لا خصوصية في الجرائم الإرهابية، تتشابه كلها في الشكل والمحتوى والأهداف المتوخية. ما حدث في تونس في متحف الباردو، يمكن أن يحدث في أي مكان آخر من الكرة الأرضية مهما كانت الضوابط والتشدد الأمني، إذا توفرت الظروف والتواطؤات الداخلية والخارجية الضرورية لعمل إجرامي مثل هذا. ما حدث في فرنسا والدنمارك مؤخرا يدلل على هذا. لا مكان في منأى عن الجريمة الإرهابية.
ولا يحتاج الأمر إلى معرفة إدراكية كبيرة لاستكشاف جوهر هذا الفعل وقصديته في النهاية. للدولة الفتية في تونس ضعفها وربما أيضا نقائصها البنيوية والسياسية، لكن في كل الأحوال، يجب أن لا يتحول هذا إلى وسيلة لإرهاق الديمقراطية الناشئة والتشكيك فيها، مهما كانت مآخذنا عليها.
لأن ذلك يمكنه أن يحرف البلاد عن مساراتها الجوهرية. فتونس ليست ملكا لتونس، فهي منجز تاريخي مميز ينتظر الديمقراطيون منه، في العالم عموما، والعرب على الخصوص، أن يكون أول أنموذج عربي ناجح في تأسيس جمهورية جديدة، خارج نظام السلالات البدائية والدكتاتوريات المتوالدة منذ الاستقلالات الوطنية التي عاثت فسادا ودفعت بالعرب إلى التخلف والدوران في حلقات فارغة لا تؤدي إلا إلى المزيد من اليباس والجفاف.
لهذا كله، ينتظرها ويتصيدها أيضا القتلة في المسالك الصعبة لمنعها من التجدد والتطور والتجلي والتحول إلى أنموذج، أي الوصول إلى بر الأمان بالشكل الديمقراطي المميز. فالأنموذجية تعني في النهاية التمايز وإمكانية التعميم السهل، والانتشار والنجاح شبه المؤكد لتجربة ما من التجارب الحية. نريد لهذه الديمقراطية أن تنجح وتتحول إلى تجربة يمكن تحريكها نحو المستنقع العربي الخامل والميت والمتعرض اليوم إلى التفتت، لإنقاذه من موت كلي يتهدده في كل ثانية. ما يحدث من مشهدية عربية دموية يومية أمام أعيننا يجعلنا نرتبط بهذا الأنموذج كمن يلتصق بقشة قبل فوات الأوان. ما ينقص العرب اليوم هو هذا الأنموذج المرجعي والسلمي في عمليات التحول لأنها الثورة العربية الوحيدة التي خرجت من عنق الزجاجة ولم تستتبعها حالة تفكك وموت للدولة الناظمة. لهذا فتفادي الفخاخ القاتلة ونجاح التجربة التونسية أكثر من ضرورة وجودية عربيا، وليس فقط تجربة عابرة. تجربة تستطيع أن تصيب بعدواها بقية البلدان العربية لتجفيف الماء الآسن الذي غرقت فيه على مدار عصر الانحطاط، والقرن العشرين وبدايات هذا القرن مع الثورات الأخيرة، الذي ينبئ بعواصف لا أحد يدرك نتائجها وربما أهمها الموت النهائي لشيء اسمه البلاد العربية.
من هنا فنجاح الأنموذج التونسي أمر حيوي إذ تتوفر فيه علامات هذا النجاح الممكن التي يمكن تطويرها وتعميمها وتحديثها أيضا. مجتمع مدني، مثقف وواع. مكسب قانوني كبير فيما يتعلق بوضع المرأة. حركة سياسية خلاقة ومبدعة، تنتصر فيها العقلانية الخلدونية، مرجعية دينية شديدة التطور في نماذجها العالية التي مثلها الطاهر الحداد ومحمد طالبي وغيرهما ممن جددوا في الرؤية الإسلامية. أوروبا وجدت نماذجها الديمقراطية الحية في فرنسا وألمانيا وبريطانيا، فجرّت وراءها جزءا مهما من الديمقراطيات الفتية التي خرجت من نير الدكتاتوريات القاتلة، كما في إيطاليا وإسبانيا والبرتغال.
آسيا أيضا وجدت نموذجها في اليابان والصين والهند وإندونيسيا وكوريا وغيرها. أمريكا الجنوبية وجدت ذلك في البرازيل والأرجنتين بالخصوص.
ولا أتحدث عن النموذج الأمريكي الشمالي المعروف، الذي جعل من الديمقراطية والعدالة الاجتماعية رهانات حقيقية، ودفع رؤساء أمريكيون حياتهم لأجل ذلك، مثل لينوكولن وماك كيلني وكنيدي ثمنا غاليا لإنجاح هذا المشروع الوجودي، الذي بدونه ما عرفنا أمريكا التي نعرفها اليوم، التي أسست لخصوصيتها. حتى الأفارقة، في عز فقرهم وحروبهم الإثنية والتحررية، وجدوا نموذجهم في أفريقيا الجنوبية، الذي لم يُعمم لأن الوضعية مرتبطة جدا بخصوصية أفريقيا الجنوبية ويحتاج الأمر إلى قليل من التفكير والإبداع ليصبح هذا النموذج قابلا لأن يمس على الأقل جزءا من أفريقيا.
العرب وحدهم من ينقصهم هذا النموذج الذي سيقود حتما نحو تعميق الحس الديمقراطي. فقد فشلت كل النماذج العربية السابقة من الناحية الديمقراطية في تحييد الدولة عن السلطة ونظام الحكم، وهي الشرطية الأساسية للسير قدما نحو فرض النموذج. لا التجربة الجزائرية التي شكلت نموذجا تحرريا وفشلت في نموذجها الاجتماعي والسياسي، ولا العراق الغارق في الانقلابات وإبادة المعارضة، ولا في سوريا أيضا استطاعوا أن يتخطوا الأنانيات السياسية ومصالح المجموعات المرئي منها والسري.
هناك افتقاد كلي لحس الدولة والديمقراطية التي أصبحت مرادفا للخوف بالنسبة للأنظمة العربية، لأسباب تاريخية، ولكن أيضا لأسباب إستراتيجية حيث لا يُراد للعرب أن تكون لهم هذه الدولة الديمقراطية، لهذا يتم تدمير أية محاولة في النواة. من هنا يبدو واضحا أن ضرب تونس هو ضرب لكل التجارب العربية التي تحاول أن تتجدد سياسيا، وتجد مسلكها الديمقراطي. الأنموذج، معناه العدوى وانتقال التجربة إلى أمكنة أخرى. بعد الانتخابات الديمقراطية ظهر واضحا أن التجربة التونسية تخطت المرحلة الأولى في ثقافة الدولة، بدفع الجميع إلى إيجاد صياغة مشتركة للمرحلة الانتقالية، إذ يجب أن يعرف الإسلاميون والديمقراطيون وغيرهما من الحركات السياسية الكثيرة والمتشظية، أن لا أحد يستطيع أن يقود البلاد بمفرده. وإذا حاول أن يفعل ذلك، فلا مسلك آخر أمامه إلا التدمير والحرب الأهلية، أي أن ينهي أحد الطرفين الآخر، ليحكم في النهاية رمادا وضغائن لا تنتهي، وتتوالد باستمرار في ظل علاقات دولية شديدة التعقيد، وفي ظل فوضى لا شيء فيها خلاق. تحتاج تونس إلى تقوية الدولة والالتفاف حولها مهما كانت المبررات والنقائص، للحفاظ على المكاسب المحققة، وتدعيم القضاء ليلعب دوره كاملا لتأسيس دولة القانون، في عالم عربي بدأ يتجه نحو مسلك غابي، لا قانون يضبطه، القوي يأكل الضعيف بالنار والسلاح الذي أصبح سهل التداول بعد سقوط الدولة في أمكنة كثيرة. إن نشوء حلقات مسلحة داخلية وخلايا نائمة يتم تحريكها بشكل انتحاري كلما كانت الحاجة إلى ذلك، يبين إلى حد كبير أن هناك تواطؤات يجب الكشف عنها، وعلاقات تحتية تمرر الأسلحة مع الحركات المتطرفة في ليبيا على وجه الخصوص، لتحويل منطقة المغرب العربي إلى بؤرة توتر حقيقية مما يتوجب إستراتيجية مغاربية، تبدو بعيدة التحقق في ظل التمزقات المغاربية التي ستدفع بالجميع إلى عمق البركان الذي تقف اليوم على فوهته. كل بلد يظن أنه في منأى عن هذه النهايات الدرامية الوشيكة الوقوع.
سوق الأسلحة أصبحت رائجة بشكل فاضح، والمخدرات تملا الأسواق وتدمر البلدان المغاربية المنتجة والمستهلكة، والاتجار بالنفط المسوق من طرف المجموعات الليبية الإرهابية بأسعار رخيصة بتشجيع من الكارتلين الكبيرين المهيمنين على عالم اليوم: كارتل النفط وكارتل السلاح.
هذا كله أرجع الحلقة الإنمائية العربية عموما والمغاربية بالخصوص، إلى الوراء بقصد أساسي هو عدم السماح بنشوء دولة ديمقراطية حديثة وحيوية يمكنها أن تصيب بعدوى حقيقية بقية الدول العربية الأخرى، كما حدث ذلك في أيام الثورة.
ثلاثة أخطار تتهدد اليوم تونس ونموذجها التنويري: خطر الجبهة الاجتماعية في ظل غياب أية تنمية، المغامرة السياسية ممن يشعرون أن لديهم القوة الشعبية لفعل ذلك، والإرهاب الذي يشكل سندا غير مرئي لبعض التيارات السياسية المتربصة بتونس العقل والدولة المدنية، الذي يجب أن تُتخذ ضده كل الإجراءات القانونية الردعية. لا خيار أمام تونس إلا النجاح في نموذجها. فتونس لم تعد ملكا لتونس فقط.
واسيني الأعرج
* من الآخر .
* ( الإرهاب ) لا دين له ولا أخلاق ولا وطن ؟؟؟
** الإرهابيون المجانين قد يضربون في أي مكان فقط ( لإدمانهم )
ع القتل والتخريب وإشاعة الفوضى في ( المجتمعات المسالمة ) ؟؟؟
*** هم ضد ( الحضارة ) وهم شياطين الأرض ( قاتلهم الله ) .
شكرا .
خوفك على تونس الحبيبة فى محله و لكن ثقتنا بالله تجعلنا متفائلين .ما يحز فى النفس هو أن تجد بعض التونسيون يشككون فى “معجزة” ثورتهم و لا ينضرون الا الى “السلبيات اللتى ضهرت بعد الثورة” و كأنهم لا يقدرون بأن هاته السلبيات “طبيعية و عادية” ان لم تكن “اجبارية” بالرجوع الى الضروف اللتى أدت الى الثورة.شكرا لك أستاذنا على المقال و ربى يحمى تونس و يجعلها المثال اللذى يحتذى به .
ثار التونسيون على الظلم و الاستبداد فنجحوا في ذلك معلنين صراحة أن ثورتهم ليست للتصدير.ثم تمكنوا بعون الله بعد جهد جهيد من الانتقال من مرحلة البناء الديمقراطي الذي توج بانتخابات السلطات الثلاثة بكل شفافية الى مرحلة السير الطبيعي للدولة معلنين كذلك أن نموذجهم ليس للتصدير.و مع هذا هناك من يسعى الى ادخالها في أتون الارهاب مثل بقية البلدان التي قامت بها ثورات و لا يردونها أن تكون استثناءا.حفظ الله تونس من كل سوء انه ولي ذلك و القادر عليه.