بيروت- من يوسف بزي: في العام 1968 كان صادق جلال العظم أستاذاً في الجامعة الأمريكية ببيروت، حين نشبت أزمة كتابه الشهير «نقد الفكر الديني» وإحالته إلى المحاكمة. صحيح أن بيروت دافعت عنه، عندما ردّت محكمة المطبوعات الدعوى المقامة ضدّ الكتاب وضدّ المؤلّف وضدّ ناشر الكتاب (دار الطليعة)، إلا أن الجامعة الأمريكية نفسها تقاعست في الدفاع عن العظم، ما جعله يغادرها سريعاً.
مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، وتعاظم الخطر الأمني عليه، لجأ إلى بيروت وإلى مسكنه بجوار الجامعة الأمريكية، متحركاً ذهاباً وإياباً إلى جامعات هولندا وألمانيا، قبل أن يشعر بأن العاصمة اللبنانية باتت أيضاً غير آمنة، ليستقر في برلين حتى وفاته قبل أشهر.
هكذا، كان ثمة جرح خفي وطعم مرارة في علاقة العظم مع بيروت وجامعتها الأمريكية. فعلى الرغم من أن هذه المدينة وفرت له فضاء الحرية والتعبير، وفيها ومنها نشر أهم كتبه ونتاجه الفكري، إلا أنها امتنعت عن حمايته وحرمته من الشعور بالحصانة والاحتضان.
اعتذار متأخر
صباح يوم الجمعة الماضي (21 نيسان الحالي)، داخل قاعة «الكولدج هول»، وقف رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت، فضلو خوري ليعلن اعتذاره عن «عدم دفاع الجامعة الأمريكية في بيروت عن المفكر صادق جلال العظم في الماضي كعضو في هيئة التدريس فيها، حينما اضطهد بسبب شجاعته الفكرية»، منوهاً بشخص صادق جلال العظم وفكره «المؤثر والشجاع والصادق»، مشيراً إلى مبادئ الجامعة القائمة على «أهمية الحوار والنقاش الحر»، قائلاً: «نريد أن نستضيف نقاشا مفتوحا من دون اللجوء إلى العنف أو التهديد بالعنف، ومن دون التسبب في شعور البعض بالاضطهاد أو القمع. ولكن الأفكار يجب أن يتم اختبارها، إثباتها، اعتمادها أو رفضها، استناداً إلى صلاحيتها. نريد خلق هذا المجال الجريء للطلاب لاستكشاف حدود معرفتهم وحدود شخصياتهم. ونريد لهم أن يتشاركوا ذلك المجال مع زملائهم الذين قد يكونون قد جاؤوا من الجانب الآخر من العالم..».
بدورها، عميدة كلية الآداب والعلوم في الجامعة ناديا الشيخ، أكدت أنّ «الميزة التي يسودها تقريباً هذا الحدث هي شهادة على القيم التي تؤيدها الجامعة الأمريكية في بيروت. في حين أننا لسنا معصومين، فإن التزامات الجامعة الأمريكية في بيروت الراسخة بعمق ستنتصر دائماً».
كان هذا الاعتذار البليغ بحضور نخبة بيروت الثقافية والأكاديمية، التي اجتمعت على امتداد نهار كامل (من التاسعة صباحاً وحتى الثامنة مساء) لإحياء مؤتمر تكريم صادق جلال العظم في أفكاره وإرثه. وكان وجود الإبن، عمرو العظم، منح هذا اللقاء بعداً عاطفياً وحميماً، ليعلن نية مؤسسة صادق جلال العظم، ووفقاً لرغبة الراحل، بالتبرع بمجموعة من الأوراق ومقتطفات الصحف والوثائق الأصلية التي كان لها علاقة في كتابة «نقد الفكر الديني» والقضية المرتبطة بذلك، بالإضافة إلى المحاضرات والأنشطة الثقافية ومراجعات الكتب وكل ما كتب عن هذا الموضوع، لمكتبة الجامعة الأمريكية في بيروت، وكذلك عن عزمها على إرسال عدد من الكتب والمجلات التي كانت جزءا من مكتبته الخاصة في دمشق إلى مكتبة الجامعة».
هذا المؤتمر التكريمي والرصين، نظمه قسم الفلسفة في الجامعة، بالتعاون مع أقسام العلوم الاجتماعية وعلم الإنسان، الدراسات الإعلامية، مركز الفنون والإنسانيات، مركز الدراسات العربية والشرق أوسطية. وشارك فيه 23 باحثاً.
تراثه الفلسفي والنقدي
كان من الواضح أن المناسبة أبعد من مجرد «تكريم»، نظراً إلى احتشاد عدد الأوراق والمساهمات الفكرية والنقدية المقدمة للمؤتمر، المكثف في مضمونه وبرنامجه الزمني، والذي تمحور على أربعة جلسات، عدا الجلسة الافتتاحية. الجلسة الأولى كانت بعنوان «تراث صادق جلال العظم الفلسفي» التي أدارها ريمون براسيه، وتحدث فيها ناصيف نصار، مثمّناً اختيار العظم للغة العربية رغم اتقانه للإنكليزية في كتابة أعماله الفلسفية، مع ما يعني ذلك من صعوبات هائلة تواجهها الكتابة الفلسفية بالعربية. ومدح نصار لغة العظم «المطواعة والمرنة والمتدفقة بحيوية». وأشار إلى أن العظم، رغم التنوع الشديد في اهتماماته وأعماله وأبحاثه فقد كان انحيازه صريحاً ودائماً إلى «الحداثة وحركة الحداثة.. وبالتحديد الحداثة الأوروبية. لم يكن انحيازاً أعمى، لأنه اعتقد أن الحضارة الأوروبية الحديثة هي السائدة وبالتالي كل تفكير هو موقف منها».
وينبّه ناصيف إلى أن السمة الأساسية للعظم أنه «مفكر نقدي بامتياز.. إسهامه النقدي عميق وبمراجع نظرية واضحة. وفي إطار الماركسية، اعتمد مفهوماً خاصاً للنقد ووظيفته. ليس نقداً كانطياً ولا ماركسياً ولا هو نقد أدبي، ومفتوح على الاحتمالات، ما يمكن تسميته: النقد المحترف».
أستاذة الفلسفة المرموقة إليزابيت سوزان كساب قدمت ورقة بعنوان «صادق جلال العظم والنقلة النقدية في الفكر العربي المعاصر: هل كانت هذه النقلة فلسفية؟». برأي كساب أن سؤال «ما هي القيمة المضافة التي تستطيع الفلسفة تقديمه إلى الفكر النقدي» يبقى بلا إجابة واضحة. لكنها تقول: «شخصية العظم تناسب السؤال. فهو لديه تكوين فلسفي قوي وكتابات فلسفية. فهل نجد في أدائه رابطاً بين تكوينه الفلسفي وممارسته للفكر النقدي؟ تستطرد قائلة أن السردية السائدة أن لحظة الهزيمة عام 1967 هي لحظة الانعطاف النقدي، لكن برأيها أن هذا الفكر ابتدأ قبل الهزيمة واستمر بعدها. وتشير إلى شبه أو نمط واحد ساد في كل من أفريقيا وأمريكا اللاتينية والعالم العربي، في الفكر النقدي «ما بعد الاستقلال» لا «ما بعد الكولونيالية». ففي تاريخية هذا الفكر كانت الفترة الأولى سهلة وواضحة طالما أنها ترفع شعار التحرر أو الاستقلال أو السعي إلى «فكر ذاتي»، لكن بعد الاستقلال وممارسة السيادة اتضح أن هذا المسعى اصطدم بصعوبة المواءمة بين هذه المفاهيم والواقع.
فمثلاً ما هي الهوية؟ ما الأفريقي أو العربي؟ نجد أنفسنا أمام فكرة غير واضحة. ما معنى التحرر من الاستعمار وما معنى «الفكر الذاتي»؟ وتستنتج قائلة: «في هذا المسار يأتي دور الفلسفة والنظرة إلى الفلسفة. كانت المعضلة في أمريكا اللاتينية هي التخلص من النقل والتقليد عن الفلسفة الأوروبية. كيف يمكن الفكاك مما تكتبه باريس؟ أما في أفريقيا فكان التحدي «إثبات المقدرة على التفكير» طالما أن الأفارقة ليس لديهم تراثاً فلسفياً. أما العرب الذين لديهم تراث فلسفي واضح فكانت المشكلة لديهم «أن نفكر اليوم». وعلى هذا كان السؤال: ما معنى فلسفة عربية معاصرة؟ وما معنى الاستقلال الفلسفي؟». باختصار، تشير كساب إلى أن القيمة الفلسفية لا تتعلق بمسعى إنتاج فلسفة ذاتية بل بـ»النضوج الحضاري»، وأن صادق جلال العظم لعب دوراً نقدياً بالغ الأهمية والتقدير، لكنه لم يتورط في «التنظير الفلسفي للنقد».
مواجهة الاستبداد
صالح جعفر آغا، قدم ورقة بحثية بعنوان «العظم حول كانط والزمن» محللاً وقارئاً أول كتاب أصدره صادق العظم عن الفيلسوف الألماني ونظريته في الزمن، وكيف اقترح العظم تطوير وتجاوز مقولات كانط حول علاقتنا بالزمان والمكان، وكيفية حل التناقض الظاهر في تلك المقولات اتصالاً بأرسطو. ويتساءل آغا عن صمت العظم وابتعاده عن كانط فيما بعد، متحدثاً عن أسباب تحولاته كمفكر اتجه باهتماماته نحو تداخل السياسة والمسائل الثقافية.
الجلسة الثانية كانت بعنوان «الجدل حول العلمانية» أدارتها سونيا ميشار- أتاسي. تحدث فيها أولاً الكاتب حازم صاغية عن «العلمانية والاستبداد»، شارحاً المحطات التاريخية لفكرة العلمانية بوصفها تيارين أساسيين، الأول ينطلق من مسعى توسيع نطاق الحرية، «حرية الضمير». والثاني يحاول إحلال «دين مدني» محل الدين بما يعني توسيع سلطة الدولة (ولأهمية هذه الورقة وإشكاليتها الراهنة، ننشر على حدة معظم ما جاء فيها).
جاءت ورقة أستاذ الفلسفة في الجامعة الأمريكية ببيروت، وضاح نصر «حول تساؤل صادق العظم عن إمكانية علمنة الإسلام»، في قراءة أكاديمية دقيقة للنص الديني الإسلامي من جهة ولأفكار العظم في كتابه «نقد الفكر الديني» خصوصاً، متمعناً في مسألة علاقة الإسلام بالدولة والحياة الدنيوية ومجالات التدخل ودور التفكير العقلاني.
تفكيك الاسطورة
وعلى نحو بالغ الحماسة والشجاعة، قرأت أستاذة الفلسفة في الجامعة اللبنانية نائلة أبي نادر، ورقة بعنوان «في تفكيك الأسطورة عند صادق جلال العظم»، قائلة: «يمكن أن نتلمّس من خلال قراءة ما أنتجه العظم أن النقد هو المسيّر الأساس لفكره، وهو النهج الذي بنى عليه طروحاته. في سياق درسه للفكر الديني، نجده يتجرّأ على مقاربة الأسطورة كظاهرة راسخة تبلورت في مختلف الخطابات الدينية العابقة أصلاً بالرموز. هذا ما كان درسه مفكرون كثر إن في مجال علم اللاهوت وعلم التفسير، أو في الهرمينوطيقا، أو الأنتروبولوجيا الدينية، أو في سياق تفكيك العقل الديني ودراسة كيفية اشتغاله من زاوية نقدية. لكن ما يلفت الانتباه هو أن العظم كان من القلائل الذين تطرقوا الى هذه المسألة بالعربية منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي. من هنا يمكن أن نطرح الأسئلة الآتية:
ما الذي دفع العظم الى مثل هذا النقد؟ لماذا الأسطورة على وجه الخصوص؟
هل إن ما نشره العظم في هذا الخصوص أصاب الهدف وتمّ تلقّيه بموضوعية؟
وهل يمكن أن نعتبر أن ما قام به مقدمة علمية حديثة لتأسيس نهجٍ نقديٍّ للفكر الديني؟
هل من فرصة لمتابعة المسير بعد ما نشهده اليوم من عودة العنف باسم الدين، وتكفير الآخر المختلف، واستباحة حرية الفكر والضمير؟
وبما أن الدين في أحد معانيه، حسب العظم، هو «قوة هائلة تدخل في صميم حياتنا وتؤثّر في جوهر بنياننا الفكري والنفسي وتحدّد طرق تفكيرنا وردود فعلنا نحو العالم الذي نعيش فيه وتشكّل جزءاً لا يتجزّأ من سلوكنا وعاداتنا التي نشأنا عليها»، من هنا ضرورة النظر فيه من وجهة نقدية. ما يهمنا هنا يقتصر على ما أشار اليه العظم من أن الدين يحتوي على مجموعة من «القصص والأساطير والروايات» التي تتناول موضوع البدايات والنهايات في ما يخصّ الانسان والكون. لذا نجد العظم سيعمل على نقد هذا المضمون لمعنى الدين.
انطلاقاً من هذه الخلفية، تحلل أبي نادر بجرأة بالغة مقاربة العظم لتراجيديا إبليس في كتابه «نقد الفكر الديني» بالمقارنة مع أصول التراجيديا اليونانية والتراث الاسطوري والأدبي. وتنتهي إلى خلاصة مفادها: «إن نقد العظم للفكر الديني يلتقي مع ما ذكره هو عن أدب سلمان رشدي. إنه يبغي الذهاب الى أبعد، وطرح الأسئلة الأعمق، وإعادة النظر في الكثير من المفاهيم الثابتة، والتفسيرات الجامدة. أراد فعلاً أن يوقظ التساؤل في ذهن الانسان العربي. عمل من خلال إعادة النظر في صورة ابليس على تحرير النص الرمزي من القراءة الأحادية التي تُسقِط معنى محدداً على النص فتحصره فيه. هذا ما اشتغل عليه محمد أركون ونصر حامد أبو زيد أيضاً، كل وفق منهجه النقدي».
أما الكاتب والباحث السعودي نواف القديمي، في ورقته «العظم: بين فهم العلمانية وفهم الإسلامية» فقد انتقد مواقف المفكر الراحل من «الحالة الإسلامية» مبرهناً من خلال حواراته الصحافية ومقالاته كيف أن العظم لم يبذل جهداً حقيقياً في معرفة التنوع الكبير الذي يتسم به الإسلام السياسي المعاصر، كما لم ينتبه إلى الجهود الفكرية المتقدمة التي قامت بها الحركات الإسلامية المختلفة. وكيف أن العظم كأغلبية المثقفين العلمانيين يختزلون الإسلام السياسي إما في تنظيم «التكفير والهجرة» سابقاً أو في «داعش» حالياً.
الاستشراق معكوسا
بعد استراحة غداء قصيرة، جاءت الجلسة الثالثة بعنوان «الإستشراق معكوساً» بإدارة ابرهارد كنليه، تحدث فيها عبر «السكايب» الكاتب والمفكر السوري ياسين الحاج صالح، متناولاً الإشكالية السجالية التي نشبت بين العظم وإدوارد سعيد، في ورقة بعنوان «الاستشراق، الاستشراق المعكوس وسياسة المثقف». وأهم ما جاء فيها: «يحرك نقد صادق جلال العظم لكتاب الاستشراق لإدوارد سعيد حرص على الكونية، على صلاحية عابرة للثقافات لمقولات الفكر المادي والعقلاني الحديث. يخشى صادق أن من شأن نقد الاستشراق أن يُسوغ «الشرق»، الشرق الأبدي الذي لا يتغير ولا يكف عن مماثلة ذاته، وبخاصة نزعات «الاستشراق المعكوس» التي وجدها منتعشة بين قوميين وإسلاميين، ومثقفين حديثي التكوين مثل أدونيس وآخرين. الاستشراق، يقول صادق موافقاً سعيد والعروي، ينزع إلى إضفاء صبغة جوهرية غير تاريخية على الشرق، لكن الاستشراق المعكوس يفعل الشيء ذاته، وإن اختلف الحكم. هذا يُفقِد المثقف أدوات نظرية مهمة يتعقل عبرها واقع مجتمعه المعاصر، تطورت في المجتمعات الأكثر تقدماً، وأكثر من ذلك يحول بينه وبين تطوير السياسات الأنسب لتقدم هذا المجتمع».
يضيف ياسين الحاج صالح: «هناك مشكلة. المصادرة على ولاية كونية لمفاهيم المادية والتاريخ والتفكير العلمي والتقدم تلغي تاريخ المجتمعات غير الغربية، أعني تجارب الإنسان وصراعاته المعاصرة، وليس مورايثه الأقدم فقط. لا ينبغي أن يكون المرء مستشرقاً معكوساً حتى يُقِرّ بذلك. في الوقت نفسه لا يكفي الكلام المرسل على الإبداع على طريقة أدونيس، أو ما يسميه صادق ميتافيزيقا الإبداع، حتى نستطيع تنظيم إدارك واقعنا وصراعاتنا وتوجيه العمل التغييري فيها على نحو مثمر. هناك حاجة إلى ثورة في الأدوات النظرية، في الإنسانيات والاجتماعيات من أجل معرفة أفضل بواقعنا وواقع العالم اليوم. هذه الحاجة عامة. لدينا وفي الغرب.
صادق لم يتناول هذه القضية ولم يخصص له جانباً من تفكيره. غاية ما يمكن أن نجده عنده كلام يحيل على وحدة العالم التي تحققت على يد الامبريالية في القرن التاسع عشر والعشرين. لكن هذه الوحدة صراعية تكوينياً، تكتنفها توترات وعنف وحروب وأحقاد وتمييز، يتعذر أن لا تترك آثاراً متنوعة على عالم المقولات والمعقولات والأفكار. يحصل أن يقول إننا أخذنا من الغرب مدركات الجمهورية والاستفتاء وكرة القدم وعقدة أوديب ومحو الأمية والتعليم الإلزامي والخطة الخمسية والنساء والارتقاء… إلخ. لكن هذا لأن تفكيره كان يترك في حقل لا يقابل هذا الأخذ من الغرب غير دعوة الأصالة والاستشراق المعكوس، وتغيب عنه بالمقابل الحاجة إلى نقد عالم اليوم وتغييره ومشاركتنا فيهما من مواقع تحررية لا يرضيها حال العالم اليوم وحالنا في العالم اليوم.
نحن في العالم ومن العالم والعالم منا وفينا، ومنهج صادق الذي يعتنق نسقاً تاريخياً للمعقولات مرتبطاً بأفكار المادية والتقدم يبقينا في موقع خاص، منفصل عن العالم، بدل أن يدرجنا فيه ويزجنا في صراعاته، وفي عملية صنع المستقبلات المشتركة البديلة. هذا المنهج يبدو مناسبا من أجل التعبئة، لكن التعبئة تفترض مثالاً ناجزاً منتهياً، نهاية للتاريخ أو محطة توقف، نغذ السير نحوها. هذه المحطة غير موجودة، والمنهج يحرمنا من العالم ومن التاريخ. هذا بالمناسبة ليس الحال في الغرب ذاته، لم يتوقف التاريخ هناك عن أفكار التنوير وحداثة القرن التاسع عشر. التراجع خطوة إلى الوراء نحو أسس الفكر والمجتمع والدولة الحديثة، الليبرالية والديمقراطية والفردانية والعقلانية، ليس حلاً. فكما أن الانهيار العملي للشيوعية يحكم على من يثابرون على مقولاتها النظرية بأن يكرروا التجربة نفسها، أي يلغوا تاريخهم الذاتي وتاريخ بلدانهم، فإن الأمر ذاته صحيح بخصوص المثابرة على ما اعتبرها صادق مقولات الفكر والاجتماع الحديث. بدل التراجع، وإن يكن تكتيكياً، يلزم التقدم نحو تفكير جديد يدمج تجربة الانهيار السياسي للشيوعية التي اعتنق صادق أسسها النظرية، وأكثر منها الانفتاح على أشكال السيطرة والاستغلال والتضليل، والصراع، الجديدة. وفي مثل أوضاعنا اليوم، تفكير يستوعب تجارب السوريين الرهيبة: الاعتقال والتعذيب والقتل والحصار والتجويع والتهجير، واللجوء، والموت العنيف، والعنف الديني والهيئات الشرعية والتغييب القسري…، والثورة والحرب، والطائفية والعنصرية، مما يتعذر الكلام على ثقافة وسياسة في سورية ومحيط أوسع دون تناولها والتفكير المتعمق فيها». ويختم: «انحاز صادق إلى نضال السوريين من دون نظرية. هذا وضع مفتوح على اتجاهين. فإما أن نتخلى عن الانحياز إلى الثورة لنصون المعقولات القديمة، أو نرفد الانحياز إلى الثورة بثورة في النظرية وأدوات التفكير. الثورة والحرب محفزان على التفجر الثقافي والفكري، والبعد العالمي للثورة السورية محفز على التفكير في شؤون العالم. لا التوقف في موقع بعينه ينفع، ولا التراجع المؤقت. السير إلى الإمام وحده ما يمكن أن يكون سياسة لمثقف جديد».
مابعد الكولونيالية والاستبداد
أستاذ العلوم الاجتماعية في الجامعة الأمريكية، الباحث ساري حنفي، كانت لديه ورقة متقنة بعنوان «تحولات اتجاه ما بعد الكولونيالية في العالم العربي: نحو مقاربة ما بعد الاستبدادية»، فيبدأ بالقول مثنياً «على شريحة هامة من مثقفي اليسار (أكاديميين وكتّاب وصحافيين) الذين لعبوا، وما يزالون، دوراً محورياً في توجيه الرأي العام العربي في صيرورة مابعد الانتفاضات العربية وعقلنة المسار التغييري طويل الأمد الناتج عنها. طبعا جغرافيا يختلف الوضع من دولة لأخرى: فهوامش التفكير المتاحة تاريخيا ًفي بلدان مثل تونس والمغرب ولبنان اتاحت هذه المرافقة أكثر من دول أخرى. إذاً، أنا ضد النوح على حائط المبكى وجلد الذات بأن هذه الانتفاضات كانت بدون مثقفين ثوريين مرافقين لها. وأنا أيضاً ضد التعميم المفرط والسوداوي عن وضع المثقفين الذي نجده في الأدبيات والاعلام خاصة في السنوات الخمسة الأخيرة. أنا مع تحليل دقيق يعتمد على تصنيف المثقفين الى فئات: منهم من استطاع أن يلعب أدواراً نقدية هامة، وآخرون فشلوا كليا أو جزئيا في هذه المهمة». وينتقد حنفي شريحة كبيرة من اليسار العربي الذي اختزل قراءة الواقع العربي باستخدام المقاربة بعد الكولونيالية، مضيفاً: «.. ولن أتجرأ أن أعرّف اليسار فيما إذا كان موجودا حسيا أم رمزيا وتاريخيا».
تتركز مساهمة حنفي على «فهم الآليات المعرفية والابستمولوجية المستخدمة من قبل شريحة واسعة من اليسار العربي والعالمي»، مقترحاً «إضافة مقاربة أخرى سأسميها المقاربة بعد-الاستبدادية. وبتكامل هاتين المقاربتين يمكن أن يكون هناك أمل في خلق أرضية مشتركة بين المثقفين العرب يسارا ويمينا ومتدينين للعمل سويا لدفع القضايا الملحة العربية في الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية». الورقة غنية في سردها الكاشف لآليات التفكير الثقافي العربي وتحولاته ومسؤوليات المثقفين العرب في أحوال الاستبداد.
الباحث خالد حروب، سرد بالتفصيل وناقش معظم حيثيات السجال الفكري الذي صاحب «الجدل حول الإستشراق بين صادق وسعيد»، بدقة وأمانة، طارحاً الأرضية المشتركة والخلاصات النقدية لهذا السجال. وهو أيضاً ما فعله أيضاً الباحث السوري عدي الزعبي بورقته «دفاعاً عن القيم المشتركة: قراءة في الإستشراق والاستشراق المعكوس»، متكئاً أيضاً على أفكار نعوم تشومسكي.
النقد الذاتي بعد الهزيمة
الجلسة الرابعة الختامية التي أدارها أستاذ التاريخ عبد الرحيم أبو حسين، كانت منتظرة بفضول من معظم الحاضرين، كون المساهميْن فيها هما الباحث اللبناني ربيع بركات والباحث السوري ثائر ديب، كما أن هذه الجلسة كانت مفتوحة على النقاش بإدارة أستاذ الفلسفة بشار حيدر.
يمكن القول أن ربيع بركات في ورقته «الأزمة السورية: التناقض بين الفرضيات والاستنتاجات» يحاول فيها إثبات فشل العظم، ومعه المثقفين الذين انحازوا للثورة، في المواءمة بين توقعاتهم وبين المآل الذي انتهت إليه الثورة. بالطبع بدت الورقة مكتوبة بـ»دم بارد» طالما أن الباحث لم يشأ أصلاً وصف ما حدث بـ»الثورة» وتكلم عن أنها ربما حرب أهلية لأن الخسائر البشرية برأيه متساوية بين الطرفين. فلم يقل «الحرب السورية» ولا «المأساة السورية» أو «النكبة السورية» أو «الكارثة» بل فضّل كلمة «أزمة». وعليه يمكننا أن نستشف الموقف الأخلاقي (أو اللاأخلاقي) للباحث في ورقته الفقيرة التي تعيب على صادق العظم ربما أنه لم يكن «عرّافاً» جيداً. وقد رد عليه بشار حيدر بما معناه أن توقعنا لتحرير فلسطين وإن فشل فهذا لا يلغي صوابية الموقف الأخلاقي من حق الفلسطينيين بتحرير وطنهم! أما الطامة الكبرى في ورقة بركات فإنه إذ يعيب على العظم مقولة ضرورة التدخل الخارجي للنجاح في إسقاط النظام، ويسكت تماماً عن طلب النظام نفسه للتدخل الخارجي.
المفاجأة كانت في ورقة ثائر ديب، فقد أتت على غير المتوقع من تاريخ مواقفه وآرائه ومقالاته تجاه صادق العظم. كانت ورقته «النقد الثقافوي للسياسة والمجتمع: النقد الذاتي بعد الهزيمة نموذجاً» غاية في الذكاء والتوازن. تناول ما أسماه «خصلةً سائدة في الفكر والثقافة السوريين عموماً، لا سيما النوع الناقد والمعارض منهما، تتمثّل في إقامتهما النقد والمعارضة على أساس ثقافويّ يردّ الظواهر إلى تقاليد وصفات ثقافية معينة ويركزها إليها». ويتخذ من كتاب «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، وهو كتاب يعود إلى النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين، نموذجاً لهذه الخصلة أو الظاهرة: «أنّ هذه الخاصية في حال من الاستمرار والدوام في آخر نتاجات العظم، لم يقو عليها ما تمتّع به الراحل من حسّ نقدي رفيع ومن إعلاء لشأن النقد الطليق في إنتاج المعرفة». بدا نقد ديب لـ»النقد الثقافوي» قريب على نحو مباغت من أفكار ياسين الحاج صالح وبعيد إلى حد التناقض مع أفكار أدونيس مثلاً. كانت هذه الورقة «مفاجأة ثقافية» إذا جاز التعبير.
على كل حال، مع هذا المؤتمر، وقبله كان تكريم سعدالله ونوس وقسطنطين زريق، إضافة إلى مؤتمرات أدبية وفلسفية والكثير من البرامج الثقافية التي تقوم بها الجامعة الأمريكية، وخصوصاً كليات وأقسام العلوم الإنسانية فيها، بما يتجاوز تأثيرها أسوارها الأكاديمية، تبدو هذه الجامعة اليوم وقد عاد إليها صادق جلال العظم، عادت لتلعب دورها التاريخي في بيروت والمنطقة.
هذا المفكر الفذ، صاحب الثقافة الرفيعة والفكر الخلاق أنموذح لإبداع المثقف السوري بعيدا عن قمع حرية الفكر والتعبير التي مارسها النظام الاسدي المجرم في سورية، لقد انخرط صادق جلال العظم المتحدر من أعرق العائلات الدمشقية في الثورة السورية وأيدها وانتخب رئيسا لرابطة الكتاب السوريين المعارضة التي يترأسها اليوم الشاعر الكبير نوري الجراح صاحب مجلة دمشق المعارضة، واعتراف الجامعة الامريكية بتقصيرها في الدفاع عنه ولو جاء متأخرا ولكنه اعتراف بهذا المفكر الحر الجريء واعتراف بهمجية النظام السوري المعادي للفكر والثقافة والرأي الحر.