمات الوقود والكهرباء والغلاء وفقدان الأمن. كان يلقن الشعب درساً مفاده أن الثورة مبهظة، وأن مآلها إلى الفشل، وللأسف تمكن ذلك الشعور المحبط من قطاعاتٍ متسعة من الجمهور ضحت كثيراً ولم تجن شيئاً ملموساً في حياتها اليومية وفي أرزاقها… في ساحةٍ مرهقةٍ حديثة عهدٍ بالسياسة، وقوىً آخذة في التشكل لم يتبلور وينضج كثير منها بعد، ووسط أحزابٍ أفسدها النظام، أثبت أنه الأفضل تنظيماً والأوفر موارد، خاصةً أن من يقف وراءه من ذوى المصالح شرسون حد الإجرام.
لقد ظهر السيسي من رحم توازن الضعف ذاك والإحباط والرغبة في الخلاص، وقد مهدت له ماكينة الدولة بجيشها في المقام الأول وسائر أجهزتها الامنية وإعلام ليس إعلاماً، بل صورة ممسوخة من جهاز دعاية النازي… حتى وصل السيسي. وأعتقد أن يوم انتخابه والأيام السابقة عليه شكلا نقطة الذروة في شعبيته، فالرجل الذي تعلقت عليه كل الآمال وتعامل معه العديدون كمخلصٍ، بعد أن أسقطوا عليه كل تصوراتهم المثالية وآمالهم في صلاح الأحوال، جاء مدعوماً بتحالفٍ من كل الناقمين على الإخوان، من قوى ثورية وغير ثورية، ناهيك عن كتلة ضخمة من أعداء الثورة من الأساس، تحالف مستحيل، فرضته ضرورة لحظة عابرة، وكابن شرعيٍ للتناقض محكومٌ عليه بالتشتت والصراع الأكيد الذي حانت لحظته مباشرةً… فإزاء جمهورٍ أوصل «البطل الوطني المخلص» لمنصب الرئاسة فهو ينتظر استحقاقه وعاقبة صبره، تقف طبقاتٌ مالكة ومستفيدة لم تفهم ولا تريد أن تفهم وتعاند الفهم كجحشٍ عنيد! استسلمت لفرية المؤامرة (التي أطلقتها وإعلامها في المقام الأول) التي أعمتها عن رؤية عمق السخط الشعبي المتجذر في تركيبةٍ اجتماعية – اقتصادية ذات انحيازاتٍ مجحفة للسواد الأعظم من الطبقات الشعبية المحرومة من كل شيء، وبالتالي ترفض وتقاوم تقديم أي تنازلات حقيقية ولو حتى بسيطة.
تلك أول محنة تجابه السيسي: فقدان الهوية (على الاقل وفق الخطاب الرسمي) والسؤال الرئيسي الذي يتعين عليه الإجابة عليه: صف من سيأخذ؟ من المستحيل إرضاء الجميع، ولو حاول سيغضب الجميع وسيكسب عداءهم، خاصةً أن معسول الكلام والخطاب العاطفي تأكد لكل واهمٍ أنه لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا يسد فواتير الأسعار التي تهرول غير قانعةٍ سوى بعنان السماء، خاصةً في ضوء شواهد عديدة عن تضارب بين أجهزة الدولة. وفي حقيقة الأمر أنه وراء ستارٍ من الوعود بمشاريع ستقلب موازين العالم من جهاز كفتة إلى قناة سويس جديدة الخ فالنظام مستمرٌ في انحيازات دولة مبارك نفسها مع فارق بروز جانب ثأري لا يرتوى من كل الطبقات الشعبية التي يرى المستفيدون المنتمون إليها «أوباشاً ومغفلين» تطاولوا على السادة وهددوا جنتهم تلك.
في ضوء ذلك نستــطيع أن نتناول مظاهرات الطلبة، فهناك من ينظر إليها على أنها محض تعبــيرٍ عن سخط بعض الطلبة المنتمين أو المتعاطفين مع الإخوان والذين يلجأون للعنف، ولا يخفى كم في ذلك من اســتسهالٍ وتبسيطٍ مخل بل ومزور، فالأقرب للمنطق أن هناك سخطاً عاماً و»تململاً»، كما سماه الكاتب الكبير عبد الله السناوي، من قبل قطاعاتٍ ما تني تتسع لتشمل معارضين لـ30 يونيو، من إخوان وغيرهم، وكثيرين ممن ساندوا السيسي وقد يئسوا وسئموا من انتظار الفرج. هناك أزمة سياسية حقيقية.
الأمر الذي يقودونا إلى ثاني محن السيسي ونظامه: أنه يواجه أزمته السياسية الوجودية تلك بأسلوبه الأمني القديم المعتاد، لكن بــــدون أدواته القديمة.. يجوز أن المنظومة الأمنية أكثر بطشاً، إلا أن حاجـــز الخـــوف سقط، والرضا المذعن النابع من الجهل قد ولى زمنه، واليقين أخلى محله للشك في كل شيء، بدءاً من السياسة وانتهاءً بالعقائد والمسلمات الدينية، والأهـــم من ذلك أن النظام فقد حضور الإخوان المسلمين، الذين كانــوا يتقاسمون المجال العام معه، ويلتقطون ما يسقط منـــه فينفسون عن الاحتقان والغضب ويساعدونه بشكلٍ فعـــلي على التنصل من الكثير من التزاماته والهروب من الواقع الاجتماعي المترهل، خاصةً أن السلفيين نظراً لحداثتـــهم النسبـــية وتعدد فصـــائلهم وفقدانهم للبنية التنظيمية الهرمية المحكمة، لا يستطيعون القيام بدور الظهير الديني للنظام، عوضاً عن الإخوان بشكلٍ مطلق، خاصةً لدى بعض الشرائح الاجتماعية.
سوف يثوب النظلم إلى طبيعته ولو بعد حين… قد يستمر في غيه وبطشه بالإخوان فترةً من الزمن قد تطول أو تقصر، إلا أنني أكاد أجزم بأن مصالحةً بينهما شبه حتمية، ربما بعد بضعة تنازلات وتغيير في قيادات التنظيم، وبالطبع لن يكون الدافع إنسانياً بقدر ما هو مصلحي بحت، نابع من احتياج النظام. غير أن كل ذلك لن يحل أزمات النظام ولن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء.
25 يناير لحظة فارقة في تاريخ مصر المديد، حديثاً وقديماً… قد يزيد البطش وقد تسوء الأحوال، ولكن لا عودة للوراء، فالناس الآن ماضون متدافعون في زحام ولا بد أن يصلوا إلى بر، ولعل أهم فوائد المرحلة الحالية أنهم يتعلمون أن من يضحي بالحرية والكرامة في مقابل الاستقرار ينتهي به المطاف إلى خسارة كليهما.
٭ كاتب مصري
د. يحيى مصطفى كامل
في فترات الهزيمة والانسكار فلا تسأل عن الأخلاق أو النظم الصحيحة وكلنا نتذكر انتشار مسرحية مدرسة المشاغبين وسلوكياتها التي هاجمت الأب والناظر والمدرس .. نعم هي الامم الأخلاق ما بقيت فان هم ذهبت اخلاقهم ذهبوا وهي صالحة لكل زمان .. ودعواتنا لمصر بالسلامة
Please, stop writing until you are more settled , the constant feature in your article is confusion