هذا مقال لا يرشح بعطاء كثير، ولا هو يعد به؛ وليس في حجمه المحدود ما يسوغ التحدث بنغمة عالية أو لهجة قاطعة، على الرغم مما قد يوحي به عنوانه من اتساع وطموح أو زهو واستعلاء. إنما هو مقاربة لبعض ما نشر وينشر في تونس من مباحث في الأدب التونسي المعاصر، وهي مباحث بدأ ينهض بها جيل من الجامعيين، كان على رأسهم أستاذنا الراحل توفيق بكار؛ ضمن إطار معرفي أرحب، وبمناهج بحث ومحارق تحليل تنزع إلى إعادة ترتيب العلاقة بالنص التونسي المقروء أكان أدبيا أم فلسفيا أم دينيا، من جهة، وللتحرر من «المركزية الشرقية الشوفينية» التي تكاد تحصر الآداب العربية في ما نشر وينشره مشارقة البلاد العربية، من جهة أخرى.
وينسى كثيرون أن أول مدينة بناها العرب الفاتحون خارج جزيرتهم هي القيروان، وأن القاهرة المعزية إنما بناها المعز لدين الله الفاطمي، بعد خروجه من القيروان. وكان ابن بسام (ت ـ 543 هـ) صاحب «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» أول من نبه إلى «العقدة المغاربية» سليلة «العقدة المشارقية»، والنعت «مغاربي» يتسع لثقافة الأندلس وبلاد المغرب قديما. يقول بعد تفصيل :»إلا ان أهل هذا الأفق، أبوا إلا متابعة أهل الشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة، رجوع الحديث إلى قتادة (أبوالخطاب السدوسي) حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طن بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا على هذا صنما، وتلوا ذلك كتابا محكما».
تترجح مقاربة الجامعيين التونسيين لآدابهم بين الاحتكام إلى سلطة النص حينا، والاحتكام إلى سلطة القراءة حينا. وفي الحالين يتخذ النص موقعا متميزا، فعلى فلكه تتأسس القراءة، وفي مداره تجري، على الرغم من أنها تنفك عنه في بعض المواضع، ولكنها لا تكاد حتى يعقلها الباحث/ الناقد بعقال محكم من النص، عسى أن يحول دون انسياحها وتشتتها. وحتى لا أطوح بعيدا، أتمثل بكتاب محمود طرشونة «مباحث في الأدب التونسي المعاصر»، وهو يتوزع على ثلاثة أبواب: أولها مباحث عامة في الأدب التونسي المعاصر، وثانيها مباحث مخصوصة ببعض الكتاب التونسيين، وثالثها مباحث في أدب المسعدي. وقراءة طرشونة ليست بالقراءة النصية المحكومة بالقوانين الذاتية المحايثة للظاهرة الأدبية أو لبنيتها اللغوية. فالمحددُ الرئيسُ لهذه القراءة هو الموقع من النص، ولا مشاحة أن هذا الموقع إنما تتظافر في صياغته أعراف وعناصر متعاقدة، لعل أظهرها النص نفسه وجنسه الأدبي، وثقافة الباحث/ الناقد، والمحددات الاجتماعية والتاريخية… ولا مسوغ لذلك سوى أنها أعراف وعناصر وأمشاج تتحدر من داخل النص مثلما تتحدر من خارجه. وعلى هذا الموقع من النص، يقوم أساس القراءة، من حيث هي دمج للوعي الشخصي بمجرى النص المقروء. وأقدر أن في هذا إقرارًا منه بمرجعية النص ومرجعية القراءة معا، فللنص حياة تخصه وكيان يميزه؛ وللقراءة في ظل النص فسحة تحفظ للقارئ حقه في أن يعيش النص على الهيئة التي يرسمها الموقع منه، من جهة؛ وتحفظ للنص بالقراءة وفيها، حقه في أن يستأنف شيئا من طزاجته الأولى، من جهة أخرى. على أنها قراءة تتعالق فيها لحظة الميلاد ولحظة الاستكشاف، من غير أن يكدر صفوها ضجيج المصطلحات واحتدام النظريات، كما هو الشأن في كثير من الدراسات التي تحمل على الحداثة حملا، فتباشر النص بغير أدواته، وتعاينه من كل الكوى ما عدا كوة خصوصيته؛ وربما فصلته عن أبعادة الزمنية والمكانية المتشعبة. والأستاذ طرشونة واع بهذه المزالق التي تردى فيها كثير من النقد العربي المعاصر، حتى لكأنه نقد يسعى بأرجل خشبية؛ بسبب من استجلابه لمصطلحات ونظريات قد تكون مغرية، ولكن لا ينهض لها من أدبنا، سند قوي، ولا تقوم عليها حجة قاطعة. ومن ثمة نجده يضبط مفهوما للأدب يشمل كل مكوناته، ليبني عليه مفهومه لما يسميه «القراءة الشمولية»، والأدب في تقديره «لا يعدو أن يكون فكرا ووجدانا وصورا وكلمات وأشكالا، والقراءة الشمولية قراءة تسعى إلى الإحاطة بالأثر الأدبي من جميع أبعاده وملابساته».
وهذا عمل يقتضي معرفة عميقة بالعديد من العلوم الإنسانية التي تَشِجُ الصلة «بأصوات النص الناطق» بعبارته. والحق كان طرشونة وفيا لهذا المفهوم، في جل مباحثه؛ فقد زاوج بين السياقين الإبداعي والتاريخي، وسعى إلى توظيف كل ما من شأنه أن يضيء النص؛ بما في ذلك سيرة المؤلف التي أصبح أكثرنا في «المدرسة التونسية» ذات الأصول البنيوية، يعدها عاملا خارجيا. وهو في مواضع غير قليلة يعلق كبيرَ شأن على ظروف حياة المؤلف وألوان مزاجه وعلاقتها بتكوين نصه، «فالنص لا يقول إلا ما أراد الكاتب أو الشاعر قوله عن وعي أو عن غير وعي». ومن ثمة نحتْ قراءته في اتجاهين متعاقدين: من النص إلى القارئ، ومن القارئ إلى النص؛ وهي تدور على محورين: زمني (زمن النص) وفضائي ( فضاء الثقافة والتاريخ). على أن هذا النمط من القراءة، ولعله الأقدر على استيعاب القول في النص الأدبي؛ يثير أكثر من سؤال مربك، فهل نحن نقرأ النص من أجل أن نستحوذ على بعض معانيه أو دلالاته، ثم نلقيه كالصدَفة بعد أن نأخذ ما بها؟ أم أننا نقصد المعنى قصدا؟ وهل معنى النص هو المعنى الذي نقصده لذلك النص؟ أم هل هو حصيلة مزاوجة بين معنى القارئ والمعنى الذي نتوهم أن المؤلف أراده؟
وقد يتعقد السؤال أكثر كلما كان النص المقروء شعرا، وكثير من الشعر يتحدى أفهامنا بصوره الملغزة ورموزه المستعصية، فكيف يُطلب إذن من القارئ في مثل هذه الحال أن يفك عناصر الصورة، ويستحوذ على مدلول الرمز؟ ألا يجد القارئ نفسه حيال هذا النوع من الشعر، مضطرا إلى التأويل؟ أليس الدلالي هو فعالية الفهم التأويلي؟
إن «القراءة الشمولية» على الرغم من اتساعها لأهم مكونات النص، لا يمكنها أن تسد كل الفجوات التي تتخلله، أو أن تحاصر كل عناصره السائبة أو الغائمة؛ خاصة أن هناك نصوصًا في تاريخ الثقافات كلها تتخطى لحظتها التاريخية أو الانقلابات الحاصلة في هيئة كل مكان وزمان، لتَمْثُلَ في مختلف الأمكنة والأزمنة، وهي تحتفظ بالكثير من سرها وسحرها وفتنتها. فلعل القراءة إذن ليست سوى إعادة إنتاج النص الذي ينشأ بدوره «قرائيا» وهو يقرأ كل ما يدور في فلكه. وتتجلى هذه الإعادة في كتاب محمود طرشونة في مستويين: ففي معالجته لنصوص المسعدي، تعضد القراءة الكتابةَ أو هي تضفي على النص سمة الوجود. لأقلْ تجعله يوجد، أو هي تخرجه من طور العماء والمستغلَق إلى فضاء العلانية والتجلي. وفي هذا المستوى يمكن أن نقر بمحاولة رصينة من طرشونة، لإعادة ترتيب العلاقة بالنص. وفي معالجته لنصوص الشاعر محيي الدين خريف، يكشف النص عن وجوده أو طبيعته منذ المباشرة الأولى، حيث القراءة تستند إلى ثنائية الواحة/ المدينة أو هي تتمثلها. وفي حين يتحرر نص المسعدي لحظة القراءة من كاتبه، لينحت كيانه المتميز، وكأنه نص يعيد كتابة نفسه؛ يظل نص خريف لحظة القراءة، نتاجا موصولا بصاحبه؛ وكأنه لا يختلف عميقا عن الواقع الماثل للعيان الذي يمكن أن نراه ونختبره.
والأول نص سميك يشف عند القراءة من غير أن يَشِجَ الصلة بينه وبين معرفتنا السابقة. والثاني نص شفيف يحيل على واقع معروف. وها هنا نقف على منحى لافتٍ في هذه «القراءة الشمولية»، يتعلق بلغة النقد؛ فالأستاذ باحث أكاديمي، إلا أنه بقدر ما يتوخى في مدونة خريف لغة «مفهومية» (من المفهوم)، تمحو نفسها أو هي تلغيها لأن هدفها اكْتناهُ معنى ثابت في النص يصدر عن واقع مخصوص؛ فإنه يتوخى في مدونة المسعدي لغة «شاعرة». وهذا الترجح بين مستويين لغويين إنما مردهما إلى طبيعة النصين. والطريف هنا أن المسعدي الناثر هو الشاعر الذي يعرف كيف يجعل لغته إشارية رمزية، فتحضن الشعر أكثر مما تحضن النثر؛ في حين أن خريف الشاعر هو الناثر الذي يظل أسير لغة إشارية انفعالية قد تشحذ ذاكرة القارئ وتثير فيه انفعالات شتى؛ إلا أنها تحضن النثر أكثر مما تحضن الشعر. والأول لا معنى له إلا في أثناء القراءة، وكأن «جذور كل شيء ينطوي على معنى تمتد نحوه، وككأنها إلى أصلها تمتد». والثاني بحكم نثريته يكاد يكون موقوفا على دال واحد ثابت.
أخلص مما تقدم إلى أن هذه «القراءة الشمولية» قراءة قصدية يؤديها الباحث/ الناقد على أس من معرفته وثقافته. وهي من ثمة إعادة تركيب لهذه المعرفة أو الثقافة، من غير أن يسوق ذلك إلى القول إنها تلوي عنق النص أو تطوعه. هل هي قراءة استدلالية؟ لعلها كذلك.
٭ كاتب تونسي
منصف الوهايبي
الأستاذ الفاضل الدكتورمنصف الوهايبي المحترم : سبق أنْ أخبرتك بشأن ( الزّبور).وأول أمس فقط عثرت على مخطوطة الزّبورلديّ ؛ وهي من 150 مزمورًا.أرجو تزويدي بعنوان بريدك الإلكتروني كي أبعثها إلى حضرتك مباشرة كما وعدتك من قبل.أويمكنك استحصال بريدي الإلكتروني الجديد من السّيد محررالصفحة الثقافية المحترم ؛ مع التقدير.
شكرا د.جمال. سعيد بمتابعتك وبملاحظاتك الرشيقة. يمكنك التواصل معي على صفحتي في الفايسبوك أو على بريدي [email protected]