ارتفع الاهتمام السياسي والأكاديمي مؤخرا بالأنظمة الملكية، ويعود الاهتمام إلى التساؤل حول السر في استمرار أنظمة تعود إلى التاريخ القديم واستمدت في البدء وجودها من الحق الإلاهي في القرن الواحد والعشرين، بينما الفكر البشري تطور نحو المناصفة بين جميع البشر ويطالب الجميع بمؤسسات منتخبة. وإذا كان سياسيو ومفكرو القارة الأمريكية لا يطرحون هذه الإشكالية بسبب غياب نظام ملكي، فالأمر يحضر بقوة في القارة الأوروبية بسبب البحث العلمي وكذلك حرية التعبير مقارنة مع غيابه في العالم العربي. ومن آخر الكتب حول الموضوع كتاب ذو نبرة قاسية باسم «ملكية غير نموذجية» حول النظام الملكي الإسباني لمؤلفه إنياكي أنغاستي.
وعمليا، استأثرت الملكية البريطانية بالقسط الوافر من الاهتمام خلال العقدين الأخيرين، بسبب الفضائح ومركزية بريطانيا في العالم، وكذلك بسبب الأميرة ديانا التي انتهت في حادث مأساوي في باريس. ولم تعد الملكية البريطانية لوحدها تشكل مادة إخبارية بل كذلك ملكيات أخرى تشهد فضائح ومنها الإسبانية خلال السنوات الأخيرة.
وكانت الملكية الإسبانية تحظى بالاحترام وطنيا ودوليا لسبب رئيسي هو ما يفترض حول دور الملك خوان كارلوس في المساعدة على الانتقال السياسي من دولة دكتاتورية إبان عهد الجنرال فرانسيسكو فرانكو إلى دولة ديمقراطية ابتداء من سنة 1975. وكانت أصوات قليلة تنتقد الملك خوان كارلوس ولاسيما في مناطق مثل كتالونيا وبلد الباسك وغاليسيا حيث الحركات القومية القوية الراغبة في الانفصال عن اسبانيا. لكن خلال السنوات الأخيرة، تراجعت صورة الملكية بشكل ملفت بسبب ملفات فساد، وارتفعت وتيرة إصدار الكتب السياسية التي تنتقد هذه المؤسسة وتفضح ما يفترض تورطها في الفساد وتطالب بالجمهورية.
وتجد هذه الكتب إقبالا كبيرا بفضل ارتفاع أنصار الجمهورية، فالمثل أو القولة السياسية في اسبانيا هي «ملكية في دولة جمهورية»، وبسبب تلاشي الرقابة نهائيا على معالجة الملكية، وهي رقابة ليست سياسية وإنما إرادية من طرف كبريات وسائل الاعلام الإسبانية، حيث أغلب مدرائها من أصدقاء الملك خوان كارلوس الذي يستمر في حمل اللقب بينما ابنه فيلبي السادس يحمل لقب «ملك اسبانيا».
وصدر خلال نيسان/أبريل الماضي كتاب يحمل اسم «غياب الذاكرة» لكاتبة/صحافية تحقيق معروفة وهي بيلار أوربانو يتهم الملك خوان كارلوس بالتورط في الانقلاب العسكري لسنة 1981. وخلال نوفمبر الماضي، صدر كتاب جديد باسم «ملكية غير مثالية» أو «ملكية غير نموذجية» لمؤلفه إنياكي أناساغاستي يعتبر من الكتب القاسية مع الملك خوان كارلوس والملك الحالي فيلبي السادس، معتبرا إياها «الملكية الفاسدة» بسبب تورطها في مؤامرات سياسية والاختلاس المالي الذي من عناوينه محاكمة ابنة الملك خوان كارلوس، الأميرة كريستينا وشبهات حقيقية حول الملك نفسه.
والكتاب صادر عن دار النشر «كتراتا» ويعتبر الثاني الذي يوقعه هذا السياسي حول الملكية والذي تميز بانتقاداته القوية للملكية في مداخلات له ببرلمان هذا البلد الأوروبي. وكان الكتاب الأول بعنوان «ملكية محمية من الرقابة»، يعالج فيه كيف كانت الصحافة الكلاسيكية، من باب المجاملة أو تحت يافطة «الحفاظ على الاستقرار»، تتجنب الحديث عن تورط الملك خوان كارلوس في فضائح كبرى منها فضائح سياسية ومالية.
وينقسم الكتاب البالغ 428 صفحة موضوعاتيا وليس التبويب إلى قسمين، الأول يعالج الجانب السياسي المحض، والقسم الآخر يعالج الفضائح التي تورط فيها الملك خوان كارلوس سواء الغرامية أو المالية. وحول الهدف من هذا الكتاب، يقول هذا السياسي «إلقاء الضوء على فضائح مؤسسة ملكية لا تصلح للبلاد وحيث هناك حملة ماركيتينغ مستمرة من طرف البعض للتغطية على فضائحها».
ويتناول الكتاب ما يعتبره أساطير جرى نسجها حول دور للملك خوان كارلوس في إرساء الديمقراطية خلال الانتقال الديمقراطي بعد رحيل الدكتاتور فرانكو. ويتبنى موقفا معاكسا بل يعتبر الملكية مؤسسة دكتاتورية وغير دستورية لأن تعيينها جاء بفضل فرانكو نفسه ولم يتم السماح للشعب الإسباني إجراء استفتاء للاختيار بين الملكية والجمهورية. ويرى مفارقة كبيرة في البلاد بأن معظم الأحزاب السياسية لا تعترف بالملكية ولكنها تقبل بها في الدستور.
ودعما لأطروحته بالتشكيك في الشرعية الديمقراطية للملك خوان كارلوس، يركز على ما يعتبره تورط الملك في الانقلاب العسكري الفاشل يوم 23 شباط/فبراير 1981، وهذه المرة يعتمد على ما جاء في كتاب «غياب الذاكرة» حول تصريحات كان رئيس الحكومة الأول بعد الانتقال أدولفو سواريث قد أدلى بها إلى الصحافية بيلار أوربانو، وتصريحات أخرى. وتحدث ضباط كبار في الجيش خلال السنوات الماضية عن دور مبهم للملك في دعم الانقلاب.
في الوقت ذاته، يستعرض الكاتب الكثير من المحطات السياسية التي شهدتها اسبانيا والتي لم يكن الملك في مستوى معالجتها سياسيا ومنها مطالب الأحزاب القومية في حقها حول تقرير المصير، وفق تحاليل الكتاب.
وفي شق آخر، ينتقد «عملية التجميل» الإعلامي والسياسي التي خضعت لها الملكية من خلال انتقال العرش من خوان كارلوس إلى فيلبي السادس خلال حزيران/يونيو الماضي. ويسخر من الحملة الإعلامية التي تستهدف تقديم فيلبي السادس بالملك المختلف عن أبيه، وذلك «للبحث عن شرعية ديمقراطية» تفتقدها المؤسسة الملكية لمواجهة ظاهرة ارتفاع أنصار الجمهورية ومنها ظهور أحزاب يسارية ترغب في نهاية الملكية إذا وصلت إلى الحكم ومنها حزب بوديموس.
ولا يتنبأ بمستقبل للملكية في اسبانيا رغم التجديد الذي شهدتها بتخلي خوان كارلوس عن العرش لصالح ابنه فيلبي السادس الذي يحاول استعادة شرعية المؤسسة وتجاوز الفضائح التي مستها. ويذهب في تحاليله إلى أن ظهور حزب بوديموس عجل بانتقال العرش من خوان كارلوس إلى فيلبي السادس في ظل برلمان حالي يتواجد فيه حزبان يقبلان بقواعد اللعبة، وكان ذلك عملا استباقيا قبل وصول حزب بوديموس إلى السلطة، ووقتها ستكون عملية نقل الملك شائكة للغاية.
وموضوعاتيا، هذه الفضائح هي التي تشكل القسم الثاني من الكتاب. في هذا الصدد، يستعرض كتاب «ملكية غير مثالية» سلسلة الفضائح التي هزت العرش الإسباني طيلة القرن العشرين ابتداء من الملك ألفونسو الثالث عشر الذي جرى طرده سنة 1931 من الحكم وإعلان الديمقراطية ثم فضائح ابنه الدوق خوان، أب خوان كارلوس، هذا الأخير الذي ستعود معه الملكية بفضل الجنرال فرانسيسكو فرانكو، وأخيرا فيلبي السادس. والتركيز الكبير يتم على الملكية بعد الانتقال الديمقراطي بينما فضائح الماضي ضمن فلاش باك أو للتأكيد على سلسلة الفضائح المستمرة واللامتناهية.
ومن الفضائح التي يركز عليها الكتاب سفريات خوان كارلوس إلى الخارج للهو مع أصدقائه وتعدد عشيقاته مثلما حدث في حالة سفرية إلى بوتسوانا سنة 2013 رفقة رجل أعمال عربي، حيث سقط الملك وأصيب بكسر في الحوض ، تطلب نقله إلى اسبانيا على وجه السرعة للعلاج. وشكل ذلك فضيحة لأنه تزامن مع أكبر أزمة اقتصادية تعيشها البلاد خلال العقود الأخيرة، اضطر معها الملك ولأول مرة إلى طلب العفو من الشعب.
ويتناول الكتاب الفضائح المالية إلى حالة شقيقة الملك الحالي، كريستينا التي يتابعها القضاء بتهمة التملص الضريبي واختلاس أموال عمومية، حيث يمكن أن تصدر في حقها عقوبة السجن رفقة زوجها إنياكي أوندنغرين بالتهم نفسها.
وينتهي الكتاب إلى تفنيد فكرة مثالية الملكية الإسبانية بل يراها «مؤسسة فاسدة»، ولا يتردد في القول بأنه «يستوجب طردها من العرش والرهان على الجمهورية».
ويقول المؤلف في تبريره إصدار كتاب قوي المضمون حول الملكية «عندما تتجول في المكتبات تجد كتبا تمجد الملكية، وهذا يدخل ضمن عملية ماركيتينغ تقف وراءها أطراف سياسية وإعلامية، ويجب أن تكون هناك كتب ذات مضمون قوي. لأنه في دولة خلال القرن الواحد والعشرين، لا مكان لمؤسسة مثل الملكية تستمد شرعيتها من الحق الإلاهي بل يجب على كل المؤسسات أن تكون منتخبة».
ويتزامن الكتاب وتراجع صورة الملكية في اسبانيا بشكل ملفت للنظر خلال السنتين الأخيرتين، ومنها ظهور قوى سياسية مثل «بوديموس″ التي تراهن علانية على إلغاء الملكية وإقامة الجمهورية. ولم يفلح الملك الجديد فيلبي السادس في الرفع من أسهم المؤسسة الملكية إلا قليلا في أعين الرأي العام الإسباني وإلا بشكل محدود للغاية رغم سياسة التقشف التي ينهجها. وآخر ما أقدم عليه هذا الملك الجديد لتعزيز مصداقيته خلال الأسبوع الجاري هو تخفيض 20٪ من مرتبه السنوي الذي لا يتجاوز 234 ألف يورو.
بهذا يصبح الملك الذي يحصل على أقل مرتب في مجموع ملوك أوروبا، ولا يمكن مقارنة راتبه مع الملوك العرب. ولا تتجاوز ميزانية الملكية الإسبانية 7.7 مليون يورو، وهي كذلك الأفقر من نوعها بين ملكيات العالم. ويوزع الملك هذه الميزانية على أفراد عائلته كما يخصصها لشراء سيارات ومصاريف أخرى.
ومن باب المقارنة تبلغ ميزانية الملكية المغربية أكثر من 30 مرة نظيرتها الإسبانية، ويصبح الأمر خياليا ويضاعف بالآلاف في حالة مقارنة ميزانية الملكية الإسبانية مع نظيرتها السعودية، حيث ينفرد الملك والأمراء بعشرات المليارات من اليورو.
Iñaki Anasagasti:
Una Monarquía Nada Ejemplar
Catarata, 2014, Madrid
P: 428
د. حسين مجدوبي