فلما بلغت أشدها واستوت، تألقت شكلاً وروحاً، وكان «للقصة بقية» الفضل في إعادة اكتشافها!
إنها الجزائرية فيروز زياني، التي التحقت بقناة «الجزيرة» كمذيعة نشرة، والتي انتقلت إلى مقدمة برنامج «من بابه»، فكان اختياراً صادف أهله، وليس لي علم بتفاصيل هذا الاختيار، وهذا الانتقال، وظني أن الأمور لا تحدث كما يدور في «الإقطاعيات الإعلامية» في القاهرة، إذ زف رئيس قطاع الأخبار في التلفزيون المصري عودة توفيق عكاشة إلى الشاشة قريباً، لمجرد تقديمه طلباً بقطع اجازته الطويلة، وكان المفروض أن يعود للوظيفة وليس للشاشة، لأنه غادر التلفزيون المصري، مذيعا صغيراً بعد أن فرضه وزير الإعلام صفوت الشريف كمقدم برامج فرضاً، ولأنها الضرورة، التي تقدر بقدرها، فقد كان برنامجه يأتي بعد منتصف الليل والناس نيام!
لا بأس، فمصر تعيش مرحلة «إعلام الأجهزة الأمنية»، كما جاء في حلقة «للقصة بقية»، التي ناقشت هذه الظاهرة، وتمثل تطوراً لافتاً في نمط ملكية السلطة لوسائل الاعلام!
لا أقصد التعبير القرآني بمعناه بقولي «فلما بلغت أشدها واستوت»، فقد قصدته هو الاستواء المهني، فليس لي علم بأعمار المذيعين في القنوات التلفزيونية، وفي السابق كنت أشير إلى بعض المعلومات في هذه الزاوية، عن مذيعات قناة «الجزيرة»، حتى ظن الجاهل أننا زملاء دراسة، فموقع «الجزيرة نت»، كانت به زاوية خاصة بالتعريف بكل المذيعين والمذيعات الأحياء منهم والأموات الذين يعملون في القناة، ومن بين ذلك أن خالدة الذكر جمانة نمور حاصلة على دراسات عليا في «الأنثروبولوجي»، تخصصي الدقيق، وقد أزيلت الزاوية لأسباب غير معروفة، فاقتقد الناقد التلفزيوني، معلومات كانت تعينه على نوائب الدهر، وليس كل المذيعات كن يضعن المعلومات الخاصة بخانة تاريخ الميلاد، لما في ذلك من حساسية للمرأة والرجل على السواء!
ذات يوم حصل أحد الزملاء في جريدتنا «الأحرار» على تواريخ الميلاد الخاصة بمذيعات التلفزيون المصري ونشرها، وكان يوماً عبوساً قمطريرا، فقد تلقيت اتصالات هاتفية من مذيعات في حالة انهيار كامل، تدور الاتصالات كلها حول أنها معلومات مزورة، والتهديد بأنهن بصدد تقديم بلاغات للجهات القضائية في الجريدة والمحرر، ورغم مرور قرابة العشرين عاماً على ذلك، فلم يُقدم بلاغ واحد إلى الآن!
مؤخراً، تم إحالة المذيعة بالتلفزيون المصري «أميرة عبد العظيم» للتحقيق، لأنها زورت في تاريخ ميلادها، وبدلاً من إحالتها للمعاش في هذا العام، فقد تأجل هذا لعامين آخرين، قبل اكتشاف التزوير بواسطة أحد الصحافيين!
ما علينا، فقد مثل برنامج «للقصة بقية» إضافة لشاشة «الجزيرة»، لأنه يناقش موضوعاته باهتمام والمام، حيث يقدم عن موضوع كل حلقة، نقاشاً وافيا، تديره مذيعة متمكنة، وملمة بالموضوع وتفاصيله، وهي مع ذلك، تستمع أكثر مما تتحدث، وتستوعب أكثر مما تقاطع، فقد هرمنا، وقناة «الجزيرة» هي المسؤولة عن ظاهرة أن المذيع لا بد أن يثبت وجوده بالمقاطعة، فصار حضور المذيع في المقاطعة، هو أهم ما يشغله، فهو يشارك بروحين: روح المذيع وروح الضيف، وربما الأرواح الشريرة أيضاً.
على أيامنا تربينا على كتب «كيف تتحدث الانكليزية بدون معلم»، وعلى أيامهم كان الدرس كيف تصبح مذيعا بدون مهارة؟ فيكفي أن تمنع الضيف من أن «يأخذ نفسه» لتثبت جدارتك بالمهنة، مع أن المقاطعة في «الجزيرة» هي في كثير من الأحيان هي مقاطعة الواعي لما يفعل، وليست «عمالاً على بطال».
معلم الأجيال
«دنيا»، بصوت الفنان توفيق الدقن، فقد تذكرت الآن كيف كان «جهاد عودة» يبني استراتيجيته في كل مداخلة، على المقاطعة، ليصول ويجول، فها هي «الجزيرة» تقاطعه، لا تحتمل أراءه النيرة، وحجته البليغة، وقدرته الجبارة، وذات يوم وقع في يد محمد كريشان، معلم الأجيال، تكلم جهاد عودة واستمع كريشان، فسكت ليعطيه الفرصة ليقطع صمته، فلم يفعل، فواصل الحديث مرة، لكن لم يكن لديه ما يقوله، فسكت ثانية، ولم يدر إلا ومحمد كريشان يقول: «الدكتور جهاد عودة أستاذ العلوم السياسية من القاهرة شكراً جزيلاً لك»، وحطت الكاميرا على جهاد عودة من القاهرة، فإذا به ينظر يميناً ويساراً ويقلب كفيه وهو في ارتباك واضح!
ولا تحتاج «فيروز زياني»، لاثبات وجودها بالمقاطعة، فهي صاحبة حضور طاغ في البرنامج، ولهذا فهي لا تطرح السؤال التالي، لاثبات الوجود، فالبرنامج تقوم فكرته على مخاطبة وعي المشاهد، ووضعه «في الصورة»، إنه من نوعية البرامج، التي أنتجتها السلالة التي أنتجت برنامج «في العمق»، الذي خسره المشاهد، قبل أن تخسره «الجزيرة»، كما خسر مقدمه علي الظيفري، آمن الله روعاته، وانتقم شر انتقام ممن أبعدوه عن عمله، وآرنا فيهم يوماً أسود من قرن الخروب!
لقد خصص «للقصة بقية» مؤخراً حلقة عن «إعلام الأجهزة الأمنية» في وصف الحالة الإعلامية المصرية، فلم تكفي القبضة الأمنية في تمكين عبد الفتاح السيسي من السيطرة على البلاد، فكان المخطط هو الهيمنة على وسائل الاعلام، فالسيسي لا يرى في عبد الناصر إلا هذا الحاكم الذي كان محظوظاً باعلامه!
جمال عبد الناصر أمم الإعلام، فيما عُرف بسيطرة الدولة على وسائل الانتاج، لكن السيسي وإذ وجد فكرة التأميم تجاوزها الزمن، فقد مكن الأجهزة الأمنية من تملك الإعلام، وهي ملكية سترهق أي باحث، يتصدى لأنماط الملكية للاعلام المصري، لأنها ملكية ليست مثبتة في الأوراق، فهناك شركات معلنة هي المالك الصوري، دون أن يمكن المواطن من السؤال: من هؤلاء القوم ومن أين جاءوا بالأموال التي ينفقونها على إعلام خاسر وفاشل؟!
يعرض «للقصة بقية» في كل حلقة فيلما، قبل أن يذهب بموضوع الحلقة للنقاش مع الضيوف، فإذا به يذكرنا بالذي مضى، ففي لقطات الفيلم ظهر تامر أمين وهو يعترف على نفسه بأنه «مخبر» وهي وظيفة أمنية تلامس الحضيض في السلك الوظيفي الأمني، ويزيد على ذلك باعترافه بأنه لا يقلق بأن يبلغ عن أي أحد، فذكرنا بكيف تحول إلى «كمين» لاستدراج زميلنا إبراهيم الدراوي، لتمكين الأمن من القبض عليه، وفي هذه الأيام يكون قد مر على هذه الواقعة خمس سنوات «بالتمام والكمال»، وقد وجهت له تهمة التخابر مع حركة حماس!
وفي الفيلم ظهر أحمد موسى، وهو يعلن أنه «بتاع الأمن»، وفي الحقيقة أن أحداً لم يسأله ليجيب، فالمعروف عنه بالضرورة منذ نعومة أظفاره بأنه «بتاع الأمن»، ولهذا صار مذيعاً في «إعلام الأجهزة الأمنية»، وبقرار أمني، مع أن برنامجه يفتقد للمشاهدين، وليس مقبولاً حتى من مؤيدي السيسي، ولم نكن بحاجة إلى هذا الاعتراف!
أما ثالثهم، فهو مظهر شاهين، وهو إمام مسجد، قدمه لنا الشيخ صفوت حجازي في ميدان التحرير أيام الثورة، ليتم خلع لقب «خطيب الثورة» عليه، وهو تختلط في ذهنه الأدوار بين خطيب المسجد والإعلامي، وبينما يقوم بدور الإعلامي استدعى دور الخطيب فأفتى بأن التعاون مع جهاز أمن الدولة واجب وطني وديني!
الشيخ المذيع
«المذكور» خطيب في مسجد «عمر مكرم» الجامع الرسمي للدولة، فالجنازات الرسمية لم تكن تخرج إلا منه، وعزاء الكبار يكون فيه، قبل تعدد المساجد التي تنافسه في ذلك، ونظراً لأن كبار المسؤولين يأتون اليه لتشييع الجنازات أو تقديم واجب العزاء، فإنه يحظى باهتمام أمني خاص، لا سيما وأن وزارة الأوقاف تقع تحت الإشراف المباشر لجهاز الأمن، ولا يمكن أن تدفع الأجهزة الأمنية بمناضل لهذا المسجد، لكنهم الاخوان إذا أحبوا، فقد أحبوه فأسبغوا عليه أوصاف منها «خطيب الثورة»، وانقلب عليهم فجردوه من الوصف وأعادوه مخبراً كما ولدته أمه!
وقد عمل «الشيخ المذيع» مراسلاً من ميدان التحرير لقناة «سي بي سي»، قبل أن يلتحق بها مقدم برامج، لكن جرى تجريده من ذلك الآن، فلن ينس له جهاز الأمن، أنه مارس الانتهازية بأدق معانيها؛ فعندما وجد الثورة وقد هزمت قوات الأمن فالتحق بها، وقال هذا ربي هذا أكبر. وفي ظني أن حسابه لم يبدأ بعد!
أما تامر أمين المعترف بعمله كمخبر، فقد أوقفوا برنامجه أيضاً، ولم يبق أمامه إلا أن يعود للتلفزيون المصري، كموظف به كان قد حصل على إجازة منه للقيام برعاية الأسرة، كما جاء في نص الاجازة، ومع أنه يظهر يومياً على الشاشة فإن هذا لم يمنع من تجديد الإجازة له في كل سنة لرعاية الأسرة وبالمخالفة للقانون، فقد كان في مهمة أمنية!
واللافت أنهم لم يحتفوا بعودته باعلان رئيس قطاع الأخبار أنه سيعود للشاشة قريباً كما احتفى بزنية الرجال توفيق عكاشة!
ولم يبق من الثلاثي المرح، سوى أحمد موسى، وإذ توقعت مبكراً أن يسرح السيسي كل أذرعه الاعلامية، فقد أكدت أنه سيبقي على موسى طويلا، لأنهما أبناء ثقافة واحدة، فيجمع بينهما «إعجاب المرء بجهله»، كما يجمع بينهما أن كلا منهما لم يقرأ كتاباً واحداً خارج المقرر الدراسي!
لقد بدأ السيسي ينسف حمامه القديم، بعد أن استولت الأجهزة الأمنية على عموم وسائل الإعلام، لكن فاته أن الإعلام كان قبضة عبد الناصر عندما هُزم وعندما مات، وإعلامه نفسه الذي انقلب عليه بعد وفاته، وقال فيه ما قال مالك في الخمر!
إن برنامج «للقصة بقية»، إضافة للشاشة الصغيرة، كما أن «المذيع المخبر» أداة خصم لاستنفاذ رصيد أي حاكم. إن وُجد له رصيد!
إنه الدبة التي قتلت صاحبها، فما أغنى عنه الحب العذري وما كسب!
صحافي من مصر
7GAZ
سليم عزوز