اقتباس

حجم الخط
0

يقال إن الموضة تقوم على الاقتباس، الحروب لا تحل المشاكل العالقة، بل تزيد تأجيج الصراع سواء في اللباس أو في الرسم، أو في أشياء كثيرة على المستوى الإبداعي. يقال أيضا إن الابتكار تطوير لفكرة مقتبسة.
لهذا تعود الأشياء القديمة مقتبسة من إبداعات الماضي أحياناأحيانا، لصعوبة إيجاد جديد يبهر المتلقي الحالي، وأيضا لأن ما تخفيه الذاكرة من حنين لتلك الأشياء يعتبر مخزونا جيدا لإنجاح هذه الإبداعات الجديدة. إنها الطريقة الأنجع للترويج لعمل جديد مبني على نجاح سابق.
أمّا الدراما التلفزيونية فمثلها مثل غيرها من إبداعات تقوم على تزاوج الصوت والصورة والكلمة، وقد دخلت باب الاقتباس معتمدة على أعمال روائية ناجحة، تمت معالجتها دراميا قبل تقديمها لجمهور بعضه على الأقل يُعتبر عاملا جيدا لإنجاحها.
حدث ذلك أيام زمان مع روايات كثيرة لنجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس وحنّا مينة، ولغيرهم من روائيين اعتمد عليهم كتاب سيناريو لكتابة أعمال درامية في قمة الروعة والجمال، ولاقت نجاحا جماهيريا كبيرا مثل مسلسل «أفراح القبة» الذي شاهدناه في رمضان الماضي. وقبله أو بعده سعت شركات إنتاج أخرى لتحويل نصوص روائية إلى مسلسلات، مثل «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي، و»ساق البامبو» لسعود السنعوسي، و»عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسواني، وحتى إن لم تلاق النجاح نفسه الذي لاقته كنصوص روائية، فإنها حققت نسب مشاهدة عالية، وأحالت جمهورا كبيرا للقراءة.
فقط أشعر بالحزن على صناع الدراما، الذين وقعوا في فخ الاعتماد على نجاح النّص فلم يبذلوا مجهودا كافيا لإنجاح أعمالهم الدرامية. ولا أدري بعد فتح الباب أمام الرواية العربية اليوم لتعتلي عرش الفضائيات دراميا، هل ستجد من يحسن تقديمها بشكل ناجح؟ أم أن الفشل سيكون حليفها، ما دامت الشروط قاسية عليها، خاصة حين أُخضِعت لمقاييس جمالية متطلبة من أجل جذب المعلنين؟ فمهما غامر المقتبس باختيار نص عميق وجميل، فإن العقبة الكبرى تكمن في الوجوه المطلوبة كواجهة لأي عمل درامي، وهي غالبا وجوه لا تخطر على بال الرّوائي خلال اعتكافه على اشتغال عمله.
عارضات الأزياء وملكات الجمال والحسناوات ذوات الوساطات القوية، اللواتي اقتحمن عالم الدراما، يُفقِدن في الغالب العمل الدرامي حرارته ونبضه، وما يزيد الطين بلّة عشرات الأقلام الإعلامية الهشة التي لا تكف عن التطبيل لهذه الوجوه لأسباب لا نعلمها. مع أن خريجات المعاهد وأكاديميات التمثيل كثيرات وجميلات وقديرات بشهادة المختصين، لكن شيئا ما يحدث اليوم في كواليس مشهدنا الدرامي، يخل بتوازن تلك الأعمال قبل خروجها للنور بشكل باهت ومخيب لآمال الروايات التي بنيت عليها.
حتى الممثلون الرّجال، أصبح حسن الخِلقةِ رشيقَ القوام أسبق للبطولة من غيره، لدرجة أن العمل كله يسقط في فخ استعراضياته التي لا تنتهي، والتي للأسف تعجب فئة من الجمهور الإسفنجي الذي يمتص أي شيء ويتقبله.
في المشهد العالمي نعرف جيدا أن القصة والرواية احتلتا منذ زمن بعيد منصات الدراما، سواء تلفزيونيا أو سينمائيا، و قد كتبت «نيويورك تايمز» حين نجح فيلم «العرّاب»: «فيما مضى كانت السينما تقوم على أفلام العصابات، أما اليوم فهناك العرّاب.. يا للروعة». وإن كانت رواية «العراب» لكاتبها ماريو بوزو قد حققت نجاحا كبيرا وغيّرت نوعية أفلام «العصابات» فإنّها وجهت خط الإنتاج نحو الاهتمام بالبنية والحدث، وهذا ما جعل الفيلم لا يزال مصنفا من بين أهم أفلام السينما الأمريكية، ولا يزال يجذب جمهورا جيدا، واعتبر علامة فارقة في صنع نوع معين من الأفلام، وهي أفلام تخاطب أعماقنا وتجعلنا حيارى أمام كم كبير من التساؤلات، دون أن ننحاز لطرف من أطراف العمل ورموزه. وغير العرّاب نتذكر الأشهر منه فيلم «ذهب مع الريح» وهو في الأصل رواية وحيدة بالعنوان نفسه لمارغريت ميتشل، تخطت على المستويين الأدبي والسينمائي كل التوقعات.
هذه النهضة الدرامية التي قامت على القاعدة الأدبية المتينة في هوليوود وأوروبا وروسيا تراها ستهب علينا أخيرا وقد فتحت أبواب «خزائن علي بابا» أمام الأعمال الأدبية الناجحة، التي نالت على الخصوص جوائز مرموقة مثل البوكر وكتارا؟
كم عملا رُشّح لحد الآن ليتحوّل إلى عمل درامي بتمويل أكيد؟ ومتى سنراه؟ وهل من حقنا إعلاميين ونقادا صف أول – بلا مؤاخذة ممن يملأون الساحة بالرداءة – أن نعطي آراءنا كما يفعل نقاد الصحف العريقة في الغرب؟
أقف عند حدود هذه الأسئلة وأنا أعرف أن الماكنة النّقدية عندنا تُشَغّل أحيانا بشكل يدوي قديم، ومنذ نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحالي ونحن لا نتقدّم خطوة واحدة في تقييم ما يقدم على شاشاتينا الصغيرة والكبيرة، مع أن السخافات تحتل غسيلنا الإلكتروني والورقي بامتياز. وإن كان البعض يعتقد أننا لم نحقق النجاح الكافي على المستوى الأدبي و الدرامي، فإنه مخطئ، فما زلت مصرة على أن الأعمال الجيدة لا تنقصنا، لكننا مقصرون إعلاميا، وأن الأبواب التي تفتح على عدة أصعدة لتكثيف الإنتاج الدرامي وتنويعه، فإن أبواب الإعلام تنغلق في صمت، وأقلام كثيرة تحاصر، ومنابر يٌضيّق عليها الخناق، إن كان ماديا أو معنويا، بفرض قائمة ممنوعات يلتزم بها الإعلامي حتى يحافظ على لقمة عيشه، وبالمقابل تزحف الرداءة على ما يراه وما لا يراه حتى تبتلع ركبتيه وأحيانا تبتلعه كاملا.
لدينا مشكلة أخرى، إذ يقال – ولا أدري إن كان الرّقم حقيقيا – أن شكسبير اقتبس أكثر من 300 مرة دراميا، من بينها 50 مرة لعمل «هاملت» و 80 لـ»روميو و جولييت».
أما أعمال ألكسندر دوما فقد اقتبست عشرات المرات، منها على سبيل المثال روايته «الكونت دي مونتي كريستو» التي قدمت دراميا حولي 32 مرة. ستيفن كينغ اقتبس 80 مرة للتلفزيون، عدا عن أعمال روائية أخرى اقتبست أكثر من 30 مرة للسينما.
فيكتور هوغو اقتبست روايته «البؤساء» 34 مرة بين السينما والتلفزيون، بدون أن نذكر ملكة القصة البوليسية أغاثا كريستي التي حولت رواياتها إلى أفلام ومسلسلات يصعب حصرها في رقم معين. أما غي دي موباسان فقد اقتبس أكثر من 130 مرة. ألبيرتو مورافيا أكبر مثير للجدل حتى بعد وفاته، لا يفتأ يعود سينمائيا والحديث عنه لا ينتهي. قائمة طويلة من الكتاب تقاطعت أعمالهم مع الكاميرا، ولا نعرف تحديدا هل عظمة إبداعهم هي التي رفعت الدراما للقمة، أم أن للدراما سحرها لجعل الأدب كائنا حيا بإمكانه أن يعيش كلما أخرجناه من حلّته اللغوية؟
هذه الأرقام تحيلنا إلى عجـــــزنا، أو عدم دخولنا في مغامرة الاقتباس وإعادة الاقتباس، وإنتــــاج النص الأدبي مرّات ومرات حتى نبلغ به مراحل النضج.
نحن لا نحب الارتماء في أحضان المغامرة، لدينا مخيّلة مليئة بالمخاوف، وكثيرا ما شككنا في قدرة الأدب على تخليصنا من الرتابة التي نعيش فيها. نحن على مقربة من النور المنبعث من نصوص كتاب نقلوا تجاربهم الإنسانية العميقة بإخلاص، لكن تنقصنا مصالحة حقيقية بين ما يكتب كأدب وما يكتب كسيناريو لموسم العرض القصير الذي لا يدوم أكثر من شهر.. وإن كنا متأكدين أن أغلب الأعمال الأدبية أعمال غير منتهية الصلاحية، فلماذا نلجأ لقصص قصيرة الأمد ونحولها لدراما، تسلينا لمدة شهر وتنتهي إلى الأبد؟

شاعرة وإعلامية من البحرين

اقتباس

بروين حبيب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية