بدا واضحاً هذه الأيام في إيران وجود «قوى خفية داخل النظام نفسه» تعمل باستمرار على تقويض هذا النظام بممارساتها ومعالجاتها المتشددة التي تساهم في تفكيك عراه تمهيداً لتقسيم إيران إلى دويلات كما حصل للاتحاد السوفييتي السابق، والحديث حول هذا الملف -أي تفكيك إيران، دفع بالكثير من الإيرانيين إلى إطلاق صيحات تحذير جدية من وجود هذه القوى والفكر المتطرف الذي تؤمن به، الذي يرجح الحلول الأمنية لأي أزمة، وإن كانت بسيطة، يختفي صداها في زحمة هذه الأزمات وأصوات كبار غلاة المتطرفين.
ودفعت التظاهرات المطلبية المشروعة، التي تحولت الشهر الماضي إلى اعتراضات شملت معظم المدن وأطلق عليها «اعتراضات سراسري» مرشد البلاد نفسه إلى الاعتراف بوجود أخطاء ترتكبها مؤسسات إيران الرسمية وفقدان العدالة وتقديمه الاعتذار شخصياً للشعب. و«صناع» الأزمات داخل نظام الجمهورية الإسلامية، وهم نافذون بما يملكون من قوة وسطوة وأدوات من خلال سيطرتهم على الكثير من مفاصل النظام، يتحركون داخلياً بوعي متعمد أو بجهل في إيقاع ثابت وكأنهم لا يرغبون أن تبقى إيران من دون أزمات داخلية، وإن بدت بسيطة يمكن حلها بالعودة إلى مفاهيم الإسلام وقواعده والحريات العامة التي سمح بها ودعا لها في إطار المصلحة العامة وحفظ النظام القيمي العام في البلاد مثل قضية «فتيات الحجاب» اللائي تحدين ولا يزلن بطريقة سلمية عبر نزع غطاء الرأس، قانون الحجاب الحالي، بالرغم من أن دوريات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما عادت تعمل كما في السابق في عهد الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، وخففت في عهد الرئيس حسن روحاني من قبضتها الأمنية المتشددة في التعامل مع غير الملتزمات بالحجاب الإجباري.
ويمكن القول إن بإمكان القوى الخيرة والعاقلة في إيران معالجة موضوع «الحجاب الإجباري» داخل أروقة مجلس الشورى ومجمع تشخيص مصلحة النظام، والاستعانة بالآراء المعتدلة والمرنة للفقهاء واختيار الأكثر سماحة منها وتجنب التفسيرات المتشددة التي يتبناها بعض الفقهاء على قاعدة «الشريعة السهلة السمحاء» وحدود الزمان والمكان التي هي السقف الأعلى لأي اجتهاد.
أما الاعتداء على فتيات «خلع الحجاب» كما حصل الأربعاء مع الفتاة في منطقة «قيطرية» شمال العاصمة، ودفعها من قبل أحد عناصر الأمن الداخلي على الأرض من مكان مرتفع كانت تقف عليه، والقيام داخل مراكز الشرطة بالاعتداء عليها وعلى زميلاتها المعتقلات من فتيات «خلع الحجاب» بالضرب والشتم، وهو ما تؤكده المحامية والناشطة في مجال حقوق المرأة نسرين ستودة، فمن شأنه أن يعقد هذه المسألة البسيطة، ويمنحها أبعاداً سياسية وحتى أمنية، تسمح باستغلالها من قبل المعارضة المتربصة وقوى أخرى في الخارج، تتربص هي أيضاً أخطاء النظام.
وبينما لم تتوقف ظاهرة «خلع الحجاب» ورأت فيها السلطة القضائية والمؤسسة الدينية المتشددة أن هذه الأفعال يحرض عليها أجانب ووصفت النساء المتظاهرات ضد الحجاب بـ«المخدوعات»، بعكس السلطة التنفيذية التي تعاملت السلطات معها بكثير من سعة الصدر والمرونة، برزت في إيران أزمة جديدة أطلق عليها قضية الدراويش الكناباديين، وهم أتباع طريقة صوفية مسالمة، ويسمون بالكناباديين (الغناباديين) نسبة إلى مقرهم الرئيسي الواقع في منطقة كناباد جنوبي محافظة خراسان رضوي، شمال شرقي إيران.
هؤلاء الدراويش معروف عنهم أنهم مسالمون وكانوا نظموا احتجاجات تحول آخرها ليل الاثنين الماضي، إلى مأساة دموية عندما قام أحد هؤلاء الدراويش بقيادة باص دهس به عناصر من الشرطة المحلية فقتل ثلاثة منهم، وقتل رفاق له – حسب الرواية الرسمية- بالسواطير والسكاكين الكبيرة إثنين آخرين من عناصر التعبئة الباسيج.
وجاءت الاحتجاجات الدموية بعد صدور قرار قضائي باعتقال زعيم الدراويش أو الذي يعرف اصطلاحاً بقطب طريقتهم الصوفية الطاعن في السن نور علي تابندة (90 عاماً)، وقد تجمع الدراويش أمام منزله لمنع اعتقاله رغم التواجد الأمني المكثف في محيط المنطقة الواقعة في شارع باسدران شمال العاصمة طهران، وأبدى المحتجون امتعاضهم من القرار القضائي الذي يرى فيه البعض أنه صدر بتأثير ودفع من (القوى الخفية داخل النظام)، على خلفية إحراق عدد من المساجد والحسينيات خلال التظاهرات العامة التي خرجت في عدة مناطق من إيران الشهر الماضي، واتهام الدراويش بالتحريض على ذلك. وكانت أزمة النظام مع الدراويش تصاعدت أساساً في عهد الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد عندما وقف قطب الدراويش الكناباديين إلى جانب المرشح الإصلاحي مهدي كروبي خلال انتخابات 2009 التي أعقبتها احتجاجات سُميت بانتفاضة الحركة الخضراء، إذ كان كروبي انتقد سابقاً الهجوم من قبل حكومة أحمدي نجاد ومن كان يسانده في قوى الأمن، على أماكن عبادة للدراويش.
واعترض الدراويش الكناباديون سابقاً على المساس بأماكن عباداتهم، إضافة للاعتقالات التي استهدفتهم خلال رئاسة أحمدي نجاد وبأوامر منه ومن الحلقة الأمنية التي ساندته في تلك الانتخابات المثيرة، وشارك الدراويش في تجمعات اعتراضية أمام البرلمان الإيراني في سنوات ماضية.
وفي تفاصيل ليل الاثنين الدامي، عادت اعتراضات الكناباديين للواجهة، حين احتجوا على اعتقال زميل لهم، مطالبين بالإفراج عنه فحصلت مواجهات أدت إلى مقتل 5 من قوى الأمن (الشرطة والباسيج) واعتقال 300 من الدراويش، وإصابة 30 عنصرا من قوات الأمن بجروح متفاوتة، فضلا عن وقوع إصابات في صفوف الدراويش، فيما نقلت مواقع غير رسمية وتابعة للمعارضة الإيرانية أن بعض المحتجين الدراويش أصيبوا بجروح خطرة للغاية.
وقال المتحدث باسم الشرطة الإيرانية، كذلك، إن ما حدث ليل الاثنين تسبب بأضرار مادية كبيرة طالت السيارات المركونة، إضافة إلى زجاج بعض المنازل والمحال.
وفِي خطوة لقيت استحساناً في الشارع الإيراني، قام الثلاثاء قائد الحرس الثوري اللواء محمد علي جعفري برفقة عدد من قادة الحرس الثوري وكبار المسؤولين بزيارة لافتة إلى الدكتور نور علي تابندة القطب الأكبر لدراویش كناباد في منزله المحاصر أمنياً، ونقل عنهما أنهما اتفقا على آلية لإنهاء الأزمة الراهنة مع الدراويش التي يؤكد الرئيس حسن روحاني بإلحاح على حلها بعيداً عن الأساليب والرؤى الأمنية، عندما فصل وزير داخليته بين هذه الجماعة المسالمة ومن ينتسب لها ممن اتهم بممارسة العنف في الأحداث الأخيرة.
يشار إلى أن هناك اتهامات يوردها بعض المطلعين للمؤسسة الأمنية في البلاد بأنها تسعى إلى فرض قطب أعلى موال لها يخلف نور علي تابندة في زعامة دراويش كناباد، إذا انتقل إلى الرفيق الأعلى. وقيل في هذا السياق إن زيارة جعفري له في منزله ترد بطريقة غير مباشرة على تلك الاتهامات، لكنها لا تجيب على سؤال طرحه المشككون في نوايا «القوى الخفية»: لماذا تدخل الباسيج التابع للحرس الثوري في المواجهات مع الدراويش بينما لم يصدر مجلس أمن العاصمة ولا حتى مجلس أمن مدينة طهران الذي يرأس الأول محافظ العاصمة، والثاني حاكم طهران أي قرار بعجز الشرطة عن حلها؟
ويقولون: ألا يشير ذلك إلى أن هناك في داخل النظام من يريد لإيران أن تغرق في أزمة تلد أخرى؟
نجاح محمد علي