الأرض العربية المتكسرة بعين «نيويورك تايمز»

أفردت مجلة «نيويورك تايمز» التي تصدرها صحيفة «نيويورك تايمز»، في عددها الأخير الصادر في 11 أغسطس 2016 لقصة واحدة فقط شغلت كل صفحات المجلة حملت عنواناً مثيراً وتراجيدياً في آنٍ معاً: « الأرض المتكسّرة: كيف تفرّق العالم العربي» للكاتب المخضرم سكوت أندرسون. وثقّلت المجلة في مقدمتها القيمة النوعية والاستثنائية لجوهر ذلك الموضوع الوحيد، التي لولاها لما كانت اتخذت ذلك القرار التاريخي، ولأول مرة في تاريخ المجلة العريق باختيار قصة واحدة، تصلح لأن تكون كتاباً بامتياز لتكون عماد عددها الأخير بكليته.
وقد اعتمد كاتب المقال البحثي في بناء حبكة مقاله على أسلوب سردي تحليلي لسبر آراء وتجارب ستة أشخاص من مصر، ليبيا، سوريا، العراق وكردستان العراق، مدمجاً فيها «كارثة اجتياح العراق» التي شخّصت بداية العصر الأخير في ملحمة «تكسّر العالم العربي»، والتي قادت لظهور تنظيم « الدولة الإسلامية» و«أزمة اللاجئين الدولية»، والتي سبقتها فصول عديدة تعود جذورها إلى التآمر الغربي على اقتسام الأرض العربية من بين ركام الدولة العثمانية، واصطناع كيانات سياسية فيها على شكل دول تابعة بشكل مباشر أو غير مباشر لأولئك المستعمرين، بحيث تسهل عليهم إدارتها وفق منهجية السياسة الذرائعية الغربية القائمة على مبدأ «فرّق تسد».
وعلى غير دأب المنهج الأكثر شيوعاً في ما يمكن أن تقرأه في صفحات «نيويورك تايمز» اليومية، أو في مجلتها التي ترتكز في معظم الأحوال عند تغطية الدراما السياسية المزمنة في العالمين العربي والإسلامي، على رؤية استشراقية متجذرة، ومبدأ دس السُّم في الدسم، فقد تحلى كاتب المقال بدرجة مرهفة من الموضوعية، والرؤية التحليلية الثاقبة في غير مستوى وموضع في مقاربته للقروح المزمنة في الجسد العربي، التي قد يكون أهمها وأكثرها راهنية هو استخلاصه حول أسباب نشوء التنظيم الداعشي، كونه على عكس ما يُصَوّر في الغرب في كون عماد تحريك عديد ذلك التنظيم هو «وعيهم المتطرف إسلامياً»، حيث رأى الكاتب أن الحماسة الدينية لم تشكل إلا جزءاً تكميلياً في حشد الكوادر البشرية المنخرطة في التنظيم السرطاني، بينما كان إحساسها بانعدام الأفق في حياة طبيعية، والإحساس المترسخ بظلم القوى الغربية لأفرادها، ولأحلامهم بحياة طبيعية في أوطانهم، الذي أفصح عن نفسه بشكل جلي في كارثة اجتياح العراق عام 2003، وتهشيم بنيان المجتمع والدولة العراقيين، وتركهما فريسة لسياسات تقسيم المجتمع بشكل قسري على أسس طائفية ومذهبية، ومن ثم تحريك كل الإمكانيات المهولة لدى مستعمري العراق الجدد، والمتقنين لفن اللعب على أوتار أولئك الفرقاء المصطنعين، وحشدهم ضد بعضهم وفق معادلة مستنسخة عن تلك التي قسمت أرض العرب إلى دويلات متناحرة حتى في أقصى حالات السلم الظاهري في ما بينها؛ بما يسهل على مستعمريها الذين لم يبارحوها إلا شكلاً إدارة وكلائهم المحليين المكلفين بتنفيذ أوامر المستعمر، سواء على طريقة صدام حسين بالدخول في حرب السنوات الثماني العجاف ضد إيران، أو على طريقة نوري المالكي في فتح أبواب سجني التاجي وبعقوبة في يوليو عام 2013 على طريقة أفلام هوليوود، التي شكل الهاربون منها نواة قيادة التنظيم الداعشي بأسره.
وإضافة إلى تواضع مساهمة العنصر الديني في صناعة التنظيم الداعشي يستخلص الكاتب، وفي غير موضع من المقال، بأن غياب الهوية الوطنية إلى درجة شبه مطلقة في سورية والعراق، عندما قام الغرب ممثلاً ببريطانيا وفرنسا باقتسام أنقاض الدولة العثمانية، والتنكر لوعودهم للعرب التي لخصتها مراسلات الشريف حسين مع ممثل الحكومة البريطانية هنري مكماهون عام 1915، وقصة لورنس العرب التي شكلت عنوان الكتاب الأخير للكاتب سكوت أندرسون نفسه المعنون بـ«لورنس في بلاد العرب: الحرب، الخداع، الرعونة الإمبريالية، وصناعة الشرق الأوسط الحديث»، حيث يشير الكاتب إلى تجذر الإحساس بفقدان الهوية الوطنية في عمق ووجدان كل الذين قابلهم بدرجات مختلفة بين الدول العربية، كان أكثرها في سورية التي تمَّ تقزيمها على عدة مراحل من سورية الكبرى، وبدرجة أقل في العراق الذي تمَّ تصنيعه جراحياً بضم ثلاث ولايات عثمانية هي البصرة وبغداد والموصل، على الرغم من أنَّ تلك الأخيرة كانت في النسخة الأولى من اتفاقيات سايكس بيكو تابعة للحكم الفرنسي في سورية، وكانت دير الزور السورية تابعة للانتداب البريطاني في العراق. ويتتبع الكاتب بحرفة صحافية ملحوظة حقيقة فقدان الهوية الوطنية لدى أبناء الدول العربية المصنعة بأيدي مستعمريها بحقيقة مقاومة أولئك الأخيرين لكل توجه قومي استقلالي حقيقي في المنطقة العربية، سواء كان ذلك في إجهاض التجربة الناصرية فعلياً في نكسة حزيران، أو مشروع عبد الكريم قاسم الوطني في العراق، لصالح تصنيع النظم الديكتاتورية وتقويتها للقيام بعملية إجهاض النمو الطبيعي لكل المجتمعات العربية المقموعة، وتهشيم قوى المجتمع المدني فيها، وقطع الطريق على تأصيل مفهوم الدولة الوطنية في المجتمع الحاضن لها عبر تطور طبيعي، كما حدث في كثير من دول العالم المتقدم، سواء عن طريق الاقتصاد، أو اللغة، أو الثقافة، أو الجيش الوطني، الذي يصهر مواطني المجتمع للدفاع عن المجتمع ليشكل ذلك الجيش اللبنة الأولية في تحوله إلى وطن ودولة لكل أفراده، في عقد اجتماعي مشهر أو مضمر، وبدلاً من ذلك تحولت الجيوش العربية إلى مليشيات تابعة بشكل أو بآخر للقائد المفدى المخلص المنزه عن كل زلل أو خطل، مهمتها الأولى توطيد نظامه، وتحقيق انتصارات سياسية وعسكرية خلبية بها، وإبادة مجتمعاتها إن تمردت قليلاً أو كثيراً سواء في أقبية التعذيب ودهاليز المعتقلات التي أصبحت مدناً مصغرة في كثير من الحواضر العربية، أو بالدبابات والعربات المصفحة، أو بغاز الخردل، أو بالبراميل المتفجرة، وهو ما مثّل محور التطابق الذي لم يتغاير بين كل الديكتاتوريين العرب، والتي لن تخيب ذاكرة القارئ الفطن عن استرجاع أمثلة كثيرة عن كل منهم من المحيط إلى الخليج.
وعبر كل تضاريس المقال البحثي المطول يستطيع القارئ الحصيف أن يستنتج بشكل موضوعي العلاقة السببية التاريخية بين اغتيال حق العرب في تقرير مصيرهم منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وتقسيم أرضهم، واستعمارها بشكل مقيم إبان حقبة الانتداب، أو بالوكالة راهناً، وسرقة ثرواتهم بشكل صريح أو موارب، وتوطيد حكم الطغاة العرب للحفاظ على سهولة هروب ثروات الشعوب العربية المسروقة إلى خزائن المصارف الغربية، واستخدام التطرف الديني في مراحل كثيرة من قبل أولئك الطغاة لتحقيق مصالح سادتهم وحماة عروشهم، كما كان في عملية تصنيع المجاهدين الأفغان في ثمانينيات القرن المنصرم، وجيش تحرير كوسوفو في تسعينياته، من دون التفكر بأن ذلك هو قدح للنار التي لا تستطيع إلا أن تشرأب في الهشيم العربي، الذي كان نتاج قرن من الزمن من اللقاح السفاحي بين سياسات الغرب الاستعمارية الفجة، بغض النظر عن تزويقاتها اللغوية بمصطلحات حقوق الإنسان والديمقراطية، وبين مفاعيل تسيد طغاة العالم العربي الذين هم في جوهرهم نتاج للسياسات الغربية نفسها، والتي ليس من الطبيعي إلا أن يتمخض عن المسخ الداعشي، وما قد يستنسخ عنه، أو يتقمص صورته القبيحة، في قابل الأيام خارجاً من رحم الأرض العربية المقروح، وهشيمهاً الذي ينتظر أوان أن يلتهب.

٭كاتب سوري
 

الأرض العربية المتكسرة بعين «نيويورك تايمز»

د. مصعب قاسم عزاوي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سعادة فلسطين الصين:

    مع التحية لكن ليس صحيحا ولا داعي للترويج اكثر من اللازم لانصاف الحقائق ، اعتبار المسخ الداعشي نتاج السياسات الاستعمارية القديمة ليس الا نصف الحقيقة ومراوغة فكرية ، هو ليس الا مجرد نسخة برمجية جديدة لتلك السياسات إياها ، ذاتها تماما لكن بمواصفات وتحديثات جديدة لان ” فيروس ” ربيع الشعوب العربية عام ٢٠١١ افقد النسخة القديمة صلاحيتها ، تحديث ديني للنسخة الدكتاتورية لكن المنتج هو نفسه ، الاستبداد الذي تكلم عنه الكواكبي قديما لا اكثر ولا اقل . الكاتب الامريكي يعرف ذلك تماما لكنه لا يقولها ، هنا ينبغي الشك والتساؤل حول مصداقيته العلمية وليس الاشادة المتسرعة المجانية !

  2. يقول Rabih Alrabi:

    لا يزال السؤال الاهم الذي ينتظر ان يطرح وان يجد الاجابه عليه وهو: كيف استطاع الغرب ولا يزال يستطيع ان يجد من ابناء هذه الامه المنكوبه من لديه الاستعداد لان يقوم بهذا الدور القذر كطاغيه مستبد بالوكاله عن القوى الغربيه والاستعماريه في تدمير حاضر هذه الشعوب ومستقبلها والعبث بمقدراتها على النحو الذي ذكره الكاتب..؟؟ وبلغه اكثر بساطه لماذا يسهل على الغرب ان يجد من بين العرب خونه وعملاء لا تتواجد عند غيرهم من امم الارض الا بالنزر اليسير..؟؟

إشترك في قائمتنا البريدية