استعادة ماضيها البهي والشقي

حجم الخط
2

 

بمرور الأزمنة وغروبها لتصبح جزءاً من الماضي، يغدو عقل المرء حافظة ومخزناً للذكريات، هنا الذكرى ستتعتق وتغدو كقطعة كريستال، كلما تقادمت بانت لمعتها، وتنغمَّت رنتها، كون الذاكرة التي تلاطم فيها موج الأيام والسنوات والعقود بكل تفاصيلها الأنثروبولوجية، الحياتية والوجودية والمجتمعية، ستصفو، وتنفض عنها كدر الفائت والغابر والمنطوي، وتجلو بصفائها وكِبَرِها الوقت، بكل دقائقه اليومية، لتعمل متربِّصة، بما مرّ ويمرُّ بها. منفتحة ستكون الذاكرة وعاملة في الوقت عينه، على عامل التذكر والإبحار في السنين المواضي، بكل ما تخلف وانزوى وأمسى ماضياً، هذا الذي سيكون على الصعيد البايولوجي شيئا متبلوراً ومتماهياً مع دواخلنا وأعماقنا، شيئاً يعلق في المشاعر والأحاسيس والهواجس، ليكوننا ويشكل عالمنا كلياً، منذ البداءات الأولى، منذ البكوريات وحتى آخر تفصيل في حياتنا من مرحلة الخواتيم المشرفة على النهاية والقدَر المُحتَّم .
في سياق هذه العوامل الإيكولوجية وفي أفق منظورها البيئوي الحافل في التبييء، الزماني والمكاني، وعلى أرض الطفولة، وفي أنسقة تشكلها الابتدائي داخل محيطها العراقي، تكتب بلقيس شرارة هذه المذكرات الجذابة والبهيجة، المؤسية والحزينة في آن، لتكشف كل شيء، عبر أفق طفولتها والصَّبوات التي رافقتها، وهي في مرحلة الصبا والمراهقة، كل شيء حولها، البيت، والعائلة، والنسب، والترحُّل، والهجرة، مسلطة الضوء عبر قلمها المسترسل بتلقائية، وذكاء وعفوية وتبصّر ممنهج ومدروس، على كل حادثة وواقعة وتفصيل صغير، فهي أي الكاتبة، قد ألمَّتْ بالعلوم السوسيولوجية والأنثروبولوجية، ودرَستها ودرّستها، في أرقى المدارس، وأشهر الجامعات العراقية والعالمية، ونالت عليها الشهادات العليا، لتكتب بطريقة سلسة وعلمية ودراية مفاهيمية، هذه الذكريات، مستهدفة بذلك الوضوح والتسلسل الكرونولوجي لحياتها وحياة من زاملها ورافقها، حياة الأب اللبناني الجنوبي، وحياة الأم اللبنانية أيضاً والجنوبية كذلك، وحياة زوجها رفعة الجادرجي، وحياة عائلته الشهيرة، تلك العائلة البغدادية الموسرة، الضاربة في نشأة التكوين الأولي للدولة العراقية، حياة صداقاتها مع العوائل الأخرى، السفر الدائم لكليهما، لبلدان تكاد لا تحصى، تمتْ زيارتها من قبلهما، هي ورفعة، عبر سيل من الدعوات التي لا تنتهي لمعماريٍّ ومهندس ومُصمِّم ومُخطط شهير، حصد جوائز عراقية وعربية وعالمية، نظير عمله الإبداعي، المبتكر والمستكشف والباحث في الفنون الثقافية والمعرفية، هذا المعماري الذي استطاع هو وصحبه، تأسيس فلسفة نظرية علمية للعمارة العراقية أولاً، والعربية ثانياً، والعالمية ثالثا. فلرفعة الجادرجي بصمته الخاصة التي تركها في كل مكان ومحفل وندوة وأمسية ومهرجان، محتفياً عبر بصيرته الجمالية ونظرياته الهندسية، بالطراز الجديد والملهم للعمارة العالمية، ذات الوسم الحداثي المبني وفق التحوّلات الجوهرية التي مست حقول الأدب والفن والمعرفة بشكل عام، وحقل الشعر الحديث، والرواية المختلفة، والرسم الجديد، والمسرح الطليعي، والعمارة المعاصرة. فالبنَّاء أصبح مهندساً، ودكتوراً يحمل فلسفة ونظرة ونظرية جديدة للبناء والمعمار والتصميم الهندسي الممتزج بروح العصر وحداثته المطلقة التي انتهت بعصر وطرز ما بعد الحداثة .
من هنا يحفل الكتاب بأسماء عراقية فنية وأدبية وعلمية وحتى لغوية، كثيرة ومختلفة، ولكل شخصية في الكتاب، دورها الخاص وشأنها المميز وحقلها الذي تعمل فيه وتُبشِّر به، وكل هؤلاء يلتقون مع النخبة الجمالية العربية والأجنبية، يتباحثون ويتجادلون ويكتبون وينشرون ويبشِّرون بمخططاتهم ونظرياتهم وفلسفتهم الفنية. انه عالم مفتوح على التواصل الاستاتيكي في كل شأن من شؤون هذه الفنون المتعدِّدة، فهناك بيوتات وندوات وجلسات أسبوعية خميسية وأربعائية للشعراء والفنانين والمصمِّمين والمهندسين الرفيعين، الميّالين إلى الاكتشاف والتجديد، بغية التلاقح الجمالي، إذ يلتقون جميعاً حول مائدة واحدة، الشاعر والرسام والمهندس المعماري، والناقد الأدبي والروائي. فالجلسات حينما كانت تعقد في بيوت العوائل البغدادية الراقية، كان يتنادى إليها الشعراء بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعاتكة وهبي الخزرجي وجبرا إبراهيم جبرا وكاظم جواد وزوجته الناقدة سولافة حجاوي، وبلند الحيدري وزوجته التشكيلية دلال المفتي، والطبيب النفسي علي كمال، وكاتب أدب الرحلات ناجي جواد الساعاتي، مع المعماريين رفعة الجادرجي وقحطان المدفعي وعبد الله إحسان كامل، والرسامين محمود صبري وقتيبة الشيخ نوري وجواد سليم ونزيهة سليم وفايق حسن وحافظ الدروبي واسماعيل الشيخلي، وزوجاتهم الأجنبيات، والمسرحيين جعفر علي وحقي الشبلي وابراهيم جلال، على سبيل المثال لا الحصر، لذا فالكتاب يعجُّ بأسماء عالمية كانت تقطن بغداد من مدرِّسين ومدرِّسات، مثل البريطاني الناقد ديزموند ستيوارت، وأخرى فرنسية في كلية الآداب، هذا ناهيك عن مدرسي الاقتصاد، والفنون الجميلة، والمشرفين على المكتبات وفهرسة الكتب.
تستعيد بلقيس شرارة في الفصل الأول طفولتها في النجف، بدءاً من سن الثالثة فما فوق، يوم أصيبت بالجدري هي وشقيقتها، فالعائلة تتكوَّن من ثلاث إناث وذكر. تتذكر بلقيس بين الرابعة والخامسة، يوم ذهابها إلى لبنان، فهي لبنانية الأم والأب، ووالدها جاء لغرض الدراسة الفقهية في مدينة النجف، فتصف ذلك الصيف في الجبل، وبيت جدها المتكوِّن من ثلاثة بيوت، وتصف الحياة الهانئة والبريئة والجميلة في جبل لبنان، والفواكه المزروعة في بستان جدِّها، من تين ومشمش وعنب، وغيرها مما يجود به مناخ الجبل من الأطايب، وتصف أيضاً عذاب الرحلة في الباص القادم من بيروت إلى حلب، ومن ثم من حلب إلى العاصمة بغداد، وبعد ذلك الذهاب إلى النجف، لتصاب أختها حياة، بعد وقت قليل، بمرض التيفوئيد .
بعد إكمال دراسة والدها يتم تعيِّينه في مدينة الناصرية، مُعلماً في مدارسها، فتنتقل العائلة إلى هناك، لتقضِّي عاماً كاملاً في الجنوب، وبعدها يُنقل الوالد محمد شرارة الذي تخلى عن جبَّته الدينية وارتدى زيَّ الأفندية إلى بابل، كونه اعتنق اليسارية التي شاعت في تلك الفترة في مدن مثل النجف وكربلاء. وكما حصل للمفكر حسين مروة الذي نزع العمامة النجفية وانخرط في الفكر الشيوعي، نُقل محمد شرارة إلى محافظة بابل، وفي بابل ستكتشف بلقيس السينما، من خلال عمِّها مرتضى الذي كان صديقاً لصاحب السينما، فكانت في تلك السن وهي لم تبلغ بعد المراهقة، تذهب مع اختها مريم إلى السينما لتشاهدا الأفلام العربية والهندية والأجنبية.
تتوسَّع بلقيس شرارة في مذكراتها الشخصية التي بدت لي سيرة ذاتية، لها ولزوجها رفعة ولأهله وأهلها، متوغِّلة في السرود المحبَّبة لمدينة بغداد وزمنها في مرحلة نهاية الأربعينيّات، ثم مرحلة الخمسينيّات، حيث سكن الوالد الجديد في منطقة الرستمية، في دار واسعة محاطة ببستان، كما كانت عليه البيوت البغدادية حينذاك، متدرِّجة في سردها عبر سلسلة الزمن الذي ينطوي ويمضي، لتبدأ مرحلة تعليمها في الثانوية المركزية في بغداد، تلك الثانوية الجامعة للطبقات الغنية والوسطى، فتسترد بسلاسة وطلاقة تعبيرية مشرقة، حياتها الجديدة في دارهم الصغيرة في منطقة الأعظمية، وتسلط المزيد من النور على علاقة عائلتها بعائلة حسين مروة الذي كان يقيم يومها في مدينة الكاظمية، لتصف بدقة مكينة، أيام ذهاب والدتها صحبة زوجة حسين مروة، لزيارة المراقد الدينية، ومشاركة العراقيين أفراحهم وأتراحهم وهمهم الوطني .
وتأسيساً على ذلك، تُسهب الكاتبة في سرد القضايا السياسية التي كانت سائدة في تلك الفترة، مبيِّنة دون تردُّد، كل ما مرَّ به والدها من صعوبات حياتية، نتيجة أفكاره التي كان يحملها ويبشِّر بها في البلد. كما أنها تتوغّل أكثر، في سرد تفاصيل حياة حسين مروة، وما تعرَّض له من اعتقالات ومشاكل واجهته في الأزمنة الملكية، وبالأخص في عهد رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد الذي أسقط الجنسية العراقية عن حسين مروة وأبعده، عائداً إلى بلده الأصلي لبنان، ليتمَّ بعد عقود من الزمن، وتحديداً في نهاية الثمانينيّات اغتياله على يد ميليشيا شيعية في بيروت، لتختتم حياة مفكر كبير، بطريقة درامية ومأساوية، في بلد الحريات لبنان .
في هذه الأثناء ترسم شرارة مشهداً من التداعيات الرهيفة حول معلماتهن، مثل لبيبة القيسي، التي كانت كما يشاع ويقال في تلك الفترة، مُلهمة السياب حين كانا يدرسان معاً في «دار المعلمين العالية» .
يعود رفعة الجادرجي متخرجاً من أمريكا، منهياً دراساته العالية هناك، في هذه الأثناء تكون قد هيمنت على أفكاره النزعة اليسارية، فيعود ليؤيد كل ما يأتي به الفكر اليساري من تعاليم، مترسِّماً خطى والده، الشخصية الوطنية الشهيرة التي دوَّخت الملكية، والأحلاف الاستعمارية بمشاريعها وأفكارها وأهدافها الوطنية، المنافحة عن عراق متحرِّر من السطوة الاستعمارية، ومن الأحلام الأمبريالية لمصادرة الأراضي العربية .
حينذاك وعن طريق صديق مقرَّب، يرتبط رفعة ببلقيس شرارة، ليتم حينها الزواج بطريقة غير تقليدية، بلا زفة وثوب عرس، فقط كان الذهاب لشهر العسل إلى شمال العراق، إلى اربيل ومصايفها، بمعية بعض الأصدقاء، لقضاء وقت ممتع معهم.
يُصمِّم رفعة الجادرجي داراً له على الطريقة الحديثة، مستلهماً طريقة المقطع الذهبي للمهندس العالمي كوربوزيه، سقف واطئ، مع فضاءات بأثاث قليل، ومساحات ظليلة للضوء مع مشبكات هوائية، لكسر حرارة الصيف العراقي .
كانت دارهم هذه وغيرها من الدور التي سكنوها، مقراً للأصدقاء ونشاطهم المعماري، زيارات دائمة وضيوف دائمون، مثل بيت والده الذي كانت تقام فيه المآدب للأصدقاء طوال الوقت .
تُسطِّر بلقيس شرارة بذاكرتها المُلوَّنة، ووعيها الحاد، وقلمها الرشيق، عوالم فاتنة وفائتة، من تواريخ تلك الأزمنة العابرة، بكل تحوِّلاتها ومشكلاتها وحوادثها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كل ذلك توضحه وتوثِّقه وتسرده بطريقة محايدة، مما يجعل من هذه المذكرات وثيقة هامة وتاريخية لبلد كبير ومتنوع المذاهب والأديان، مثل العراق.

بلقيس شرارة: «هكذا مرت الأيام»
دار المدى، بغداد 2016
407 صفحة.

استعادة ماضيها البهي والشقي
بلقيس شرارة في مذكراتها «هكذا مرّت الأيام»:
هاشم شفيق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أفانين كبة - مونتريال - كندا:

    لقد أجادت الكاتبة بلقيس شرارة بنجاح في تدوين مرحلة مهمه من تأريخ وتراث المجتمع العراقي ليس فقط من خلال كتابها (هكذا مرت الأيام ) , بل أيضا من خلال المقدمة التي كتبتها لكتاب (إذا الأيام أُغسقت ) للراحلة حياة شرارة , وأيضا في كتاب ( جدار بين ظلمتين ) الذي تقاسمت كتابته مع شريك حياتها المعماري الأستاذ طلعة الجادرجي ، حيث كتبت بشجاعة وشفافية عن مرحلة سوداء مَر بها العراق والذي ترك أثر واضح في سبب تدهور القيم والأخلاق في المجتمع العراقي . كتاب كُتب بأسلوب جميل وممتع ويستحق القراءة ، وأتمنى من السيدة بلقيس شرارة أن تستمر في تدوين مذكراتها وتجربتها كونها عاصرت مرحلة إنتقالية مهمة من تأريخ العراق .

  2. يقول أفانين كبة - مونتريال - كندا:

    عفوا آعتذر عن الخطأ ، الصحيح هو الأستاذ المعماري رفعة الجادرجي .

إشترك في قائمتنا البريدية