حمل وزير الداخلية الإيطالي ماثيو سالفيني في حقيبته، خلال زيارته طرابلس الاثنين، حزمة من التهديدات، في محاولة لحمل حكومة الوفاق الليبية على القيام بدور خفر السواحل، حماية للحدود الإيطالية من «غزوات» المهاجرين غير الشرعيين. واستقوى سالفيني، وهو في الوقت نفسه نائب رئيس الوزراء والرجل القوي في حكومة أقصى اليمين الحالية، بالاتفاقات الموقعة سابقا بين ليبيا وإيطاليا في مجال احتواء الهجرة غير الشرعية.
ويمكن القول إن أصداء ما دار بين الوزير الإيطالي والجانب الليبي بات معروفا، لأن الخافرات الايطالية في البحر المتوسط صارت تمنع سفن المنظمات الحقوقية جماعات الإغاثة الدولية من انتشال المهاجرين غير النظاميين من الغرق، وإيصالهم إلى السواحل الإيطالية، ما يعني أن عدد الغرقى سيتزايد في هذا الفصل مع تحسُن الأحوال المناخية. ويُعتبر الصيف الفترة الذهبية المناسبة لعبور البحر من الضفة الجنوبية إلى الشمالية في قوارب مطاطية، أو مراكب صيد متهالكة. وتتمثل سياسة العصا الغليظة التي ينتهجها اليمين الإيطالي في ملف الهجرة، بحمل حكومات دول الضفة الجنوبية على اعتراض مراكب المهاجرين غير النظاميين في المياه الليبية واعتقالهم، تمهيدا لإعادتهم إلى بلدانهم الأصلية. وأطلق المعلقون الإيطاليون على هذه السياسة الجديدة عبارة «صفر تسامح»، ما يدل على أن السلطات الإيطالية لن تستثني أي مهاجر غير شرعي من إجراءاتها المتشددة.
وتخشى منظمات إنسانية عدة من أن يؤدي اعتماد قانون الهجرة الجديد إلى إعادة المهاجرين إلى معسكرات يتم احتجازهم فيها، رغما عن إرادتهم، ما يعرضهم للابتزاز وإساءة المعاملة. واعتبر عثمان البلبيسي رئيس بعثة المنظمة الدولية للهجرة في ليبيا، في تصريحات أدلى بها الأسبوع الماضي، أن «إعادة خفر السواحل الليبيين الناس (المهاجرين) إلى ليبيا مثير للريبة، إذ ينتهي بهم الحال في مراكز احتجاز». وسبق لمنظمات حقوقية دولية أن أعطت تفاصيل عن الاعتداءات وسوء المعاملة التي يلقاها المهاجرون غير النظاميين الذين يقعون بين أيدي الميليشيات، أو يُباعون أحيانا في إطار صفقات بين جماعات مسلحة تتحرك بحرية كاملة بسبب ضعف الدولة، التي لا تستطيع أن توصل أذرعها القضائية والأمنية والإدارية إلى جميع مناطق البلد.
تمويل وتدريب
أتى الوزير سالفيني إلى طرابلس برغبة جامحة في إقناع أركان المجلس الرئاسي والحكومة المنبثقة منه، بتنفيذ مذكرة التفاهم التي أبرمتها الحكومة الليبية المدعومة من الأمم المتحدة في فبراير الماضي مع الحكومة الإيطالية. وتعهد الجانب الإيطالي بناء على تلك المذكرة بتقديم أموال لمكافحة شبكات تهريب المهاجرين، بالاضافة للتعهد بتدريب خفر السواحل الليبيين. ودرب الاتحاد الأوروبي نحو 90 شخصا للعمل في حراسة السواحل الليبية، كما التزمت روما بتقديم عشرة زوارق دورية للسلطات الليبية، بُغية مساعدتها على احتواء موجات المهاجرين المتدفقة من الضفة الجنوبية للمتوسط. وفي مطلع العام الجاري وضع المجلس الأوروبي خطة لاحتواء تدفق المهاجرين في فصل الصيف، غير أنه أخفق في تنفيذها، على الرغم من أن سفن حراسة السواحل الأوروبية تتمركز للعام الثالث على التوالي، على مقربة من السواحل الليبية. وأفادت إحصاءات حديثة بأن 36 ألفا تم إنقاذهم في العام الماضي، بعدما كانوا على وشك الغرق.
غضب النيجر
ثمة عنصر جديد لا يُستبعد أن يؤثر في مجريات هذا الملف، ويتمثل في غضب الحكومة النيجرية، التي سبق أن وافقت على استقبال المهاجرين غير النظاميين، الذين يتم إبعادهم من ليبيا والجزائر، ثم عادت أخيرا وأعلنت أنها ضاقت ذرعا بهذا الدور، ربما لأن المكافأة التي يحصل عليها كبار المسؤولين فيها غير كافية. على أن التحدي المتنامي المُتمثل في زيادة تدفق المهاجرين غير النظاميين يطرح تحديا سكانيا، بما أن سكان القارة الإفريقية سيتضاعفون في 2050 ليصل عددهم إلى 2.5 مليار ساكن، أي ربع سكان الكوكب الأرضي. ومن الصعب بحسب الخبراء أن تُلاحق التنمية عجلة النمو السكاني، ما يؤدي إلى تزايد الفقر والتحريض على الهجرة. وقال مقرر اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا أحمد عبدالحكيم حمزة، إنه قلق من انتهاج بعض الدول الأوروبية سياسات تزيد من التضييق على اللاجئين والمهاجرين، التي من بينها الدعوة التي وجهها رئيس الوزراء المجري فكتور أوربان لبناء ما سماه «مدينة كبيرة للمهاجرين» على الساحل الليبي.
المحافظون الجدد في السلطة
تدل عودة أوربان بقوة إلى سدة الحكم في أعقاب الانتخابات المجرية الأخيرة وفوز أقصى اليمين الإيطالي لأول مرة بغالبية مكنته من حكم ثالث اقتصاد في أوروبا، على تنامي النزعات القومية والعنصرية. وكان أوربان قد حمل الليبيين مسؤولية تزايد المهاجرين غير النظاميين، وردت عليه حكومة الوفاق الليبية بالتشديد على ضرورة عقد مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة، تشارك فيه دول المصدر والعبور والمقصد، لمناقشة موضوع الهجرة غير النظامية. وحضت حكومة الوفاق على دعم دول المصدر من قبل الدول المتقدمة تكنولوجيا واقتصاديا من أجل إقامة مشاريع تنموية في دول المصدر، تضمن خلق فرص العمل لمواطني تلك الدول، ومساعدتها في وضع استراتيجيات تحقيق أهداف التنمية المستدامة لعام 2030 التي أقرتها الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة السنة الماضية. ويمكن القول إن الفترة الحالية هي الأشد وطأة على المهاجرين بصنفيهم الشرعي وغير النظامي، جراء المد الواسع للتيارات اليمينية المتشددة في أوروبا، التي تجعل من المزايدة والمغالاة في مسألة الهجرة سلاحها الأمضى في تقزيم غرمائها انتخابيا، وحشد الدعم الشعبي لأحزابها. والأرجح أن هذا الملف سيظل على مدى جيل آخر، أي إلى 2050، أحد محاور الصراع السياسي بين قوى اليمين وما تبقى من اليسار في أوروبا الغربية.
كاتب تونسي
رشيد خشانة