على وقع تسارع معارك تحرير الموصل والاقتراب من تصفية الجيوب الأخيرة التي يسيطر عليها تنظيم «داعش» الإرهابي، تفاجأ متابعو الحدث العراقي يوم 17 مارس الجاري بمقتل اكثر من 200 مدني ضحية قصف إحدى طائرات التحالف الدولي لمبنى في منطقة «الموصل الجديدة» في الساحل الايمن من الموصل، ما أثار الساسة السنة ودفعهم لمطالبة حكومة العبادي بإعلان الموصل مدينة منكوبة. تزامن ذلك مع تصريحات الزعيم الشيعي مقتدى الصدر التي أثارت ردود افعال متضاربة على مستوى الشارع والطبقة السياسية، فقد صرح الصدر في لقاء صحافي انه يرى وجوب حل الحشد الشعبي بعد النصر النهائي على «داعش». من جانب آخر صرح في خطاب له يوم الجمعة 24 مارس أمام عشرات الآلاف من مريديه في ساحة التحرير، وسط بغداد، بأنه مهدد بالاغتيال، فإن تعرض للقتل فإنه يطالب جماهيره بالاستمرار بمسيرتهم الاصلاحية من اجل العراق، مسيرتهم التي وصفها بأنها رافضة للفساد ورموزه.
وقد اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالتعليقات المتضاربة بشأن ما حدث في الموصل، حيث تجد ردود الفعل المتعاطفة، وهي عادة صادرة من وجهة النظر السنية التي تندد بالاستخفاف بأرواح المدنيين، ولا ترى في عملية تحرير الموصل إلا نصف القدح الفارغ، حيث يحمّلون القوات العسكرية العراقية المسؤولية عن قتل المدنيين وتدمير البنى التحتية في المدينة، ويطالبون بفتح تحقيق في الكارثة التي اودت بأعداد كبيرة من المدنيين، فترد عليهم وجهات نظر معاكسة، وتكون عادة متبناة ممن يتعاطف مع طروحات الساسة الشيعة، حيث ينظرون إلى نصف القدح الممتلئ، فالامر لا يعدو، من وجهة نظرهم، سوى حدث متوقع في معركة تشهد قتالا عنيفا مع عدو غير تقليدي مثل «داعش».
وقد يصل السجال الدائر بين وجهتي النظر حد إلقاء المسؤولية من كل طرف على الطرف الاخر، كما تجاوز الامر وسائل التواصل، ووصل إلى بعض التقارير الصحافية، التي أكدت أن الامر نتج عن تلغيم «داعش» للمنازل والسيارات المدنية المتوقفة في ازقة غرب الموصل الضيقة، ونتيجة ذلك ومع كل هجوم لقوات الجيش العراقي يقوم «داعش» بتفجير المباني والسيارات، ما يتسبب في وقوع الخسائر الكبيرة بين المدنيين، وهذا امر تنفيه تقارير الجانب الاخر التي تؤكد على مسؤولية الجانب العراقي الذي زود طيران التحالف بإحداثيات قصف غير دقيقة راح ضحيته المدنيون .
من جانبه حذر الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، من احتمالية أن تؤدي هزيمة «داعش» في الموصل لـ»إبادة جماعية» بالعراق، باشتباكات بين الجماعات الطائفية والعرقية، مرجحا أن تزداد الانقسامات بين المسلمين السنة والشيعة، وبين القوميات المكونة للشعب العراقي، حينما ينتهي العراقيون من مواجهة عدوهم المشترك. جاء ذلك في لقاء للسيد الصدر مع الصحافي جوناثان ستيل أجراه لموقع «ميديل إيست آي» قبل ايام، واشار الصدر قائلا «أريد تجنب هذا الأمر، وأنا فخور بالتنوع العراقي، إلا أن مخاوفي هي أننا قد نرى إبادة لبعض الجماعات الاثنية والطائفية».
وبحسب تقرير»ميدل إيست آي» فإن الصدر عبّر عن قلقه حيث قال: «إنه امر صعب، سيتم حل سرايا السلام، لكن القانون الذي صدر بشأن الحشد الشعبي سيجعل العراق تحت حكم المليشيات، وبناء عليه فنحن بحاجة إلى مواقف قوية من الحكومة لمقاومة هذا الأمر، ويجب أن يكون الأمن مسؤولية الجيش فقط».
وقد أشار الصدر إلى انه مع حل الحشد الشعبي، لكنه يتبنى فكرة انضمام أفراده للجيش والقوى الامنية. وهذا الامر كما هو معلوم ليس موقفا جديدا يتبناه الصدر حيث سبق له أن اعلن في 27 نوفمبر الماضي مبادرته في هذا الشأن، التي ذكر فيها «مراعاة للمصلحة الوطنية الملحة أضع مقترحات من الضروري مراعاتها في مسألة دمج الحشد الشعبي ضمن القوات الأمنية الرسمية، لكي نتلافى جميع المشاكل الطائفية والسياسية والأمنية.. أجد من المصلحة الأخذ بنظر الاعتبار تلك المقترحات، خصوصا بعد أن أقر الدمج برلمانيا».
لكن المتابع للشأن العراقي يعلم صعوبة مثل هذا الاجراء لاسباب عديدة، فالامر ليس كما يحب أن يصوره البعض؛ فصائل الحشد تكونت تلبية لفتوى مرجعية النجف للوقوف بوجه هجمات التنظيمات الارهابية، لذلك تستطيع المرجعية بعد زوال الخطر أن تصدر أمرها بحل هذه الفصائل. بالتأكيد هذا تبسيط مخل لامر معقد فيه استثمار إقليمي ودور فاعل للعديد من المليشيات والاحزاب والحركات السياسية في العراق وفي الجوار الاقليمي.
وفي اول رد فعل على تصريحات السيد الصدر جاء تصريح القیادي في الحشد الشعبي كريم النوري، الذي قال في حديث صحافي، إن «كل الدعوات والتصريحات التي تطرح لحل الحشد الشعبي تبقى مجرد وجھات نظر لا يمكن تطبیقھا على ارض الواقع، لأنھا ستصطدم بجدار القانون المقر بمجلس النواب، الذي صنف الحشد ضمن القوات الامنیة الرسمیة وحفظ جمیع حقوقه»، لافتا إلى أن «قانون الحشد اكبر من دعوات الغاء الھیئة». وأضاف «ھنالك توجه دولي واقلیمي يقف بالضد من الحشد الشعبي، كونه أفشل المخططات الرامیة إلى تقسیم العراق وتنفیذ اجنداتھم ومصالحھم، إلا انه لن يؤثر على الحشد، بل سیزيده قوة وإصرارا للثبات على موقفه». وتابع «القائد العام للقوات المسلحة حیدر العبادي ادلى بالرأي الحكومي المؤيد للحشد في المحافل الدولیة، آخرھا خلال اجتماعه مع المسؤولین الأمريكان في الولايات المتحدة وقد حسم كل الجدال الدائر وأغلق الباب أمام جمیع المحاولات».
بينما رأت كتلة المشروع العربي السياسية السنية بقيادة خميس الخنجر أن دعوة الصدر لحل ميليشيات الحشد الشعبي خطوة حكيمة، جاء ذلك في بيان صادر من المكتب السياسي للمشروع العربي، حيث ذكر البيان «أن دعوة الصدر لحل قوات الحشد الشعبي بعد الانتهاء من استعادة الموصل، فيها نظرة عميقة وبعد استراتيجي داعم لاستقرار مؤسسات الدولة وتقويتها، وتبني مدنية الدولة، وتجنب عسكرة المجتمع».
ومع تصاعد الأزمة قرر مقتدى الصدر تنظيم مظاهرة يوم 24 مارس الجاري في ساحة التحرير ليلقي على عشرات الالاف من مريديه خطبة قصيرة مقتضبة ذكر فيها أنه نتيجة التهديدات المتواصلة يتوقع أن يتم اغتياله، وطالبهم بالاستمرار في نضالهم من اجل العراق والقضاء على الفاسدين، كما طالب بتغيير المفوضية العليا للانتخابات وتعديل قانون الانتخابات، وإلا فانه سيطالب جماهيره بمقاطعة الانتخابات المقبلة. اثارت كلمات السيد الصدر موجة من الحزن المشوب بالسخط لدى مريديه، نتيجة العلاقة الخاصة التي تربطهم بزعامتهم الروحية والسياسية. وقد سرب أحمد عبد الحسين الناشط العراقي وأحد رموز الحراك المدني على صفحته على الفيسبوك خبرا عندما كتب عن الموضوع واصفا كلمة الصدر بأنها وصية ميت، وذكر عبد الحسين أن الامر لا يمكن أن يكون استثمارا سياسيا، كما حاول بعض الفرقاء السياسيين توصيفه، وقال إن السيد مقتدى الصدر تعرّض فعلاً للاغتيال أثناء عودته من زيارته الأولى للتحرير في طريقه إلى النجف، وأصيب بعض أفراد حمايته، حين انقلبت سيّارة من السيارات المرافقة له بعد إطلاق النار على موكبه. قلّة يعرفون هذا. لا الصدر ولا أحد من مقربيه شاء الإعلان عن ذلك. اذن الصدر معرّض فعلاً للاغتيال، لانه وضع نفسه بمواجهة أباطرة مالٍ وعصابات دولية وإقليمية تعمل على مشروع نهب العراق بمعونة دولة جارة ومباركة دول قريبة وبعيدة. وليس سراً أن هؤلاء مستعدون لارتكاب أي جرمٍ مهما كانت فظاعته لإدامة مشروعهم، خاصة إذا كان هذا الجرم مصحوباً بفتوى ممن يرونه واجب الطاعة. في اشارة إلى كتل التحالف الوطني الشيعي المدعومة ايرانيا.
وعلى وقع تصاعد الازمة، ومحاولات الاستثمار بدم الابرياء من مساكين السنة الذين اتخذهم «داعش» دروعا بشرية ليسقطوا ضحايا القتال المستعر، أو مساكين الشيعة الذين دفعوا انهرا من دمائهم لتحرير مدن العراق، دون أن يحصلوا على ابسط مستلزمات العيش الكريم، نجد امراء الحرب وبارونات السياسية الفاسدين الذين اعتاشوا على دماء المساكين من أبناء طوائفهم يسبحون في بحر امتيازاتهم التي حازوها عبر اكثر من عقد من الفساد غير المسبوق، فهل سيعي مساكيننا المعادلة الصعبة ويسعون للتخلص من كل هذا الجور الذي يستبيح دماءهم؟
كاتب عراقي
صادق الطائي