باريس ـ «القدس العربي»: تحمل الأعمال الرّوائية، الأدبيّة منها والسينمائية، في ذاتها الاحتمالات الممكنة لربطها بحياة المؤلّف الشّخصية، وذلك يعتمد أساساً على زمان ومكان الرّواية أو الفيلم، وكذلك يعتمد على بعض الأحداث المقترنة بحياة المؤلّف الشّخصية، قد يتقصّد المؤلّف ذلك ضمن ما يُعرف بأعمال أوتوبيوغرافيّة أو نصف-أوتوبيوغرافيّة (semiautobiographical)، وقد يستفيد المؤلّف ذاته من مسائل عاصرها، مكاناً وزماناً، لإنجاز فيلم أو رواية، من دون أن يتقصّد فيها أي نقل سِيَري، ومن دون أن يمرّ على حياته الشّخصيّة.
وفي كلا الحالتيْن، كوننا نحكي عن أعمال روائيّة وليست توثيقيّة، يُتاح للمؤلّف التغيير في كل ما يراه مناسباً، مضيفاً ومختصِراً تفاصيل عدّة، على أساس أنّ العمل إبداعي وليس علميّا، أعود هنا إلى توصيف الناقد والرّوائي الإيطالي امبرتو إيكو لذلك بأنّ العمل الإبداعي يختلف عن العلمي في أنّ الأوّل لا يروي قصصاً حقيقيّة بخلاف الثاني. لكن المسألة قد تختلف لدى القارئ/المشاهد، فأيّ عمل يقارب ظروف المؤلّف نفسها، زمانياً ومكانياً، وفيه شيء مّما يمكن ربطها بحياته الشّخصيّة، خاصة لدى القرّاء المقرّبين من المؤلّف، يُصبح العمل كلّه سيرة توثيقيّة، أوتوبيوغرافي، فيتم غالباً تلقّيه كعمل توثيقي/علميّ وليس إبداعيا معتمداً الخيال مع بعض العناصر الواقعيّة في حياة مؤلّفه.
وقد تمّ تداول مدى الخيال ومدى الواقع في الأعمال الإبداعيّة كثيراً، لميل العديد من المؤلّفين إلى تضمين واحد أو أكثر من أعمالهم، سيرتَهم الذّاتيّة وإن بأسلوب إبداعيّ وليس توثيقيا. نطرحُ هنا ثلاث حالات مختلفة في الشكل والمضمون لمسألة الخلط بين الأمريْن، ما تقصّده المؤلّف وما فسّره المتلقّي.
الأولى هي للمخرج الفرنسي فرانسوا تروفو. أخرج تروفو فيلمه الأوّل «الأربعمئة ضربة» عام 1959 وكان بداية سلسلة تضمّنت خمسة أفلام تروي بشكل إبداعي، أي يحوي الخيال والتأليف، السيرة الذّاتيّة لتروفو، وكان الفيلم الأوّل يحكي عن مرحلة المراهقة لدى المخرج. في الفيلم نرى أمّه تسيئ معاملته، ترسله ليعيش في بيت جدّته، تمضي الوقت مع زوجها، يتركانه في الأعياد وحيداً، وأخيراً يعرف أنّ زوجها ليس أباه البيولوجي. نشاهد ذلك في الفيلم ونقرأه في حياة فرانسوا تروفو الحقيقيّة. يُعرض الفيلم ويتسبّب بقطيعة بين تروفو وأهل والدته.
نشرت مجلّة «نيويوركر» الأمريكية في 29/7/2010 لقاء مع تروفو قالت بأنّه اللقاء الأخير الذي أجراه قبل وفاته، يقول فيه رداً على سؤال إن كان الفيلم سيرة ذاتيّة: نعم، ولكن جزئياً، كل ما أستطيع قوله هو أنّه لم يحتوِ على ما هو مُلفّق، ما لم يحصل معي شخصياً حصل مع أناس أعرفهم، مع أولاد بعمري، ومع أناس قرأت عنهم في الجريدة، إذن ليس ما في الفيلم خيالاً تاماً، لكنه لم يكن عمل سير- ذاتي بشكل كامل.
تُظهر إجابة تروفو المساحات الواسعة التي يمكن للعمل الإبداعي المعتمد على السيرة الذّاتية أن تسرح فيها، مع إضافات لا يعيب العمل أن تكون فيه وهي ما تعتمد على الخيال التّام أو حيوات آخرين، إن كانت ضمن الأحداث أم الشّخصيّات. وللمؤلّف الحرّية الكاملة لاستحضار ما يراه، فنّياً وأدبياً ودرامياً، مناسباً لتضمينه في عمله الإبداعي، لأنّ الحديث دائماً هو عن كتاب أو فيلم خرج كعمل روائيّ ليس التوثيق فيه، إن وجد، إلا عنصرا أُعيدت صياغته لخدمة العمل.
يحيلنا ذلك إلى الحالة الثانية وهي تخصّ امبرتو إيكو الذي يروي حادثة في كتابه «اعترافات روائي شاب» في فصله الثاني «مؤلّف، نص، مفسّرون»، يقول فيها بأنّ صديق طفولة لم يره منذ سنين كتب رسالة له بعد نشره روايته الثّانية «بندول فوكو» قائلاً: عزيزي امبرتو، لا أذكر بأنّي سبق وأخبرتك بقصّة عمّي وعمّتي، المثيرة للشفقة لكنّني أعتقد أنه من المعيب عليك أن تستخدمها في روايتك».
يقول إيكو بأنّه يذكر أنّه كتب شيئاً في روايته عن تشارلز وكاثرين، عمّ وعمّة بطل الرّواية، و «من الصّحيح أن أشخاصاً كهؤلاء كانوا فعلاً موجودين. لكن مع القليل من التغييرات، كنتُ أحكي عن قصّة طفولتي أنا وعن عمّي وعمّتي أنا، ولكن كان لهم طبعاً أسماء مختلفة». أرسل إيكو لصديقه قائلاً بأنّه كتب عن عمّه وعمّته هو، معلّقاً أن صديقه قد يكون تعرّف على بعض الأحداث التّي حصلت مع عمّيه هو، وأنّ في حالة الحرب آنذاك قد تتشابه القصص.
يقول إيكو أن صديقه، كقارئ تجريبي، سعى في الرواية لما هو في ذاكرته الشخصيّة بدل ما هو في الحكاية، ولم يكن يفسّر نصّ إيكو، بل كان يستخدمه، وأنّ استخدام نص بهذه الطريقة يعني التجوال فيه كما لو كان دفتر اليوميّات الخاص بالقارئ.
الحالة الأولى كانت فيلماً تمّ تلقّيه كنقل توثيقي للواقع ما نتج عنه مقاطعة عائليّة للمخرج. والثانية كانت رواية تمّ تلقّيها بإسقاط قصص القارئ الخاصّة عليها وبالتالي كنقل توثيقي لقصص القارئ المعترض على ذلك. الحالة الثالثة ستجمع كليهما، وإن بأسلوب كوميدي ساخر ميّز أفلام المخرج الأمريكي وودي ألِن. لعلّ الشخصيّة الأكثر تكراراً في أفلام ألن هي المؤلّف، وفي واحد من هذه الأفلام هو «تفكيك هاري» (1997) يطرح ألن في أكثر من مشهد مشاكل تواجه هاري بسبب رواية له يفضح فيها أسرار أقاربه. لغاية الكوميديا في الفيلم سنفهم أنّ هاري فعلاً كتب عن أقاربه وأنّه، خلافاً لإيكو وتروفو، لم يغيّر إلا في الأسماء وأبقى على التفاصيل كما هي، فاضحاً الأسرار، لينشأ عن ذلك مواجهات ومشاهد كوميديّة، ولعلّ ألن أفضل من ينقلها سينمائياً.
تدخل لوسي إلى بيت هاري غاضبة تحمل روايته قائلة: كيف أمكنك كتابة ذلك، هل أنت أناني جداً، لا يهمّك أبداً من تُدمّر… أخبرتَ كلّ قصّتنا، أختي هجرتني». يردّ «بالكاد اعتمدتُ على قصصنا». «أنا عشت معكَ وأعرف مدى اعتمادك هذا». تُخبره أنّ عائلتها عرفت من المقصود في الكتاب وصُدموا، وأنّهما اتُّهِما وهي أنكرت وأنّه الآن يأتي ويقرّ في كتابه الاّتهامات ويؤكّد الشكوك. وتُعدّد له الأحداث بالأسماء كما ذُكرت في الكتاب وقد فضحها كلّها، بما فيها من خيانات. وفي الفيلم يكون هاري على علاقة بلوسي وأختها في الوقت ذاته.
في مشهد آخر يزور هاري أختَه بعد انقطاعهما لسنين، وهي ماتزال حانقة عليه والسبب أنّه كما تقول، أراد أن يكتب عن زوجته السّابقة باحتقار ولكنّه كي يقوم بذلك أدخل عليها تفاصيل من حياة أخته ومواصفاتها. وصارت تعدّد له ما يدلّ عليها في الشخصيّة الروائيّة.
الخلط بين الرّوائي والتوثيقي هو ما قد ينتج عنه إشكالات كالتي كانت في الحالات الثلاث المذكورة، وتلقّي الرواية على أنّها وثيقة، أو الفن على أنّه علم، ومُحاكمة العمل ومؤلّفه على هذا الأساس قد يكون أسوأ ما قد يحصل للعمل، لأنّ القراءة/المشاهدة تكون قصديّة هنا، أي لغاية أخرى غير القراءة/المشاهدة، قد تكون النبش والتحقيق. فذلك، بكلمات إيكو، ليس سوء تفسير للنص بل استخدام له.
سليم البيك
مقال ثريّ بالمعلومات، يقوم على المنطق والاقناع، ويخلو من الحشو، يمكن لهذا المقال أن يتسع، وربما يصبح كتابًا.
بورك يراعك أستاذ سليم