بيروت ـ «القدس العربي»: حين خط الطيب صالح في بداية سبعينيات القرن الماضي روايته الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال»، سعى للتبصر ملياً في الصلة بين المواطن السوداني وبريطانيا، ومن خلالها أوروبا بشكل عام. حينها كانت الهجرة العربية إلى الغرب والشمال الأوروبي محدودة وغير ذات بال. كان يقصدها مجموعة من الطامحين بالعلم والتنور، ما عدا أهل المغرب العربي حيث شكلت أوروبا مركزاً لتحقيق طموحاتهم وبخاصة أن صلاتهم باللغة الفرنسية وثيقة. نحن نعيش حالياً موسم الزحف نحو شمال أوروبا وغربها هرباً من جحيم الأوطان التي تضع أهلها على فوهة الموت المتربص بهم على الدوام.
«ألف تيتانيك وتيتانيك» عنوان لعرض مسرحي ايمائي يضع الأصبع على جرح الهجرة من سوريا وفلسطين نحو الغرب. هجرة صارت منذ صورة الطفل السوري إيلان نائماً بعمق على الشاطئ التركي، عنواناً للغالبية الساحقة من صحف الغرب. وفي بيروت كان المخرج الفلسطيني محمود حوراني يضع على المسرح غطاء بلاستيكياً شفافاً على شكل بحر إيجه وغيره من مياه البحار التي يعبرها اللاجئون. على هذا البحر وقفت الحقيبة تعاند رغبة صاحبها. هو يتجه بها غرباً، وهي تعانده بالعودة شرقاً. يشد بها، لكنها تدير عجلاتها لتعود من حيث أتت. لا رغبة لديها بالرحيل. الجذور أقوى. مشهد له رمزيته وجماليته في كونه ايمائياً صامتاً، وفي كونه يؤدي لتراكم مشاعر دون إرادة من المتلقي. ليس لصاحب الحقيبة أن يُعبّر، وليس للحقيبة أن تنبسّ بكلمة. لكن الواصل للمتلقين لا حصر له. إنها الحقيبة، ذاك الجماد الحامل لبقايا ذكريات الوطن يتحول لعنصر مسرحي من لحم ودم. ورغم تدفق آلاف اللاجئين السوريين والفلسطينيين نحو الغرب يُصرّ المخرج محمود حوراني بأن عرضه لا يعني شعباً بعينه.
يتضمن العرض اربعة ممثلين وقناعاً. يتناوبون في سرد حكاية الهرب من الموت المنتشر في الأوطان، والذي يقذف بمواطنيه إلى أعماق البحار. حكاية اختار لها المخرج محمود حوراني أن تبدأ مروية من شهرزاد إلى شهريار وعبر تقنية خيال الظل الرائعة. عرض اعتمد البساطة في صنع أدوات المسرح فكان قريباً جداً من المتلقين. بكثير من الصمت تلقى الجمهور عرض «الف تيتانيك وتيتانيك»، وبكثير من التصفيق والتقدير كانت الخاتمة. ممثلو هذا العرض كانوا الشباب الاربعة أحمد عيسى، مريم بلحص، مصطفى حجازي وكارمن عمر، وهم كانوا غاية في البساطة خلال حضورهم على المسرح. لا يعرفون مطلقاً الافتعال. الشهر الماضي كان العرض في مترو المدينة، وإليه يعودون مجدداً في مساء 18 الجاري.
مع المخرج محمود حوراني كان هذا الحوار:
○ بماذا يمدك مسرح الدمى في علاجك لموضوع إنساني كما الهجرة إلى الغرب؟
• مسرح الدمى يمد المخرج بأدوات مجازية وبخيال واسع. إذ هو يتمكن من تجسيد حياة الناس من خلال الألعاب. أن يسرح المتلقي في خياله فهذا ليس حكراً على الدمى بحد ذاتها، بل هي وظيفة المسرح ككل.
○ هل هذا يعني أن للدمى أدوات تعبيرية وفنية مضافة؟
• مسرح الدمى في الأساس أداة فنية بامتياز منذ عصور العثمانيين، المماليك، زرياب، ابن دانيال الموصلي وكاراكوز. وجوده سابق لعصر السينما والمسرح والانترنت طبعاً. مسرح الدمى والعرائس كان الوحيد الذي يشاهده الناس قبل عصر التكنولوجيا. كان له عروضه الشعبية المنتشرة في صيدا، جبيل، القدس، يافا، الاسكندرية وغيرها. كانت الناس تقبل على مشاهدة الكاراكوز عبر الدمى والعرائس، كواحدة من أدوات التسلية والفن السائدة حينها، تماماً كما هو حالنا مع السينما الآن.
○ لماذا وقع اختيارك على الدمى للتعبير عن مأساة المهاجرين؟
• أولاً لكوننا في «المؤسسة العربية لمسرح الدمى والعرائس» ونعمل ضمن اختصاصنا. نحن لا نقدّم العرائس بالشكل الكلاسيكي. ثمة تجريب فيما نقوم به من فن. الحكواتي موجود في مسرحنا. كذلك تلك الحقيبة التي ترفض مرافقة المسافر هي من الدمى الأساسية في مسرحنا. ففي مسرح الدمى الحديث للكرسي الذي يجلس عليه الممثل أن يصبح دمية بمجرد خضوعه للتحريك. كل ما يستجيب للحركة والحياة على المسرح هو دمية. أن يقال بأن الدمى عرض مسرحي مخصص للأطفال هو اعتقاد خاطئ. وبأن الدمية هي ساندريللا كذلك اعتقاد خاطئ. ليس المهم شكل الدمية، بل ماذا تريد قوله. وعليها أن تكون ذات خيال رحب تحمل معها المتفرجين إلى التخيل. أن نقدم عنتر وعبلة عبر مسرح الدمى فمن الضروري حمل المتلقين إلى مزيد من الخيال عن ذاك الزمن. من الوظائف الأساسية لمسرح الدمى أن لا يترك الجمهور في حال من الكسل، بحيث يكون مع دمية ذات شكل جميل وقريبة في شبهها للإنسان.
○ هل هذا النوع من العروض المسرحية يعطيك كل ما تريده للتعبير عن موضوع قاسٍ كما الهجرة؟
• الهجرة قضية عالمية، وليست حكراً على بلد معين. الحال الذي نعيشه شهدته فيتنام، كولومبيا، غزّة، لبنان وكل مكان كانت الناس تنشد الأمان. لهذا نحن مع مسرح الدمى لقدرته على مدنا بلغة مجازية دون حدود. نحن لسنا مع مسرح دمى كلاسيكي ومعهود. خلال العرض الاول التفاعل كان ايجابياً. أحب الناس بساطة الادوات. البحر من بلاستيك شفاف، القوارب ورقية ومصنوعة ذاتياً. هي اقتراحات مسرحية تستفز خيال المتفرج، كما تنعشه داخلياً.
○ ما هي مميزات هذا المسرح؟
• هي مميزات كثيرة في طليعتها أنه قائم على الوهم بشكل كلي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى هو يتضمن العديد من أشكال الفنون منها حرفة صناعة الدمى، إضافة طبعاً إلى التمثيل والرسم. كما انه عرض يسهل له السفر دون الكثير من الاحمال. فهو يتضمن ادوات مسرح مبتكرة وبسيطة.
○ كان جلياً في عرضك وجود الكوميديا السوداء وأنها متاحة حتى عبر الدمى؟
• بل هذا كان مقصوداً.
○ هل تترك الدمى أثرها في المتلقي أكثر من الكلام برأيك؟
• نعم للدمية الصامتة هذا الفعل. مما نقوله في الدول العربية أن الدمية الصامتة أكثر بلاغة من الممثل المتحدث. للصمت البليغ أن يحملنا معه بعيداً. تماماً كما حملنا شارلي شابلن الذي لم يكن متحدثاً. ليس دائماً يطلب الجمهور البكاء والنواح والكثير من الميك اب للتعبير عن هذا الموضوع. ذهبنا في اتجاه آخر، فأحضرنا الدجاج، والكلب الصغير وقدمنا للمتلقي أثر الحرب على تلك الكائنات.
○ هل ستضيف للعرض جديداً بعد الاثر البالغ الذي تركته صورة الطفل ايلان على ضمير العالم؟
• هي صورة تركت أثرها فينا كما في سائر من شاهدها. لكن مرة أخرى أكرر بأن عرضنا المسرحي «ألف تيتانيك وتيتانيك» ليس اسقاطاً على بلد محدد. كل ما نرجوه أن يصطلح الحال في كافة البلدان، وأن ينعدم وجود المشاكل في أي مكان. لقد سبق وكانت لنا جولة في كل من الدانمارك والسويد حيث قدمنا عرضنا المسرحي في مراكز اللجوء المؤقتة. في تلك المراكز لاجئين من افغانستان، سوريا، غزة وغيرها. لهؤلاء جميعاً نحن نعرض مسرحنا. ومن غير المنصف لنا أن يصوّب علينا بأننا نقصد هذا البلد أو ذاك. الهجرة موضوع عام وليس خاصا ببلد ما.
○ أين ستعرض المسرحية لاحقاً؟
• بعد عروض في بيروت، سنعمل لجولة عربية في الأردن، تونس، أبو ظبي وفي كل مكان تتاح لنا فرصة سنعرض. وطبعاً سنعرض في لبنان حي يمكننا ذلك.
○ من هي المؤسسة العربية للدمى والعرائس؟
• نحن مجموعة من المسرحيين العرب. أسسنا تلك المؤسسة لإنعاش مسرح الدمى والعرائس في بلداننا العربية. ويعرف أن الدمى والعرائس هي من أقدم الفنون أصالة في بلداننا على الإطلاق. تلك المؤسسة موجودة لتكون عنواناً ومدرسة وحاضنة لأي عربي يرغب بمعرفة المزيد عن هذا الفن، وخوض غماره.
زهرة مرعي