اغراء العلامات المسجلة: تنظيم «الدولة» ومشتقاته

قدمت المخرجة اللبنانية دانيال عربيد سنة 2000 فيلما عن الحرب الأهلية في لبنان بعنوان «وحيدة مع الحرب»، وضمن أحداث الفيلم الوثائقي أتت لقاءات مع مقاتلين سابقين أحدهم تحدث عن نشوة القتل بصورة شبيهة بمشاعر مدمني المخدرات، فالحرب والقتل كانا يحققان له وجوده، وحنينه إلى الحرب مستمد من حياته الضائعة التي لم تجعله يصلح لإعادة التأهيل في أي موقع آخر بعد انتهاء الحرب.
هذه الحالة يمكن أن تفسر إلى حد ما تكاثر أعداد المقاتلين الشيشان في سوريا، حيث صنفوا بأنهم الأكثر عددا بين المقاتلين الأجانب، فهم خرجوا من ثقافة حرب مرعبة وكانت جاذبية الأسطرة لبطولات المقاومة الشيشانية التي اتخذت الطابع الإسلامي، تجعلهم يعتبرون المواجهة مفتوحة دائما، وبذلك أصبحت الحرب حياتهم، والسلام في المقابل فراغ مخيف لم يعتادوا على التعامل معه، عدا عن الاندماج فيه.
بذلك يمكن أن ينضاف إلى جانب المقولات التي تتحدث عن التعصب الديني مجموعة أخرى من العوامل التي لا يمكن اعتبارها ثانوية، مع أن تفسير الارتحال للقتال في سوريا بالتعصب الديني فكرة تحتاج إلى كثير من البحث والتأمل خاصة أنها فكرة مريحة وتكمن خطورتها في سهولة قبولها وترويجها.
نحو 93 جنسية تقاتل في سوريا، ويعني ذلك أن استبعاد عامل الصراع الطـــائفي وحده يصبح أمرا ضروريا، ففكرة تجنيد آلاف المقاتلــــين من أماكن متفـــرقة ومتنوعة تستند إلى ما هو أبعد من الفكرة الدينية التي يمكن أنها كانت جوهرية في استقطاب المتعصبين للمذهبين الشيعي والسني، ولكنهم في النهاية لا يمثلون سوى الأكثر تطرفا في القتال، ووراءهم آلاف من المقاتلين الذين يتحركون ميدانيا وخارج إطار المعادلة الطائفية، بعضهم متواجدون من أجل الحصول على فرصة للحياة ولو كانت من خلال المراهنة بالحياة ذاتها، وهذه النوعية يمكن أن تغذي الحرب في سوريا وفي كل مكان آخر.
المرتزقة لا يتجهون لمهنة القتال من أجل العامل المادي وحده، صحيح أنه عامل أساسي ولكن يمكن أيضا أن يعملوا في الجريمة المنظمة أو الفردية، وهذه المهن أفضل من الحرب، ففي دول كثيرة لن يتعرضوا في النهاية للإعدام ولن يفقدوا حيواتهم نتيجة امتهانهم لذلك، أقصى ما في الأمر هو السجن مدى الحياة. أحد الأسباب المهمة التي تصنع المرتزق وتغريه بالمقامرة بحياته تتمثل في إعادة إنتاج تجربته بصورة بطولية ومواراة النزعة الإجرامية التي دفعته للوقوع في مهنة الحرب.
الجيش الفرنسي يوظف فيلقا كاملا يسمى بالفيلق الأجنبي، وعادة ما ينضم لهذه القوة العسكرية المحترفة وعالية المســــتوى الرجــــال الذين يمتلكون ماضيا يودون التخلص منه أو العمل على إعادة تقــــديم أنفسهم للمجتمع، بالطــــبع يحصلون على مــــيزات عديدة، ولكنهم يدخلون في قطـــيعة كاملة مع ذويهم ومعارفهم على امتداد سنوات الخدمة، ولا يحتاج الأمر إلى كثير من الفطنة لاستنتاج نوعية المهام التي تناط بهذه الفئة من المقاتلين.
يعتقد بعض الباحثين أن العامل الديني هو الأساسي في استقطاب المقاتلين، ويرون أن التعويل على تفسيرات مثل الفقر وضعف المشاركة السياسية وما إلى ذلك أمور ثانوية، ويستدلون على ذلك بوجود الفقر والديكتاتورية في العديد من الأماكن حول العالم دون أن يترافق ذلك مع الإرهاب، والصحيح أنه لا يترافق مع الإرهاب ولكن ذلك يولد العنف والغضب اللذين يمكن لو وجدا تحريضا دينيا أن يتحولا إلى إرهاب يزيد عنفا عن الإرهاب الذي يمارس تحت يافطة الجماعات الإسلامية، ونمور التاميل يمكن أن تعتبر نموذجا للعنف والإرهاب خارج التفسيرات التي تتعلق بالتعصب الديني.
توجد عوامل الفقر وغياب العدالة الاجتماعية، وأيضا إنكار هذه العدالة من حيث المبدأ، فالحديث في كثير من الدول العربية لا يتوقف عند فشل العدالة الاجتماعية في التطبيق، ولكن عن أهمية وجودها، فلا ترى الدولة في العالم العربي ضرورة أصلا لوجود العدالة، وفي غير موقع يكون الأمر تصريحا كما حدث مع وزير العدل السابق في مصر حين رأى أن أبناء أصحاب المهن المتواضعة لا يمكنهم ولا يجوز لهم كذلك أن يلتحقوا بسلك القضاء، كما أن التضمين قائم في دول أخرى، ففي الأردن أخذت تعيينات وزارة الخارجية تكشف أن الدبلوماسيين والملحقين في أغلبيتهم الكبرى من أبناء الذوات، بالمعنى السياسي للكلمة.
الفقراء يمارسون العنف بصورة اعتيادية، والصور التي تتناقلها وكالات الأنباء عن أولمبياد ريو دي جانيرو مليئة بحوادث الاعتداء والسرقة، ولو وجدت هذه الفئات الفقيرة من يعطيهم الوعود بالحياة الأفضل، ومع وجود تقدير اجتماعي لفكرة الشهادة، لتسابقت على الموت في سبيل أي قضية مهما كانت فارغة من الداخل، في هذا السياق فالقصد هو توصيف حالة معينة وليس إدانة الفقراء، فما يتوجب الإدانة هو الفقر والمتسببين في حدوثه وتكريسه بوصفه ظاهرة طبيعية أصيلة لا مناص منها ولا خلاص.
الوضع في سوريا وصل لمرحلة من البشاعة أصبحت تستوعب جميع المخلفات البشرية من كل الثقافات، إن لم يكونوا بوصفهم مقاتلين عقائديين، فهم مرتزقة يمكنهم أن يبيعوا الموت ويشتروه أيضا، والكثير من مواطن الصراع الساخنة التي كانت تستوعب هذه الفئات أصبحت أقل توترا، فالتوجه للحلول الديمقراطية والتسويات الاجتماعية أخذ يطغى على الصراع في افريقيا وأمريكا الجنوبية، وبذلك أصبحت المنطقة العربية هي المقصد الأساسي لجميع من يرون تحقيق ذواتهم ممكنا في الحرب.
في حادثتي أورلاندو ونيس كان مقترفوا الفعل الإجرامي، الذي كان مريحا لكثيرين وصفه بالإرهابي، من الأشخاص الذين لم يعرف عنهم مسبقا ميولا دينية متطرفة، ولكنهم أقدموا على القتل العشوائي والأعمى تحت راية تنظيم «الدولة»، لا من منطق التطرف، ولكن لسببين رئيسيين، فمن ناحية أصبح تنظيم «الدولة» علامة تجارية لشريحة من الهوية العنيفة المناهضة التي تدين الجميع، وتمارس عدالتها من خلال اعتبار كل شخص خارجها هدفا محتملا ومشروعا، ولأنهم أيضا يستشعرون أن الموت الذي تزينه الوعود بالخلود وفكرة الشهادة يعتبر أرقى من الموت لمجرد الانتقام، ويصبح تبني الأفكار المتطرفة بأثر رجعي مجرد رهان على صورة البطولة، ولو كانت تتأتى من عصابة إجرامية منكرة يمكن أن مقترف الجريمة لم يعرف بصورة مباشرة أيا من أعضائها، وحتى يمكن أن كثيرا من المتعاطفين مع تنظيم «الدولة» يتخذون هذه الجملة من المواقف لأسباب نفسية دون أن تكون بالضرورة قناعات دينية.
يمكن أن الحرب على الإرهاب تمضي في الطريق الخطأ، وكثير من الشعارات المرفوعة من المتقاتلين في سوريا وعليها لا تعدو كونها علامات تجارية مسجلة سيرتديها عناصر تنظيم «الدولة» المحتملون والمستقبليون في أي لحظة، كما يرتدي الشخص الطبيعي قميص الفريق الذي يشجعه، ويبدو أن الضباب سيتزايد أمام من يبحثون عن جذور المشكلة في حالة تركيز البعض على النغمة الرائجة والتي تدور حول التعصب الديني والصراع الطائفي، بينما في الحقيقة تبقى الدوافع مشتتة بين غابات العقد النفسية ومستنقعات المشكلات الاجتماعية، وهو ما يحتاج لغير محترفي التحليل ومختصي الحركات الإسلامية والباحثين الاستراتيجيين الذين يملأون الفضائيات والمراكز البحثية الغربية.

٭ كاتب أردني

اغراء العلامات المسجلة: تنظيم «الدولة» ومشتقاته

سامح المحاريق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية