■ السعودية ارتكبت خطيئة كبيرة بإعدامها 47 شخصا مرة واحدة، من بينهم الشيخ نمر باقر النمر، لكن إيران ارتكبت ثلاث خطايا، الأولى أنها ركزت على إعدام الشيخ النمر فقط، وبالتالي أعطت الحدث بعدا طائفيا، والثانية أنها ارتكبت انتهاكا للقانون الدولي بالسماح للمتظاهرين باقتحام السفارة السعودية في طهران والقنصلية في مشهد. والخطيئة الثالثة أنها أنقذت السعودية من ورطة أمام الرأي العام العالمي وأعفتها من أي إحراج أو مساءلة أو إدانة، وحولت المشهد من الحديث عن إعدام هذا العدد الكبير من المواطنين السعوديين إلى التركيز على مسلكية إيران غير المبررة وغير المقبولة.
خصوصية حادثة الإعدام الأخيرة
أثار إعدام 47 شخصا في السعودية في بداية العام الجديد استهجان العديد من المحللين والمراقبين والمعلقين، ليس لأن السعودية تعدم لأول مرة. فقد ختمت عام 2015 بنحو 152 حالة إعدام، لكن ما حدث يوم السبت 2 يناير يختلف عن الحالات السابقة بثلاث ميزات، أولا العدد الكبير الذين تم إعدامهم في وجبة واحدة، وهو ما لم يكن معهودا من قبل، حيث لم يكن، على حد علمنا، يتجاوز عدد المعدومين في وجبة واحدة عدد أصابع اليدين في أقصى الحالات. ثانيا أن من بين المعدومين رجل دين معروف هو الشيخ نمر باقر النمر، الذي أثار اعتقاله موجات احتجاج وتدخلات عديدة لإنقاذه، من بينها ما قام به الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، من إثارة للموضوع في أكثر من مناسبة. والسعودية تعرف سلفا أن إعدامه يختلف عن إعدام بقية المجموعة وأن إعدامه سيرسل موجات اهتزاز بعيدة المدى مثل، إعدام سيد قطب في 29 أغسطس 1966، الذي شكل رخصة للحركات الإسلامية لامتشاق السلاح بعد أقل من عقد من الزمان، أو إعدام المرجع الشيعي الأعلى محمد باقر الصدر (والد مقتدى الصدر) في العراق في 9 أبريل 1980 مع أخته بنت الهدى، حيث أطلق إعدامه شرارة تحول المعارضة الشيعية لنظام صدام حسين إلى حركة مسلحة تلقفتها إيران ودعمتها، إلى أن أجهزت عليه بالتعاون مع المحتل الأمريكي. أما السبب الثالث لقيام هذه الضجة حول الإعدامات فهو أنها تمثل حالة غضب ونرفزة وعنجهية سعودية غير طبيعية، وهي التي اعتادت أن تمارس سياستها خلف الكواليس وتحاول أن تظهر على المسرح بمظهر الرجل العاقل الرزين الهادئ المتروي، الذي لا يقدم على عمل بدون دراسة وتمعن شديدين.
فما الذي دفع السعودية لمثل هذا الإجراء ولماذا اختارت هذا التوقيت في بداية العام؟ كيف للنخبة الحاكمة في السعودية ألا تقدر الأمور وتتحفظ قليلا على حجم وطريقة الإعدام؟
إننا نعتقد أن السعودية اختارت هذا التوقيت وهذا العدد الكبير من المحكومين بجرائم قد لا يرقى معظمها لمستوى عقوبة الإعدام، وهي تعرف تماما وتقدر أن رد فعل إيران وحلفائها سيكون عنيفا، وبالتالي ستتورط إيران في عملية تشويه لسمعتها، بعد أن خرجت من عنق الزجاجة، وأصبحت على أبواب رفع العقوبات وتحرير الأموال المجمدة ولعب دور إيجابي في البحث عن حلول للأزمتين السورية واليمنية. لقد جاء رد فعل إيران الانفعالي بالضبط كما تمنته السعودية، لإعادة طرح موضوع أهلية إيران للانضمام للمجتمع الدولي، وإعادة فرض طوق من العزلة عليها بدون أن تفتح صفحة جديدة في العـــــلاقات مع دول العـــــالم كدولة مســــتقرة ومسؤولة وملتزمة بالقانون الدولي ونصوص المعاهدات التي وقعت عليها، خاصة أنها تستعد الآن لجني ثمار رفع العقوبات عنها، وإطلاق مليارات الدولارات المجمدة في نهاية هذا الشهر.
من جهة أخرى فإن السعودية تعيش حالة من التوتر الداخلي الكبير، على ضوء الأوضاع التي تعيشها المملكة وتورطها في حرب اليمن المكلفة التي تقدر بمليار دولار شهريا، كما يقول الكاتب ديفد إغناتيوس في مقال له في «الواشنطن بوست» تحت عنوان: «الأخطاء المكلفة في مملكة يعصف بها القلق» يوم 5 يناير. فالحرب اليمينة لم تحقق النتائج المرجوة، وأسعار النفط هبطت هبوطا مخيفا، وتورط السعودية في الصراع السوري لم يسر كما كانت تتمناه المملكة، بل كان البوابة التي دلفت منها إيران لتكون عاملا مهما في الحل، وبالتالي تأهليها لتكون قوة إقليمية فاعلة، خاصة بعد توقيع الاتفاقية حول المنشآت النووية الإيرانية. أضف إلى ذلك أن برنامج الإصلاح وتنويع مصادر الاقتصاد كي ينتهي الاعتماد على النفط، الذي طرحه الأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد، بدأ يتعثر بسبب تحديه لسلطة ونفوذ كثير من الأمراء، بالإضافة إلى معارضة القوى المحافظة في البلاد التي تعودت على نمط معين من الحياة ولا تريد أن تشاهد تغييرا جذريا في فترة قصيرة. كل هذه العوامل أدت إلى زيادة التوتر الداخلي والقلق وضياع البوصلة والتخبط في القرارت، مثل قرار الإعدام الجماعي لسبعة وأربعين شخصا مرة واحدة بتهم غامضة ومطاطة تستند إلى قانون الإرهاب.
فحسب قانون الإرهاب الذي سنته السعودية عام 2011 ودخل حيز التطبيق بعد إقراره من مجلس الوزراء بتاريخ 16 ديسمبر2013 بهدف تطويق الاحتجاجات التي بدأت تبرعم هناك وهناك بتأثير من موجات الربيع العربي في بداياته الواعدة، يجوز أن يعتبر إرهابيا «كل من يحرض على تغيير النظام في المملكة وتعطيل النظام السياسي للحكم، أو بعض مواده أو الإساءة إلى سمعة الدولة أو مكانتها، أو إلحاق الضرر بأحد مرافق الدولة أو مواردها الطبيعية، أو الاعتداء على السعوديين في الخارج». ويحق لوزير الداخلية حسب هذا النظام الأمر بمراقبة «الرسائل والخطابات والمطبوعات والطرود وسائر وسائل الاتصال والمحادثات».
إيران والصراع بين قوى الاعتدال والتطرف
لكن لماذا تصرفت إيران بهذه الطريقة الفجة باقتحام السفارة والقنصلية؟ هل هناك من يريد أن يعيد إنتاج إيران 1979 عندما تم اقتحام السفارة الأمريكية وحجز الرهائن الخمسة والخمسين لمدة 444 يوما؟ أيا كان الدافع فقد أدى هذا التصرف الإيراني إلى خلق حركة تضامن مع السعودية، امتدت إلى دول عديدة في منطقة الخليج والعالمين العربي والإسلامي ومجلس الأمن الدولي الذي أصدر بيانا بالإجماع يدين هذا الاقتحام المرفوض، الذي يعتبره مخالفا لاتفاقيتي فيينا لعامي 1961
و1963 المتعلقـتيــن بحصانة السفارات والقنصليات. لقد تناسى الناس حادثة الإعدام الجماعية وأصبح التركيز على انتهاك الحصانة الدبلوماسية للسفارة والقنصلية وهو ما تريده السعودية بالضبط.
نعتقد أن إيران ما زالت تعيش مرحلة الصراع غير المعلن بين الاتجاه الليبرالي المنفتح الذي يمثله روحاني، ونظام الملالي والمتطرفين والمحافظين، الذين لا يريدون أي تقارب مع الغرب بشكل عام ومع أمريكا بشكل خاص. كما يعتبر هؤلاء أن إيران دولة تمثل شيعة العالم وواجبها أن تقف مع أي شيعي يتعرض للاضطهاد، بالضبط كما تعتبر إسرائيل نفسها ممثلة ليهود العالم تنتصر لهم وتدافع عنهم وتحمل جثامينهم لدفنهم فيها، عندما يقتلون كما حدث لثلاثة يهود قتلوا في الاعتداء على مجلة «شارلي إيبدو» الباريسية في يناير 2015 . هذا التيار المتشدد لا يريد للرئيس روحاني ووزير خارجيته المحنك محمد جواد ظريف أن يستمرا في سياسة الإصلاح والتأهل لمرحلة ما بعد العقوبات. وكما تقول الكاتبة دينا أسفنديار بمركز العلوم والدراسات الأمنية بكينغ كوليج بلندن «إن المتشددين رأوا أن حرق السفارة السعودية طريقة رائعة لتشويه روحاني وجعل الأمر يبدو وكأنهم المسيطرون على الأمور، خاصة وهم يستعدون للانتخابات البرلمانية في فبراير المقبل».
حاول روحاني أن يلملم آثار هذا الحادث الخطير فوزع رسالة على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الـ 193 وقدم اعتذاراته، واعدا أن يحضر المسؤولين عن الاقتحام للعدالة. لكن الخراب حصل، كما أن قرار السعودية بقطع العلاقات مع إيران تبعته خطوات أخرى خاصة من دول الخليج. إذن وجدت إيران نفسها في وضع صعب لم تكن تتوقعه، بل كانت تعد نفسها لمرحلة ما بعد العقوبات وإنعاش الاقتصاد وجذب الاستثمارات والتوسع في العلاقات مع أوروبا خاصة. لكن حادثة كهذه بالتأكيد ستدعو كثيرا من الدول إلى إعادة النظر في العلاقات مع إيران على ضوء مثل هذه المسلكية الطائشة.
بين السعودية وإيران ما لا تغيره ردات الفعل
لماذا تجنبت إيران انتقاد السعودية على ممارسة عقوبة الإعدام بحق 47 مواطنا سعوديا وركزت على موضوع إعدام الشيخ النمر؟ الجواب بكل بساطة لأنها تمارس الشيء نفسه بل وأسوأ منه. وإيران تحتل المرتبة الثانية في العالم بعد الصين. ففي عام 2014 كانت المسافة بين البلدين واسعة، حيث أعدمت إيران 289 على الأقل بينما أعدمت السعودية 90، إلا أن عام 2015 ارتفع الرقم عند السعودية ليصل إلى 152 بينما بقي الرقم الإيراني يراوح في الخانة نفسها. وإيران تتصيد علماء السنة وناشطيهم من منطقة الأحواز وتقدمهم لمحاكم صورية وينتهي الأمر إلى الإعدام.
كلا البلدين يعدم تجار مروجي المخدرات أو المتعاطين، وبعض جرائم السرقة ومعارضي النظام ومن يزدري الأديان والزنا والسطو المسلح والاغتصاب والسحر والشعوذة والإلحاد. كلا البلدين يغلق كافة أبواب النقد وحرية التعبير والتجمع، وكلا البلدين تتحكم المؤسسة الدينية فيه في كثير من القرارات حتى لو أن الطبقة السياسية لا تتفق مع ذلك التوجه. وكلا البلدين تحتل المرأة من حيث الحقوق الدرك الأدنى على سلم المؤشرات التي تقيس المساواة بين الرجل والمرأة في العالم. السعودية تدعي تمثيل المذهب السني وإيران تدعي أنها الممثل الشرعي للمذهب الشيعي، وكلا البلدين يدعي أنه يحكم بالشريعة. طبعا لا يوجد دستور في السعودية ويعتبر القرآن هو الدستور، بينما استطاعت إيران أن تجد خيطا رفيعا يفصل بين الدولة كجهاز يتعامل مع الحياة اليومية وبين الدين كمرجعية مطلقة، فالدولة تمارس الانتخابات وتكتب الدستور وتعدله وتتصارع التيارات المختلفة للوصول إلى البرلمان، بينما تبقى المؤسسة الدينية تراقب وتصحح وتقبل وترفض وتلغي وتوافق. استطاعت إيران أن تجمع بين المؤسستين في نظام واحد لكن القرار النهائي ليس للرئيس، بل للفقيه.
ولو وضعنا مواصفات النظامين على ورقة بدون ذكر اسم الدولة وطلبنا من مجموعة خارج الإطار الثقافي أن يكتبوا اسم البلد لجاءت النتائج تقريبا متساوية بين من اختار إيران أو السعودية.
البلدان بحاجة إلى إصلاح حقيقي يخرج من أسلوب الحكم فيهما هذه المسلكية الرعناء سواء ما تمثل بإعدام 47 شخصا مرة واحدة، أو الإقدام على اقتحام السفارات وحرقها.
محاضر بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرزي
د. عبد الحميد صيام
مقالة محايدة ورائعه
الفرق بين إيران والسعودية هو بعدم وجود ولي فقيه بالسعودية
لكن هيئة كبار العلماء بالسعودية هي بيد الملك نفسه
الشيخ النمر أعدم بسبب آرائه السياسية
وكذلك شيوخ السنة بإيران
ولا حول ولا قوة الا بالله
مقال رائع،
اعتقد ان التفسير الوحيد لتصرف السعودية هو توجيه رسالة ردع داخلية و ذلك بالظهور بمظهر القوي الشرس الذي لا يتورع عن انزال اقسى العقوبات بمن تحدثه نفسه بالتمرد لا سيما مع الضعف الظاهر للنظام. هذا الضعف المتمثل بفشل الحرب في اليمن و فشل التدخل في سوريا و عجز الموازنة و انسحاب امريكا من المنطقة يضاف اليه تقديم ابن الملك على الكثير من الامراء الاكبر و الاقدر مما لا يريح العائلة .
و اعتقد ايضا ان قرار الاعدام لم يكن يحسب رد الفعل الايراني و لا غيره و ان التوقيت في بداية العام الجديد هو بسبب ما تردد كثيرا من اعدام السعودية اكثر من 150 شخصا في عام 2015 فتم تأجيل الاعدامات الى العام الجديد.
للاسف هناك تخبط من اول التغييرات الواسعة التي تمت عشية تولي الملك الى قرار الحرب في اليمن الى التدخلات المترددة في سوريا.
من أروع وأدق وأنزه ما قرأت وسمعت بخصوص هذا الموضوع.
اعجبتني مشاركتك في برنامج العربي حول دور الامم المتحدة في مأساة مضايا وكنت غااااية في الاتزان والإقناع.
تحية اكبار لكم استاذ عبد الحميد صيام.
ملاحظة صغيرة وهامة مقتدى الصدر ليس ابن محمد باقر الصدر بل ابن محمد صادق الصدر….وشتان بينهما…