لا صوت يعلو في الوجدان المصري الآن على صوت جمال عبد الناصر، وقد يبدو ذلك غريبا لأول وهلة، فقد انتقل الرجل إلى رحاب ربه قبل 46 سنة مضت، وجرى الانقلاب بالجملة على اختيارات ثورته بعد حرب اكتوبر 1973.
وفي احتفال الدولة الرسمي بالذكرى الثالثة للثلاثين من يونيو 2013، الذي أعدته وزارة الثقافة ودار الأوبرا، لم يكن من عمل فني واحد لا ينتمي إلى حقبة عبد الناصر، وكان وهج الغناء على المنصات استعادة واستدعاء لزمن عبد الناصر، وصدحت أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ عبر حناجر ذهبية لشبان وشابات موهوبين وموهوبات، وبدون أن يحس أحد بفوات الزمن، وبأن الأغاني ظهرت من خمسين سنة، لكنها بدت، وكأنها كتبت اليوم، وتعبر عن أحلام مصر وأشواقها إلى المستقبل، لا إلى ماض لم يكتمل أبدا.
أكثر من ذلك، بدا أن جمال عبد الناصر هو البطل الرمزي للثورة المصرية المعاصرة، من ميادين 25 يناير 2011، إلى ميادين 30 يونيو 2013، وبفيضان شعبي هادر، بدأ بعشرات الآلاف ظهر الثلاثاء 25 يناير، ثم تناسلت في عشرات الملايين مساء الأحد 30 يونيو، وبدت فيه صور جمال عبد الناصر كأنها التميمة الحارسة، فلم تظهر صورة زعيم مصري راحل في الميادين سوى صورة الرجل.
وفي موجات تلقائية متلاحقة، دفعت حتى جماعة الإخوان في ميادين يناير إلى مجاراة التيار الجارف، رغم ما هو معروف ومفهوم من عداوة الإخوان المزمنة لاسم وذكر جمال عبد الناصر، وكانت منصة الإخوان في ميدان التحرير تذيع أغاني عصر عبد الناصر، وبالذات أغنية عبد الحليم حافظ «صورة»، التي تدور معانيها حول التفاف الجماهيرالفريد من حول عبد الناصر، و»اللي حيطلع من الميدان / عمره ما حيبان في الصورة»، وفي كل الأحوال، كان منسوب الوجدان يصعد إلى عنان السماء، وسواء أذيعت أغاني عبد الناصر من منصة الإخوان، أو من منصة احتفال السيسي الأخير بالثلاثين من يونيو، وكان مجرد ذكر عبد الناصر في أغنية، أو الإشارة إليه في سياق أغاني عصر خلع القلب، كان ذلك كفيلا بتوليد فورة حماس، ودفع الأيدي الباردة إلى الالتهاب بالتصفيق، واستثارة الحنين الجارف إلى عظمة الوطن والشعب المصري، وربما كان ذلك ما دفع أشد خصوم عبد الناصر، وهم جماعة الإخوان، إلى التسليم بسطوته الوجدانية في قلوب المصريين وذاكرتهم الجماعية.
فالرئيس الإخوانى المعزول محمد مرسي، بدأ رحلته القصيرة في الحكم بعبارة شهيرة عن «الستينيات .. وما أدراك ما الستينيات»، وكان يقصد الإشارة بالطبع إلى عقيدته عن مظالم الإخوان في ستينيات عبد الناصر، ولم تمض سوى أسابيع، حتى كان مرسي نفسه يغير لهجته، ليس عن صدق كامل ولا ناقص بالطبع، بل مجاراة للشعور المصري الفياض، ويشيد باسم عبد الناصر في قمة طهران لدول عدم الانحياز، ثم لم يجد في الاحتفال اللاحق بعيد العمال، سوى أن يستعيد ذكر اسم عبد الناصر، وأن يعد بإحياء مصانع جمال عبد الناصر، وبعد زوال حكم مرسي، وتصاعد الحملة ضد تنظيم الإخوان، كان طبيعيا أن يستعاد اسم جمال عبد الناصر بقوة أكبر، وعلى المنابر الرسمية بعد الشعبية، فعبد الناصر لم يكن مجرد حاكم لمرحلة وعهد نهوض، بل عنوان على حلم مصر الثوري العابر للعهود.
والظاهرة لا تخطئها عين، وسواء كانت تحب عبد الناصر أو تكرهه، ولها أسبابها الموضوعية جدا فيما نعتقد، فسيرة عبد الناصر لم تكتمل أبدا، ولم يغلق القوس على نهايتها، فقد رحل عبد الناصر في عنفوان رجولته، ومات في سنته الثانية والخمسين، مات وهو يقاتل على جبهة الحلم، كانت مصر قد لحقت بها هزيمة كارثية في 1967، وتصور الكثيرون أنها نهاية عبد الناصر، لكن زعامة الرجل ولدت من جديد، وفي زحف شعبي تلقائي بالملايين، شهدته الشوارع والميادين في 9 و10 يونيو 1967، ونزل الرجل المقاتل على إرادة الناس، بعد أن كان قد أعلن قراره بالتنحي، وأعاد بناء جيش مصر العظيم من نقطة الصفر، وفي زمن قياسي لم يجاوز السنوات الثلاث، وما كاد الاستعداد لحرب الثأر يكتمل، حتى فاضت روح الرجل إلى بارئها، وكان مشهد جنازة عبد الناصر هو الأكبر والأعظم في مطلق التاريخ الإنساني، وكان اجتماع خمسة ملايين إنسان في يوم الحزن العظيم، وهتافهم التلقائي الذي لا ينسى، والمنحوت من طينة أشواق وعذاب المصريين، كان النشيد نشيجا، وكان مطلعه يقول «يا ناصر يا عود الفل / من بعدك حنشوف الذل»، كان النشيد نبوءة، وإن تأخرت مواعيد تحققها قليلا، وإلى ما بعد عبور جيش مصر الذي بناه جمال عبد الناصر لأكبر مانع مائي في التاريخ الحربي، وتحويله لاستحكامات خط بارليف ـ من وراء قناة السويس ـ إلى ذرات من غبار، وما كاد جيش المليون يجترح المعجزة، ويعبر إلى النصر الموعود، حتى كان ما كان بعد أن سكتت المدافع، وخانت السياسة نصر السلاح، وانقلب السادات على الحلم، وداس الذين هبروا على دماء الذين عبروا، ودخلت مصر في نفق الانحطاط التاريخي طويل الأمد، وإلى أن أفاق البلد من الغيبوبة التاريخية، وبدأت رحلة الثورة المصرية المعاصرة بعناوين 25 يناير و30 يونيو، التي لا تزال سيرتها متعثرة حتى تاريخه.
المحصلة إذن، أننا إزاء قصص ناقصة لم تكتمل إلى نهاياتها أبدا، فقد رحل عبد الناصر في قلب الدراما، وظلت القصة ناقصة، وتعثرت الثورة المصرية المعاصرة، ولم تبلغ نهاياتها بعد إلى النصر الموعود، والثورة الناقصة كما الحب الناقص، تثير الوجدان والخيال بأكثر مما تفعل القصص الواصلة إلى نهاياتها المكتملة، وعلى طريقة خلود دراما قصص حب «عنتر وعبلة» و»روميو وجولييت»، ثم أن قصة عبد الناصر، وقصة الثورة المصرية المعاصرة، ليستا قصتين منفصلتين، ولا متعارضتين كما تصورهما أوهام اليمين الديني والفلولي والليبرالي، إنهما القصة ذاتها موضوعيا، فقد ثار الناس، وخلعوا الرأس في حكم مبارك الطويل البليد الراكد، ثار الناس لسبب يتصل بعبد الناصر رأسا، فقد كان حكم المخلوع مبارك اتصالا لحكم السادات في انقلاباته الخيانية بعد حرب أكتوبر 1973، التي بدأت بحملة عاتية ضد اسم جمال عبد الناصر، نهض بها إعلام الرجعية والثورة المضادة، وشاركت فيها بحماس انتقامي جماعات اليمين الديني التي استدعاها السادات ونفخ في روحها، وخططت لها المخابرات المركزية الأمريكية، ومولتها فوائض البترو ـ دولار، وكانت الحملة أشبه بستار كثيف من الدخان، تقدمت من تحته قوى الثورة المضادة لتحتل مواقع السلطة، ولتذهب بمصر إلى احتلال أمريكي سياسي حل محل الاستعمار البريطاني القديم، وجرى تفكيك حصانة الدولة المصرية، واقتلاع الركائز الصناعية والإنتاجية، وشفط ثروة البلد، وإضعاف الجيش، وتحويل المجتمع إلى غابة أشباح، ومن وراء شعارات تعمية ركيكة عن السلام والديمقراطية والصحوة الإسلامية وحكم الرئيس المؤمن، وانتهى المصريون إلى مأساة الهجرتين، الهجرة في الجغرافيا بحثا عن الرزق الشحيح، والهجرة إلى التاريخ البعيد المختلط بظاهرة العودة الدينية المعممة، وحين حاولت مصر النهوض من أكفانها بالثورة الشعبية المعاصرة، فإنها واجهت وتواجه المخاطر ذاتها التي أقعدتها وانحطت بأحوالها لأربعين سنة خلت، فقد انتحل اليمين الديني ـ الرجعي بطبعه ومصالحه ـ صفة 25 يناير، وكما تفعل «الفلول» أو جماعة مبارك الاقتصادية والأمنية، وتنتحل صفة 30 يونيو، وفي غيبة حزب قادر للثورة اليتيمة، يصل بها إلى مواقع السلطة والتأثير والبرلمان، وهو ما يدفع المصريين من الفقراء والطبقات الوسطى، وهم أغلبية الشعب المصري بنسبة التسعين بالمئة، يدفعهم إلى طلب النجدة الوجدانية، وإلى البحث عن الصوت الأنقى والأصفى، والمعبر عن جوهر الأحلام الموؤدة، وهو ما يفسر استدعاء المصريين بكثافة لاسم وصور وأغاني عصر عبد الناصر، وجعله مستقرا ومستودعا لا ينفد إلهامه، وطاقة حفز لمواصلة الدراما إلى نهايات لم تكتب بعد.
٭ كاتب مصري
عبد الحليم قنديل
ربنا يرحمك بقى ياانچى ( مريم فخر الدين ) مش لو كنتى تركتى اخوكى فى الفيلم ( احمد مظهر ) يطخ ولاد الجناينى ( عصابة الضباط الاشرار ) مكانش دة بقى حالنا دلوقتى !
أكبر هزيمة تلقتها الأمة العربية عام 67كان زعيمها عبد الناصر، ولكن اليوم يتم استدعاء عبد الناصر لكي تتم مقارنته بالزعيم السيسي، واذا به يفقر الشعب ويلتقي مع عبد الناصر في ديكتاتوريته فقط، ووزير خارجيته يحل ضيفا في بيت رئيس وزراء اسرائيل ولا نسمع لأنصارعبد الناصر صوتا، ومع ذلك نقول أن عبد الناصر عزز لدى المواطن العربي العزة والكرامة وتبين فيما بعد أنها تقوم على اسس واهية سرعان ما انهارت وتلاشت مع موت الزعيم.
شكراً للاستاذ عبد القادر من الجزائر على مجهودة فى تجميع انجازات البكباشى عبناصر والتى يحاول عبفتاح السفاح جاهداً ان يتخطاها مجتمعة عن طريق انجاز واحد فقط هو جهاز الكفتة !
تسلم الأيادى وتحيا مسر!
الاخ محمد علي المارشال بيتان اتهم بالخيانة وحكم عليه بالاعدام لتعاونه مع النازية ضد بلاده رغم انه من ابطال تحرير فرنسا في الحرب الاولى