يعيد «مشروع قانون استعادة الجنسية اللبنانية» الإعتبار لـ»قوامية» مسألة «المسافة المجتمعية» الإسلامية – المسيحية في لبنان على المسألة «المذهبية الإجتماعية» السنية – الشيعية فيه. إنّ أخدوداً لا يجبّ آخر.
في السنوات الماضية، بدا المسيحيون، في مرحلة ما بعد الجلاء السوري، منقسمين بين فئة منهم منخرطة في ائتلاف مختلط بقيادة شيعية، وبين فئة منهم منخرطة في ائتلاف مختلط بقيادة سنية، مع بقاء شعبية العماد ميشال عون الأبرز مسيحياً.. ولو تراجعت.
ما حصل لاحقاً، ان الزعامة السنية المعتدلة ضعفت، ولم تكن أصلاً تملك القدرة على مجاراة «حزب الله» في العرض الذي أمّنه، وهو الموافقة على مشروع «القانون الأرثوذكسي» عام 2013، الذي يعطي لكل طائفة، مأخوذة كدائرة واحدة، حق انتخاب نوابها على حدة، وبالنظام النسبي لاحتساب عدد المقاعد. ظهر آنذاك أن عين الحزب «مليانة» ومستعد للامتناع عن مقاسمة المسيحيين مقاعدهم، في حين ان اعتماد النظام النسبي سيمكنه عملياً من اقتطاع نسبة مقاعد لحلفائه، أو لأخصام «تيار المستقبل»، في الوسط السنّي.
أدّى الانقسام الوطني على «القانون الأرثوذكسي»، معطوفاً على الاجماع الوطني على عدم العودة إلى ما قبله (قانون الستين، الذي يعتمد الأقضية كدوائر انتخابية مختلطة طائفياً مع نظام أكثري)، إلى تعطيل اجراء الاستحقاق الانتخابي في موعده، ثم التمديد الذاتي مرّتين للمجلس النيابي، المرة الأولى كي ينتخب رئيساً ويعد قانوناً انتخابياً، والمرة الثانية لرسوبه في الإمتحانين.
بالتوازي، أطلق الانشطار على خلفية «القانون الأرثوذكسي» على تجربة التحالف الجبهوي الإسلامي المسيحي في «14 آذار». لاحقاً، وعشية الشغور الرئاسي، وفي مقابل قنوات التواصل بين الرئيس سعد الحريري والعماد ميشال عون، سيأتي ترشيح الدكتور سمير جعجع لنفسه لرئاسة الجمهورية ليلزم «قوى 14 آذار» لاحياء نفسها جزئياً، بالإجماع على دعم ترشيحه، أي بوضع حدود على المدى الذي يمكن أن يبلغ التواصل بين عون والحريري، وهو ما سيتماشى لاحقاً، مع الموقف السعودي الرافض تماماً لأي بحث في صلاحية عون للرئاسة. بيد أنّ الإشتراك في مناقضة سياسات «حزب الله» في الداخل والإقليم، وفي الانحياز للسياسة السعودية في المنطقة، زائد الاجماع على دعم ترشيح جعجع للرئاسة، لم ينتج عنه «احياء جديد» لما تحلّل وقت الاختلاف على «القانون الأرثوذكسي». الانقسام الإسلامي – المسيحي في «ثورة الأرز» التي تطرح نفسها أساساً كحركة الثنائية الإسلامية المسيحية بامتياز كان انقساماً منهياً لحقبة معينة من تاريخ العمل الجبهوي في البلد. سمح ذلك لاحقاً، للـ»القوات» بموقف أكثر صلابة تجاه «حزب الله» باعتبارها المشروع النووي الإيراني خطراً استراتيجياً على الأمن الوطني اللبناني، وبعدم حاجتها لأي تنسيق لوجستي من أي نوع مع الحزب، خصوصاً أنّها الطرف البرلماني الوحيد خارج الحكومة حالياً. وفي الوقت نفسه، بـ»تقليص الجبهة» في الداخل المسيحي، ما نتجت عنه وثيقة «اعلان النيات» بين «القوات» و»التيار الوطني الحرّ» التي سيتفرّع عنها تحريك مسألة استعادة الجنسية، واقامة العلاقة التلازمية بين هذه المسألة وبين مشروع القانون الانتخابي العتيد، وصولاً إلى محاولة تسويق هذه «الإستعادة» ضمن فلسفة «تشريع الضرورة» التي تحاول أن تتجاوز المبدأ الدستوري الذي لا يؤجّل أي تشريع نيابي إلى ما بعد ممارسة النواب لواجبهم الانتخابي لرئيس الجمهورية، ووضع حدّ لشغور هذا المنصب منذ أكثر من عام ونصف.
قانون استعادة الجنسية يرمي ببساطة، بحسب من يتحرّك لتشريعه، إلى زيادة نسبة عدد المسيحيين من مجموع عدد المواطنين، وبالتالي من مجموع عدد الناخبين في لبنان، كونه يسمح بأن يستفيد منه من «كان متواجداً أو أحد أصوله لأبيه أو أقاربه لأبيه حتى الدرجة الرابعة على الأراضي اللبنانية كما يثبته احصاء 1921». ردّات الفعل على تحريك هذا المشروع تراوحت بين اظهار انتفاء الطابع الاستثنائي لتشريعه الآن، وقبل انتخاب رئيس، او انتفاء صلة الربط بينه وبين مشروع قانون الانتخاب، وبين اظهار طابعه النافر طائفياً، كونه يريد حلّ مشكلة التفوق العددي الإسلامي باستحضار الدياسبورا اللبنانية ذات الغلبة المسيحية، وبين من أراد نصح المسيحيين بالعدول عن مثل هذه المقاربة، لأنّ طالبي التجنّس من المسلمين القادرين على الاستفادة من هذا القانون ستزيد عملياً على طالبي التجنّس الأقل منهم عدداً بين المسيحيين المتحدّرين من أصل لبناني والأكثر اندماجاً في مجتمعاتهم الحالية، والأكثر انقطاعاً عن مجتمع أجدادهم. كما كان ملفتاً الاعتراض على مشروع «الاستعادة» من زاوية أنه بحصره المستفيدين منه من جهة المتحدّرين من جهة الأب، فإنه يكرّس التمييز التشريعي ضدّ المرأة اللبنانية، المحجوب عنها حق توريث الجنسية لأولادها، وهنا أيضاً، كي لا تقلّ نسبة المسيحيين أكثر.
لكل من هذه الاعتراضات على المشروع حيثيته، لكن المشكلة تبدأ بحكم القيمة الذي يعتبر أنّ الكلام عن النسب الديموغرافية بين الطوائف الدينية هو بحدّ ذاته «عيب اجتماعي»، ناهيك عن الرياء الذي يتظاهر بأنه «أوقفنا العدّ». هذه المكابرة لا تسمح أبداً بترشيد المقاربات للمعطيات الديموغرافية، وكذلك هو الأمر بالنسبة لمن يرى أنّ «المعطيات الديموغرافية» تهطل هكذا من السماء، أو هي صنيعة تفاوت بيولوجي خصوبي ما، فيتعجب بعد ذلك أن تسعى الجماعات إلى ارتياد سبل تحسين «صورتها الديموغرافية المتخيلة»، سواء بحيلة مقنعة أو بحيلة مجوّفة.
يشكّل المسيحيّون في لبنان حالياً 43٪ على لوائح الشطب الانتخابية «النظرية»، وثلث حملة الجنسية اللبنانية من القاطنين. نسبتهم من مجموع القاطنين حالياً، لبنانيين ومهاجرين ولاجئين على الأرض اللبنانية ستكون أقل بكثير مع وجود نصف مليون فلسطيني ومليون وثلث المليون سوري. فاذا أضفنا على كل هذا، اضمحلال الوجود المسيحي في بلدان الشرق الأدنى، وتركّز الوجود المسيحي في العالم العربي أكثر فأكثر حول جماعتين، هما موارنة لبنان وأقباط مصر، يصير استهجان الهاجس الديموغرافيّ أكثر من بديهيّ.
أن يطمئن المسلمُ المسيحيّ في لبنان بأنّه «أوقفنا العدّ» فهذه مجاملة حسنة، لكنها لم تنفع ولن تنفع في تبديد الهاجس – أحياناً ستفسر عن العكس تماماً. أن يجابُ على الهاجس الديموغرافي بالتداعي إلى «دولة مدنية» فهذا أشبه بذرّ الرماد في العيون. اختزال الانتماءات الدينية إلى مجرد انتماءات فردية ومنزلية هو أمر عبثي في مجتمعات متعدّدة دينياً. أن تقول للتعددية الدينية اذهبي لتجلس تعددية سياسية غريبة عنك مكانك، فهذا هو العقم الفكري عينه. صحيح أن التعددية السياسية ينبغي ان لا تبقى مجرد انعكاس بليد للتعددية الدينية، لكن افتراض ان تعددية يجب أن تقصي الأخرى إلى شأن محض شخصي أو منزلي هو افتراض عنده مشكلة مع «تعدد التعددية».
هذه التعددية لا تختزل في مسائل العدد، وتنظر إلى العدد، والأعداد، بأساليب ومناحي شتى. يفترض. لكن أن يكابر، باسم صيانة التعددية على الاختلاف في العدد، أو أن يكابر، باسم مرجعية العدد، على تقريب الهوة بين الأعداد بفضل التعددية، فهذا لا يجدي اصلاحاً للانقسام المجتمعي في الحالتين.
في لبنان اليوم هناك مشكلة مذهبية محتقنة سنية شيعية كما في معظم بلدان الاقليم حيث ثمة سنّة وشيعة. لكن أيضاً هناك مسألة «مجتمعية»: لبنان المسيحي، ولبنان المسلم. تحالفات العقد السابق بدت تتجاوز «فوقياً» هذه القسمة المجتمعية. بقي أنّها قسمة يرسخها الهاجس الديموغرافي، ويرسّخها ايضاً التفاوت في الجغرافيا السكانية: بين منحسر ترابي مسيحي متصل ببعضه البعض، ووسط خارطة البلد، وبين مدى ترابي إسلامي منقسم مذهبياً فيما بينهم، بالشكل الذي يجعل المناطق المحض شيعية، او المحض سنية، تحتاج إلى «معابر آمنة» خارجها، للتواصل فيما بينها. الديموغرافيا تضغط على المسيحيين، والجغرافيا السكانية تحفظ لهم مقداراً من الطاقة والجَلَد. في الوقت نفسه، التفكير في طرائق عيش هذه الجغرافيا السكانية التي حافظوا عليها، بأنسب شروط ثقافية واجتماعية وبيئية ممكنة، لا يزال ثانوياً في اهتمامات قادتهم، الدينيين والسياسيين، قياساً على اهتمامهم في ايجاد حلّ حسابيّ للمشكلة الديموغرافية: رفع العدد بالدياسبورا المشتهاة، في بلد لم يتح بعد حق انتخاب نوابه من خارج البلد.
بفصل سؤال الديموغرافيا وجوابها عن الجغرافيا السكانية، سيتحول الجواب الديموغرافي (تكبير الحجم بمناداة الدياسبورا) إلى مسألة هوية سجالية ليس أكثر: اعادة طرح السؤال «من اللبناني؟» من اللبناني الأصيل؟ الأصلي؟ هل هو الجبل لبناني؟ هل هو الماروني؟
بقاء كرسي الرئاسة في الموارنة كان يضمن اجابة على سؤال الهوية هذا، الذي يحبس هلعاً. اللبناني الأول ماروني، والمستحسن جبل لبناني أيضاً. أما ولم يعد ثمّة لبناني أوّل، وليس ثمة مجال جديّ واقعي لرفع نسبة المسيحيين من مجموع القاطنين أو المواطنين على حدّ سواء، فيصار عندها إلى تحريك السؤال «من اللبناني – درجة اولى»؟
يلتزم لبنان بقانون جنسية مركب. تنتقل الجنسية بـ»الدم» انما نسبة إلى من كان موجوداً على «الأرض» نفسها حتى زمن معين. هذه التركيبة هشة لكنها مراوغة، ومراوغتها على جانب كبير من البراعة. «الأرض» قد تكبر أو تصغر، و»الدم» قد يُستنسب كذلك. في الحالتين، تبرز هشاشة العقد الاجتماعي الذي أشرف عليه الفرنسيون في عشرينيات القرن الماضي، ويبرز في الوقت نفسه أنه أهم بكثير في تشكيله لـ»اللانسق» اللبناني من ميثاقي 1943 واتفاق الطائف.
تنتقل الجنسية بالأب، انما الأرض نفسها هي الأم. الأرض نفسها أرضان: لبنان الصغير، لبنان الكبير. الدم نفسه هو دم بيو-روحي: مشروع القانون الجديد يعتبر «القيود في سجلات الطوائف الدينية المعترف بها» كافية لـ»استرجاع الجنسية» بعد رابع جيل.
لا يمكن أن يعتمد لبنان قانون الدم بشكل مطلق، إلا إذا حدث مثلاً ان أقرّ للثلاثة ملايين ماروني الحق في الجنسية اللبنانية بمجرّد ابراز اوراق المعمودية، وسواء كانوا موارنة حلب أو قبرص أو المكسيك أو البرازيل. في غياب مثل هذه الرابطة تكون الجنسية متوارثة بالدم من دون ان يكون الدم محدّداً برابطة اثنية منبعية، كما هو الحال في المانيا مثلاً.
لا يمكنه أن يعتمد قانون الأرض بشكل مطلق أيضاً. فالأرض تزحل. لبنان ما قبل الحرب كان لا يزال لبنان «جبل لبنان زائد بيروت» في مقابل تطريف الأطراف واستقبال نازحيها في الفاصل بين بيروت وجبل لبنان. أما لبنان ما بعد الحرب، فعمّق الاشكال المسيحي الإسلامي بقانون التجنيس لعام 1994، الذي يعتبر الرأي الغالب عند المسيحيين ان تفكيك أثره السلبي يكون ببث الجنسية اللبنانية في المهاجر. المفارقة أنه هاجس القاطنين لا هاجس المهاجرين والمتحدّرين. في المقابل، المكابرة على حق القاطنين في «القلق الديموغرافي» أيضاً في غير محلّها. الرطانة اليسارو-علمانية الجاهزة على الدوام لاعتبار كل حديث عن نسب الطوائف «عيباً اجتماعية» و«عنصرية» هي «تنوير عقيم».
وسام سعادة