عندما تعرفنا على الأدب العربي، مع الدرس الأول، في المدرسة، والتأريخ الأدبي، ومنهجية تعليم الأدب، تعرفنا عليه، مُجزَءا، ومُعرفا به حسب العصور التاريخية. جاء الأدب مقرونا بعصره، ومرحلته التاريخية. فكان أمامنا، أدب العصر الجاهلي وصدر الإسلام والأموي والعباسي والأندلسي، ثم أخذ، من بعد، طابعا جديدا في التحديد والتعيين مع الأدب المعاصر والحديث.
إن اقتران الأدب بالعصر، أو الحقبة التاريخية، أو الحالة الحضارية (معاصر/ حديث)، جعل منه أدبا مقطَعا، يُعطي الانطباع بخضوعه لمفهوم القطيعة، وأن كل أدب له بداية وله نقطة يقف عندها وفق العصر والمرحلة. وقد انبثق عن هذا التأريخ تصنيف الأدب العربي إلى قديم وحديث. وتأثرت المنظومة التعليمية، خاصة الجامعية بهذا التوصيف، فجعلت متخصصين في الأدب القديم، وآخرين في الأدب الحديث، وأصبحنا أمام فئتين، واحدة تُقيم في الزمن القديم، تشتغل بأدبه، وتُدافع عنه، وتجعل منه الأرضية المثلى للأدب العربي، ويتحول دفاعها عن الأدب القديم دفاعا عن وجودها وتخصصها، وفئة ترى في الأدب الحديث انتصارا للحداثة، ويصبح دفاعها عن هذا الأدب، دفاعا عن حداثتها وزمنها وتخصصها، بل الأكثر من هذا، وصل هذا التضييق على مفهوم الأدب إلى تخصصات أكاديمية في جامعات عربية، إذ نلتقي بالتخصص في أديب واحد، أو منهج أدبي واحد. نصبح إذن، أمام مفهوم القطيعة في الأدب، واللاتواصل في تاريخ الأدب العربي. يبدأ الأدب موضوعا للانشغال في التفكير، لكنه يتحول تدريجيا، وحسب هذه المقاربة التصنيفية والتوصيفية والتأريخية إلى أداة لموضوع آخر(الزمن القديم/الكلاسيكي أو الزمن الحديث/الحداثة). وضع، يتطلب إعادة النظر في منطق التعامل معه، من أجل مقاربة شمولية للأدب، باعتباره حالة تعبيرية رمزية متواصلة في التاريخ والزمن والتجربة. من بين المشاريع المعرفية الفكرية التي تسمح لنا بإمكانية تجديد النظر في وضعية الأدب في الفكر العربي، نستحضر تجربة الناقد المغربي عبد الفتاح كليطو، الذي يُقدم نموذجا متطورا علميا ومنهجيا ومعرفيا لشكل التعامل مع الأدب العربي خارج منطق القطيعة، وبعيدا عن فكرة اللاتواصل. قبل أن نقف عند التصور الذي يقترحه في تعامله مع الأدب، نتأمل محددات فكره النقدي. يقول عبد الفتاح كليطو في أحد حواراته:» إن تصنيفي في دارس للأدب القديم ليس صحيحاً تماما، ثم أنني أعتمد في كتاباتي على نصوص قديمة، ولكنها بالنسبة لي عبارة عن نقطة انطلاق. فما يهم في نهاية الأمر هو ما أنجزه انطلاقاً من قراءاتي، وقد تكون نقطة الانطلاق من الأدب الحديث الفرنسي أو الإسباني أو الألماني»، إنه ينتقد تصنيفه في الأدب القديم، ويعتبر اشتغاله بالأدب القديم نقطة انطلاق لدراسته للأدب بشكل عام، من دون أن يعني ذلك إقامة دائمة فيه تخصصا وانشغالا واهتماما. وبالعودة إلى سيرة الحياة الفكرية والمقروئية لعبد الفتاح كليطو، سنلتقي بناقد/باحث يقيم نوعا من التوازن في سفره المعرفي بين الآداب العالمية والأدب العربي في مختلف عصوره وتجلياته، وأيضا بين اللغتين العربية والفرنسية، ولهذا سيعاني كليطو أيضا من تصنيف آخر، عندما يجعله البعض فرانكوفونيا، ينتج معارفه النقدية بالتعبير الفرنسي، وآخر يعتبره تراثيا، يشتغل بالسرود التراثية العربية الكلاسيكية. ولهذا، يصعب تصنيفه ضمن متخصص في أدب قديم، أو حديث، أو في الأدب الفرنسي، أو الأدب التراثي العربي، كما أنه يخرق التصنيف المنهجي، لكونه لا يتقيد بمنهج واحد، ولا يعتمد مقاربة واحدة في دراسته للأدب، إنما ينطلق من تمثله للمناهج الأدبية، غير أنه يستثمرها لصالح النص، مُضيفا إليها من شخصيته، ومن حسه المعرفي، ما يجعل من المنهج الأدبي طابعا خاصا بتفكير كليطو، الذي يظل مهووسا بالشك والسؤال، لا يقتنع بالظاهر، يحاور الضمني، ويجعل قراءاته المتعددة عيونا بها يسافر في لاوعي النص. لهذا يعتبر كليطو نفسه محللا للنصوص أكثر من ناقد أو كاتب. عندما نُعيد قراءة السرود التراثية العربية بعين كليطو، نكتشف عمق النصوص، وفي الوقت ذاته نكتشف بلاغة الوصول إلى هذا العمق، إذ يصبح السفر فيها يحتاج إلى زاد من القراءات الجيدة، ويدعونا ذلك إلى إعادة النظر في طبيعة زادنا، وعلاقتنا بمفهوم القراءة. يُجيد كليطو السفر المعرفي في الأدب، وفي منطقه، وليس في العصور التي أنتجت الأدب. عندما يفكر كليطو في السرد التراثي العربي، ويفكر في مؤلفيه، فإنه ينطلق من التفكير الراهن، ومن أسئلة الزمن الحاضر، وهي أسئلة تنتمي إليه، إلى كليطو باعتباره مفكرا وناقدا ينتمي إلى زمن تطورت فيه المناهج والمفاهيم ونظرية الأدب والسرد، وبالتالي يُصبح سفره باتجاه التراث، سفرا بأسئلة الحاضر، وتجربة الآداب العالمية، سفر مُحصَن بذاكرة القراءة المتنوعة والمتعددة باللغتين العربية والفرنسية، ولهذا نجد كليطو، يقدم سيرته باعتبارها سيرة قراءاته، وليست سيرة كاتب أو ناقد أو أكاديمي. إنه يقترح نفسه دائما باعتباره قارئا أكثر من كاتب. يحقق كليطو هنا نوعا من الحوار المعرفي والفكري بين مختلف تجليات الأدب، وهو بهذا يتجاوز المفهوم التعليمي للأدب باعتباره جزرا من العصور (أدب جاهلي، صدر الإسلام، أموي..)، كما يدحض فكرة التخصص المنهجي، لكون المنهج ما هو إلا وسيط منهجي ينير الطريق إلى النص، في حين تبقى شخصية المُحلل هي المؤهلة – أكثر- للسفر في بنيات النص. عندما نتأمل الشخصية المعرفية لعبد الفتاح كليطو، وطريقة تحليله وتفكيره وكتابته، سنلاحظ حضور الآخر، سواء باعتباره قراءة وفكرا وكتابا ونظرية، أو باعتباره كاتبا وصديقا وقارئا. وهذا الآخر/الآخرون يُساهم في تشكيل كتابته، ويعترف كليطو نفسه بحضور هذا الآخر، يقول في أحد حواراته التي شملها كتابه « مسار» الذي جمع فيه مجموعة من حواراته: « كل كتاب من كتبي وراءه شخص شجعني على كتابته. وهذا الشخص يحدد بمعنى ما لغة الكتاب. فـ»الأدب والغرابة» كُتب بتشجيع من محمد برادة. «الكتابة والتناسخ» بتشجيع من «ط ت. تودوروف» و «العين والإبرة» كانت وراءه مؤرخة لوسيت فالانسي». يفتخر كليطو بقراءته، أكثر من كتاباته، وهو يعتبر أن الكاتب الجيد هو قارئ جيد، ويردد مع بورخيس قوله «ليفخر البعض بكتاباتي، أما أنا فأفتخر بقراءاتي». ولعلنا، نلمس عمق قراءات كليطو من طبيعة كتاباته، وشكل كتبه، فداخل كتاباته، لا نلتقي بالتنظيرات القادمة من الآخرين، ولا نجد تكرارا لأفكاره، ولأن كل كتاب يقترحه كليطو على القراءة، يشبهه في قراءاته وتصوره للأدب، وسفره المعرفي في الآداب العالمية. ولهذا، يتعذر علينا تصنيف كليطو داخل أدب كلاسيكي تراثي، أو حديث، أو جعله منتصرا لمنهج بنيوي أو سيميائي أو آخر، أو مدافع عن أدب محلي أو إقليمي، إنه محلل للنصوص برؤية مبدعة، تجعل منه منهجا علميا ومعرفيا لمقاربة الأدب في منطقه. ولهذا، فهو عصي عن التقليد، أو التكرار، لأن فكره النقدي خارج التصنيف والتوصيف.
إن تفكيك شخصية كليطو، وإعادة التفكير في كتاباته، وحواراته، يجعلنا نُعيد النظر في شكل التعامل مع الأدب كما هو قائم الآن في المدرسة والجامعة والتخصص العلمي والنقد الأدبي. بهذا، الشكل تتحول شخصية مُحلل النصوص، كما يفضل عبد الفتاح كليطو أن يصف وضعه الاعتباري، إلى منهج علمي ومعرفي للوعي بمفهوم الأدب، ومن هذا الوعي تتأسس طرق تدريسه وقراءته ونقده. وبهذا الحضور الفكري- النقدي العربي نستطيع أن نساهم في الحوار الفكري العالمي.
٭ كاتبة مغربية
زهور كرام