استطلاعات

من الأشياء الملازمة للعملية الكتابية، وتشبه الحوارات كثيرا، مسألة استطلاعات الرأي، أي أن يستفتى الكتاب والمبدعون عموما، وربما الشخصيات السياسية والرياضية أيضا، في أحداث تبدو مهمة، وأحداث أخرى لا تبدو مهمة، لكن يصيرها الاستطلاع، مهمة جدا.
الصحافي عادة يود أن يحصل على إجابات في موضوع واحد، يطرحه على الجميع، وينتظر، وبمتابعتي لبعض تلك الاستطلاعات، لطالما عثرت على الإجابة نفسها، تتكرر على ألسنة مبدعين مختلفين، أو ربما يجيب المستفتى، بإجابته نفسها على عدة استطلاعات للرأي، وصلته بشأن موضوع معين، وهذا ليس خطأ بالتأكيد، لأن القناعة تبدو واحدة، وبالتالي لن يتغير الرأي في تلك المسألة.
أنا لست ضد استطلاعات الرأي، وأجدها أحيانا وسيلة قوية لتغيير بعض الثوابت غير المجدية، خاصة في مجال الثقافة، حين يتم أخذ آراء عدد من المهتمين في جدواها، أو عدم جدواها، لكن قد تبدو تلك الاستطلاعات أحيانا صعبة، وتأخذ الكثير من الوقت، إن كانت في مسألة لا تهم من سئل عنها، ولا تقع ضمن اهتماماته، فتجده يبحث عن إجابة هنا وهناك، وغالبا لن تكون إجابته الخاصة، لأن المسألة برمتها، بعيدة عنه.
وقد ذكرت مرة أن سؤال شاعر عربي محلي، يكتب عن بيئته ولمجتمعه، عن رأيه في آلية منح جائزة نوبل للأدب، يعد مضيعة لوقت الشاعر، وغرسا له بلا ضرورة، في أحلام بعيدة جدا عن طموحه، وسؤال مثل هذا قد يدحرجه للحلم بتلك الجائزة، بعد أن يتعرف على قوانينها، وبالتالي يظل من المرابطين قريبا من أخبارها بلا ضرورة، أيضا. وقد استغربت مرة حين وصلني استطلاع للرأي من القسم الاقتصادي لإحدى الصحف، يسألني فيه المرسل عن رأيي في إنشاء المناطق الحرة، وإن كانت تساهم في رقي الاقتصاد أم لا؟
حقيقة لا أعرف أي شيء عن المناطق الحرة حتى الآن، ولا أعرف كيف تنشأ، وماذا تفعل؟ وكتبت ردا على الرسالة، بأنني ربما لم أكن المعني بذلك الاستطلاع من ضمن اقتصاديين، قطعا يهمهم الموضوع، لكني لم أتلق ردا، وانتهى الأمر، فقط بقي السؤال الذي لا بد منه، يرفرف في داخلي: هل يعي تماما، من يعدون مثل ذلك الاستطلاع، حدود كل شخص، يودون سؤاله؟
هل يعون أن الشاعر القدير في صنعته وموهبته، ليس قديرا أيضا في معرفة تخطيط المدن، ورصف الشوارع، وتنظيم الأسواق بحيث لا تخدش زينة المدينة؟ وأن السد الذي ستنشئه إثيوبيا على نهر النيل، له تبعات سلبية قصوى، على الحياة في بلدان حوض النيل؟ لكن كاتب الروايات لا يعرفها تماما، ولم يفكر في دراستها كما فعل خبراء الري والاقتصاد، هكذا. ولو أرسلنا استطلاعا في الرأي لعمال مجتهدين، يرصفون الشوارع ويشيدون البيوت، ويغرسون أعمدة الكهرباء، نسألهم عن رأيهم في الإرهاب وتبعاته، لما عرف أحد جوابا. وبالنسبة للمثقف نفسه، إن سئل عن الإرهاب الذي يضرب الدنيا طولا وعرضا منذ زمن ليس بالقليل، ولا يخفت صوته رغم كل المحاولات المرعبة لمكافحته، لما قدم الكثير في هذا الشأن، هي كلمات قليلة يرددها أي مثقف أو متعلم، عن ضرورة التربية منذ الصغر وتعليم الناشئة معنى الحب والتسامح ومراقبة العنف لدى الأطفال والسيطرة عليه مبكرا، وفي رأيي الشخصي، أن هذا كله لو حدث بالفعل، لن يكافح شظية واحدة من شظايا الإرهاب، لأن العنف سلوك جيني، لن يتوقف لأن أبا مسالما، احتضن طفله، وأفاض في شرح التعاليم السمحة، أو معلما في مدرسة ابتدائية، نهى عن المشادات اليومية بين التلاميذ بحزم وعاقبهم، فالأطفال الذين يحملون جينات العنف، وحدهم يتعلمون كل الأشياء الطيبة، نظريا، لكن دواخلهم تظل قنابل، تنتظر وقت انفجارها، وهكذا حين يشبون، تتجه أسماعهم للنداءات الداخلية، التي ترسم هلاك الآخر، لا احتضانه، وتنشأ تلك التنظيمات التي نكتب عن عدوانها التقارير والروايات وقصائد الشعر المطولة، ونصور ما نعرفه، أفلاما وثائقية، وروائية، ولا ينتهي نشاطها أبدا.
بالنسبة للثقافة، أو الكتابة، ومن الأسئلة التي تحتل مكانا مميزا في استطلاعات الرأي، مسألة الجوائز الأدبية، فهذا الاستطلاع، طرح ويطرح باستمرار، في أي وقت تعلن فيه نتيجة مسابقة، أو تخرج قائمة من القوائم، كما أنه، أي موضوع الجوائز عندنا في السنوات الأخيرة، بات محورا للمقالات الثقافية والتقارير الإخبارية التي يصيغها المحررون، وينشرونها في صحف ربما تكلفهم، أو لا تكلفهم بتلك التقارير، وحقيقة لا أود التقليل من شأن استطلاع للرأي يسأل مثلا عن أهمية جائزة البوكر للأدب العربي؟ وهل تبدو قيمتها المالية مناسبة؟ والسؤال نفسه عن جائزة كتارا، وجائزة العويس، وجائزة الشيخ زايد، وكل تلك الجوائز التي يبدو بعضها مزركشا ولامعا، وبعضها لا نعرف عنه أي شيء، ونفاجأ حين يكتب أحدهم في موقع للتواصل: باركوا لي، حصلت على جائزة كذا.
قلت إنني لا أريد التقليل من شأن استطلاع كهذا، لكن أيضا الإجابة أو الإجابات المستخلصة من كثيرين، يتم سؤالهم، لن تجدي شيئا، فلن تتغير تفاصيل تلك الجوائز، إن مدحناها بسخاء أو أسهبنا في وصف سلبيات لها، لن تصبح البوكر مثلا، مسكينة، وتنقاد لحالمين يودون الحصول عليها، لأننا قلنا، إنها لا تحقق طموح الكثيرين، ولن تسهل العويس قليلا من آليات الترشح لها، بحيث تمنح لمبدع عن أعمال معروفة قدمها، بدلا من شحن عشرات الكتب إلى عنوانها. الحديث إذن بلا جدوى، ويصبح مجرد حديث فقط.
أيضا وبمناسبة العام الجديد، يأتي استطلاع سنوي عن أفضل الكتب التي قرأها أحدهم في عامه الماضي، وهذا استطلاع جيد، إن أخذ بجدية لأنه يلفت الأنظار لكتب ربما كانت فعلا جيدة، ولم ينتبه إليها كثيرون، وأزعم أن قراءات بعض الزملاء، التي عثرت عليها في استطلاعات هذا العام، لفتت نظري إلى أعمال، لم تكن من ضمن خطة قراءاتي، وكانت أعمالا جيدة. فقط يصبح هذا الاستطلاع أيضا بلا جدوى حين نتحدث عن أعمال الأصدقاء بحب، لأنهم أصدقاء، ولا نأتي بذكر أعمال من هم بعيدون عنا، رغم ما تستحقه.

٭ كاتب سودانيأ

استطلاعات

أمير تاج السر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية