ضمن مشروعه، المخصص لقراءة الشعر العربي المعاصر، صدر لرسول بلاوي عن دار (قهوة) في إيران كتاب «إطلالات نقدية على الشعر الشعبي الأهوازي».
وغني عن القول إن الدعوة للكتابة بالمحكية (أو بغير الفصحى) انتشرت منذ منتصف القرن الماضي في لبنان ومصر. ويمكن تصنيف هذه الدعوات ضمن تيارين. الأول مناوئ لاستراتيجية الأدب الرسمي الذي يحرم السكان المحليين من حرية التواصل بلسانهم الخاص، ويفرض عليهم الخضوع لقواعد وقوانين اللسان العربي وبلاغته. وكانت تقف وراء ذلك خلافات أيديولوجية وسياسية، وعلى رأسها الدعوة لإحياء حضارات طواها النسيان في المشهد السياسي المعاصر. والثاني تيار اجتماعي بأبعاد سياسية. وأعتقد أن مصر لها الصدارة في هذا الباب، وتجد أمثلة على ذلك في «أخبار الأدب)» ومجلة «القاهرة». وكل النماذج تحمل سمات نعي الذات الجريحة والمكبوتة، التي تدفع ثمن فساد الحكام من رصيدها الحضاري والنفسي. ولكن بلاوي ينظر للشعر الشعبي وكأنه رديف للفصيح، ويتعامل معه على أنه سلوك فني له أسباب تاريخية، وفي مقدمتها الفتوحات الإسلامية وتوسع رقعة الدولة. فقد ترتب على ذلك دخول شعوب جديدة في الإسلام، لم يكن لديها الواعز الكافي للتمسك بقوالب وقواعد لغة تطورت في ظروف تخلف وتشتت وصدام مع الإنسان والطبيعة. ولذلك تطورت اللهجات وبلغت ذروتها في عصور الانحطاط وتبلور الهويات المحلية، أو بلغة محددة، في فترة ضعف المركز واشتداد ساعد الأقليات. ولم يجد بلاوي أمرا شائنا في ذلك، بالأخص في مجال الفنون والأدب. فـ»المعنى الحقيقي للبلاغة هو مطابقة الكلام لمقتضى الأحوال». ولذلك يمكنك القول: «إن الشعر الشعبي يمثل عمليا أدوات التواصل الفعلية وليس تقاليد الكتابة والنحو الموروثة». فأساليب التعبير عرضة للمتغيرات. وهي براغماتية، كما يقول جون ماكوري، لأن وضع الإنسان في العالم هو بالتأكيد جزء من المعنى.
يتألف الكتاب من سبعة فصول تتكلم عن الثيمات والرموز ودلالة التكرار وتوظيف التراث وعلامات التنقيط وسوى ذلك. ويبدأ بقراءة متأنية في ثيمة أساسية هي الوطن. وأعتقد أن لهذا الاختيار حساسياته، فالأهواز منطقة مختلف عليها، مثل إسكندرون وإنطاكية في سوريا. لكن صوت الوطنيين السوريين خافت بما يخص هذه المشكلة، بينما ذكريات النزاع مع العراق لا تزال جرحا مفتوحا في الأذهان. غير أنه كان عند بلاوي ما يكفي من الفطنة لرأب الصدع والالتفاف من حوله. فقد عمل على المماهاة بين المشاعر الوطنية والانتماء الديني، وأصبح الوطن بنظره مجالا حيويا تتلاقى عنده كل العواطف. ما له علاقة بالله وما له علاقة بقيصر.
وعلى هذا الأساس تجد أن معنى الوطن عند شاعر أهوازي، هو باسم الشموسي، مثل معناه عند شاعر عراقي مغترب هو يحيى السماوي. لقد آخى بلاوي بين الشاعرين. وكانت المساواة شبه تامة، مع أنهما يمثلان خطين: الأول التفكير الشعبي والثاني الكلاسيكية الجديدة. فقد كان ما يجمع بينهما أقوى مما يفرق. وهو اللغة المشتركة والدين الواحد.
لقد أغدق الشموسي، مثل السماوي، على الوطن صفات إيروسية، تدل على قوة الليبدو. وحشد كلاهما في سبيل ذلك مجموعة من المفردات الحسية المباشرة التي أسقطاها على مشاعر إنسانية نبيلة. فالشموسي أكثر من استخدم كلمات مثل أرض سمراء ، قاع، غيمة. في إشارة مباشرة لتكامل الجذور مع النهايات غير الحسية أو عاطفة السمو والتصعيد. أما السماوي فقد أسهب في إسقاط صفات عشقية على الأرض. فالرجل يحرث المرأة مثلما يحرث الفلاح أرضه، وهو أيضا يغتبط في أحضان النساء، مثلما يشعر بالطمأنينة في واحة أو بستان أشجار مثمرة. وكما يعتقد بلاوي بان علاقة الإنسان بوطنه لا تخلو من هذه العلاقات الحميمة، وربما هنا مجال تألق وتحليق الشاعر الشعبي، فهو رجل يتمتع بدرجة عالية من الفحولة، ومستعد دائما وأبدا للتضحية بروحه في سبيل وطنه ومعشوقته، كعادة العرب منذ أيام الجاهلية وحتى الآن. فحب النساء، كما تقول وين جين أويان، هو في أحد مستوياته حب للأمة أيضا. وفي مستوى لاحق هو سجال لا ينتهي مع المكونات التي تعمل من خلف اللغة.
والحديث عن الحب، كما تضيف لاحقا، هو مصدر من مصادر المعاناة الرومانسية، لأنها تضفي عليه طابع مجاز قومي سياسي يمكن أن يسمو ليصل إلى مستوى الحب الإلهي النظيف من الشوائب والأدران. وكما يقول بلاوي كانت تحدو الشعراء الشعبيين المصالح المشتركة بين الإنسان والأرض. ولقد كان الشعر الشعبي يختص بأسلوب الإنشاد ومخاطبة الحاكم، وفي فصل مسهب عن دلالة الألوان ما ييرهن على ذلك. فالألوان البسيطة، مثل المركبة، تحمل الرسالة النفسية والاجتماعية التي تروج لها الفنون الرسمية، وأي مقارنة بين تحليل بلاوي للشعر الشعبي وشعر الفصحى (ممثلا بتجربة السماوي) تقودنا للنتيجة نفسها. فكلاهما يعتبر الأبيض دليلا على النقاء، والأسود إشارة على الحزن. وكلاهما يرى أن الأخضر له إيحاءات دالة على النماء والازدهار.
وينسحب ذلك على بقية محاور الدراسة مثل، الرموز والتكرار وتوظيف التراث. فالرموز مثلا في التجربة الأهوازية، كما هي عند السماوي، تستأثر بقدر كبير من الاهتمام الواعي والهادف، ولا سيما الرموز الطبيعية التي تمثل علاقة شفافة بين الإنسان المحلي وبيئته، ومنها رموز الفلاح والنهر والنخلة إلخ. فقد كانت لها دلالات وإسقاطات عاطفية منها الكرامة والهوية والشموخ وعزة النفس. وهو ما تجد أكثر من قرينة ملموسة عليه في قصائد رمضان العكيلي من بين الأهوازيين، وفي قصائد السماوي العمودية ذات الشطرين ومنها، «نقوش على جذع نخلة» أو قصائد الومضة النثرية، على سبيل المثال مطولته «مناديل من حرير الكلمات».
وباعتقادي هنا أول مجال للاختلاف بين الشعر الشعبي والرسمي من جهة، والشعر المكتوب باللغة الدارجة من جهة مقابلة. فشعر العاميات يمثل انتفاضة ضد النظام، ويلعب على وتر الفروقات وتناحر المصالح. وخذ توظيف اللون على سبيل المثال، ف (العين الحمراء) عند شعراء العامية تكون مشحونة بالاحتجاج والقهر والتناحر. و(العين الزرقاء) تدل غالبا على النوايا الشريرة والإبليسية، وفي بعض النماذج على سياسة التوسع والاستعمار، كما يشير إبراهيم بدران وسلوى الخماش في سياق دراستهما عن الخــــرافة في العقلية العربية. وكذلك بالنسبة للتكــــرار، فهو في الشعر الفصيح والشعبي على حد سواء يدل على التأكيد والمبالغة، لكنه في شعر العامية يكون اضطراريا بسبب محدودية مفردات الإنسان وضرورة الابتعاد عن دواعي التكلف والمبالغة، وأيضا لأنه غائي له وظيفة محددة، وهي التجييش والتحشيد أو الإفــــراج عن العواطف المكبوتة.
لا يمكنني في النتيجة إلا أن أتفق مع رسول بلاوي في أن الشعر الشعبي، مثل الأدب الفصيح، يميل للإيجاز وتوظيف أساليب البلاغة المعروفة. وإذا كانت مفرداته من فصحى العامية أو من كلام العامة، فقد نظم الأندلسيون فن الزجل بلغة مجردة من الإعراب ومزدحمة بالكلمات المحلية والبربرية. وقد كان الزجل توأما للموشحات، مثلما الشعر الشعبي توأم للشعر الكلاسيكي. وغني عن القول إن من كتب الزجل كان يكتب بالفصحى .
إن الاستراتيجيات واحدة. والغاية منها، كما يقول بلاوي، نقلا عن مقدمة ابن خلدون: هو الابتعاد عن المألوف، وتوسيع مجال البلاغة، واستيعاب اللغات الدخيلة، وصهرها بلسان القرآن الكريم.
٭ كاتب سوري
صالح الرزوق